وذكر توليهم للكافرين من دون المؤمنين كيدا لهؤلاء والتماسا للعزة عند الكافرين.
وذكر أنهم إذا قاموا للصلاة قاموا كسالى؛ لأن صلاتهم ليست صلاة صدق وإنما صلاة خداع ورياء؛ فهم يراءون الناس ليكفوا أيدي المسلمين عنهم، وهم يخادعون الله والله خادعهم، وهم مذبذبون بين الإيمان والكفر. ليسوا مع المؤمنين تأبى عليهم ذلك قلوبهم المدخولة وليسوا مع الكافرين صراحة يخافون أن يجعلوا للمؤمنين عليهم سبيلا، وهم يحاولون أن ينتفعوا بذبذبتهم هذه. فإذا أتيح النصر للمؤمنين قالوا: ألم نكن معكم؟ لينتفعوا بثمرة الفتح، وإن يكن شيء من النصر للكافرين قالوا: ألم نحطكم ونحمكم من المؤمنين؟ يريدون أن ينتفعوا من انتصار الكفار. وهم يستهزئون بآيات الله إذا خلوا إلى أنفسهم والله يحذر المؤمنين إن سمعوا بعض هذا الاستهزاء أن يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره حتى لا يكونوا مثلهم ولا يلقوا مثل ما يلقى المنافقون من العذاب؛ لأن الله سيجمع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا.
والله يأمر نبيه أن يبشر المنافقين بالعذاب الأليم، ويعلن أنهم في الدرك الأسفل من النار، وأنهم لم يجدوا من ينصرهم أو يرد عنهم هذا العذاب.
والله يقول في هذا كله:
إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا * بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما * الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا * وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا * الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا * إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا * مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا * يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا * إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا * إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما * ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما .
فانظر كيف ذكر أمرهم على هذه الصورة من النكر والبشاعة ومن الكفر والغدر، وكيف أنذرهم هذا النذير الشديد بالعذاب الأليم وبأنهم في الدرك الأسفل من النار لا يجدون لهم نصيرا، ثم عاد بعد هذا الوصف القوي الموئس ففتح باب الأمل أمامهم وأعلن أن من تاب منهم وأصلح واعتصم بالله وأخلص له دينه فهؤلاء مع المؤمنين. والله يعد للمؤمنين أجرا عظيما.
وكذلك القرآن يشدد النكير على المنافقين وعلى الذين يقترفون الآثام ويجترحون الكبائر حتى يشرف بهم على اليأس، ثم يفتح لهم بعد ذلك أبواب الأمل واسعة ويجعل التوبة الخالصة الصادقة النصوح سبيلهم إلى الأمل في النجاة، بل في أكثر من النجاة في الاستمتاع بما أعد الله للمؤمنين الصادقين الناصحين من النعيم.
كان المنافقون إذن خطرا أيام السلم وكانوا أشد خطورة أيام الحرب؛ فهم كانوا أضعف إيمانا بالله والرسول والدين من أن يقاتلوا العدو على بصيرة إذا لقوه، وأن يثبتوا له إذا أغار عليهم في المدينة، وهم كانوا يظهرون هذا الضعف ولا يخفونه، وكانوا حين يجد الجد لا يجدون حرجا ولا حياء في أن يظهروا الجبن وما يستتبع الجبن من انخلاع القلوب واضطراب النفوس وضمور العزائم وفتور الهمم وانهيار الصبر على المقاومة.
وهم كانوا بذلك ينشرون الخوف ويشيعون الذعر بين ذوي قربانهم وجوارهم من المسلمين؛ وأي شر في أوقات الحرب أعظم خطرا من انقسام الجيش المحارب أمام العدو وفي أوقات الحصار خاصة إلى فريقين، فريق يستقبل العدو في ثقة بالله وإيمان بوعده، وفريق آخر يظهر الجبن ويحتال للفرار ما وجد إلى الفرار سبيلا، ثم يشكك في عواقب الحرب ويملأ قلوب المدنيين فرقا وخوفا.
وكذلك صنع المنافقون في غزو الأحزاب: خرجوا مع النبي وأصحابه لمواجهة العدو، فلما رأوا كثرته وما ظهر من قوته وبأسه، ورأوا أن المشركين لا يأتون المدينة من قبل مكة فحسب وإنما يأتونها من مكة ومن نجد، يأتونها من فوقها ومن أسفل منها، انخلعت قلوبهم وأخذ الرعب منهم كل مأخذ، وملك عليهم الهلع أمرهم كله حتى منعهم من الاحتياط في القول والعمل، فقال بعضهم - كما نقرأ في سورة الأحزاب:
صفحة غير معروفة