وكانوا يجادلونه في البعث أشد الجدال، يقولون - كما يحكي عنهم القرآن الكريم في سورة الإسراء:
أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا ، فكان الجواب حاضرا كذلك من القرآن في السورة نفسها:
قل كونوا حجارة أو حديدا * أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رءوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا * يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا .
كان إذن يخوفهم قيام الساعة، ويخوفهم البعث والحساب، ويخوفهم العذاب الذي أعد للمشركين والمذنبين، وكان يخوفهم أشياء أخرى أيضا: يخوفهم أن يجري عليهم مثل ما جرى على أمم من قبلهم، جاءتهم رسلهم بالبينات فكذبوهم وقالوا فيهم مثل ما تقول قريش فيه، قالوا: إن بهم جنة. وقالوا: إنهم مسحورون. وقتلوا بعضهم، وأنذروا بعضهم بالقتل فصب عليهم عذاب عاجل في هذه الحياة الدنيا توطئة لما أعد لهم من عذاب آجل خالد في الحياة الآخرة.
كان يقص عليهم أمر الطوفان الذي أغرق العصاة من قوم نوح، ويقص عليهم أمر الريح التي أهلكت عادا حين عصوا أخاهم هودا، وأمر الصيحة التي أهلكت ثمود حين عصوا أخاهم صالحا، ويقص عليهم ما جرى على قوم لوط حين أمطرتهم السماء حجارة مسومة، ويقص عليهم ما جرى على أهل مدين حين أهلكتهم الرجفة لما عصوا شعيبا، ثم يقص عليهم في تفصيل ما أصاب فرعون وقومه حين عصوا موسى. وكان يأمرهم أن يسيروا في الأرض لينظروا كيف كانت عاقبة المفسدين، وكان يخوفهم أن يلم بهم مثل ما ألم بهذه الأمم من ألوان العذاب في الدنيا إلى ما ينتظرهم في الآخرة من العذاب المقيم.
يتلو عليهم هذا كله من القرآن فيسمعون أحيانا، ويسخرون ويجادلون ويعرضون أحيانا ويأبون أن يسمعوا ويعقلوا. وكان يتلو عليهم من القرآن خلق آدم وإسكانه هو وامرأته الجنة، ونهيه إياهما أن يقربا الشجرة المحرمة وإغراء الشيطان لهما بالمعصية وإخراجهما من الجنة. ويقص عليهم كذلك من أخبار السماء ما كان من مجاهرة إبليس بالمعصية وإبائه أن يسجد إعظاما لخلق آدم كما سجدت الملائكة، وما حل به من غضب الله عليه، وما زعم من أنه سيفسد ولد آدم وسيحملهم على المعصية؛ في أشياء أخرى كثيرة كان يقصها عليهم يعظهم بها لعلهم أن يهتدوا. فلا يحفلون بشيء مما يسمعون إلا هذه القلة القليلة التي كانت روعة القرآن تبهر قلوبهم.
وكانت قوة الحجة تسحر عقولهم فيؤمنون جهرا أو سرا، كالذي كان من أمر عمر - رحمه الله - حين أنبئ بأن أخته وزوجها قد أسلما، وقد ألقي إليه هذا النبأ وهو في طريقه إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
ليبطش به فيما زعم. فلما سمع من أمر أخته وزوجها عدل إليهما ليبدأ بهما، ولكنه ينتهي إلى أن يقرأ عندهما الآيات الأولى من سورة طه فيلين قلبه بعد قسوة وترق نفسه بعد غلظة؛ وإذا هو يذهب إلى النبي لا ليقتله بل ليشهده على أنه مؤمن بالله وبأن محمدا رسوله.
وكذلك جرت الأمور بين النبي وأصحابه وبين قريش: جهاد لا ينقضي، وجدال لا يكاد ينقطع، واتصال للوحي أثناء ذلك، وتلاوة لهذا القرآن الذي كان يوحى إلى النبي، واجتماع إلى أصحابه قبل أن يهاجروا إلى الحبشة وبمن بقي منهم معه بعد أن هاجر أصحابه، يعلمهم الدين ويقرئهم القرآن، وينصح لهم في أمر دنياهم كما ينصح لهم في أمر دينهم.
صفحة غير معروفة