ومهما يكن من شيء فقد كان أهل الوبر وأهل المدر سواء في وثنيتهم تلك الغليظة، لم يكادوا يتأثرون تأثرا ذا بال بمن جاورهم من اليهود والنصارى، وعسى أن يكون اليهود والنصارى الذين استقروا بين العرب هم الذين تأثروا بالحياة العربية وغلظها وما كان يشوبها من العادات والأخلاق.
فقد يكون من النافع حقا أن نقيس نصرانية نجران إلى النصرانية التي كانت منتشرة في البلاد المتحضرة، وأن نقيس يهودية يثرب وخيبر إلى يهودية اليهود الذين كانوا متفرقين في البلاد المتحضرة أيضا. كلا الدينين انقطعت الصلة أو كادت تنقطع بينه وبين الذين كانوا يقومون عليه من الأحبار فتبدى، وإن استقر في هذه القرى؛ لأن هذه القرى نفسها كانت أقرب إلى البداوة منها إلى الحضارة.
وعلى كل حال فلم يكد العرب ينتفعون بما كان بينهم وبين اليهود والنصارى من اتصال، وإنما ظلوا كما كانوا حتى جاءهم دينهم الجديد.
9
وكان بين قريش رجل من أشرافهم يتجر كما يتجرون، ويحضر مجالسهم في المسجد وفي دار الندوة، هو عبد المطلب بن هاشم، ولكنه كان يمتاز من قومه بكثير من الوقار وميل إلى الدين والنسك، يعظم ما كان قومه يعظمون من هذه الآلهة، ولكن عن إخلاص وصدق لا عن تكلف ورياء. وقد أتيحت له أشياء زادته امتيازا من قومه فخاصموه أول الأمر ثم أكبروه بعد ذلك؛ فهو قد احتفر بئر زمزم.
وحدث أصحاب الأخبار بأنه لم يحتفرها من عند نفسه وإنما أتاه آت في نومه فأمره باحتفارها وبين له مكانها، فأقبل على ما أمر به حتى أنفذه.
ويقول أصحاب الأخبار إنه وجد كنزا أثناء احتفار البئر قبل أن يصل إلى الماء فخاصمته فيه قريش؛ فجعله للكعبة ولم يأخذ هو ولا غيره منه شيئا، ثم أنبط الماء فخاصمته فيه قريش ترى أن البئر لها، ويرى هو أنها له؛ لأنه احتفرها بيده وأنبط ماءها بحهده . ولجت قريش في الخصومة - فيما يقول أصحاب الأخبار - حتى أجمعوا إلى أن يحتكموا إلى أحد الكهان فأوفدوا مع عبد المطلب وفدا يخاصمونه إلى ذلك الكاهن، ولكنهم لم يحتاجوا إلى هذا الاحتكام؛ لأن آية ظهرت لهم في الطريق أقنعتهم بأن عبد المطلب ليس متكذبا ولا متكلفا.
قال الرواة: وفي أثناء هذه الخصومة أحس عبد المطلب أنه وحيد ليس له من الولد من ينصرونه؛ فنذر لئن أتيح له عشرة منهم ليقربن أحدهم إلى الآلهة.
وقد أتيح له عشرة من الولد فأزمع أن يقرب أحدهم وهم بذلك، ولكن قريشا أبت عليه؛ لأنها استبشعت عمله هذا. وما زالت به حتى أقنعته بأن يقرع بين ابنه وبين عشرة عشرة من الإبل، فجعل كلما أقرع خرج السهم على ابنه حتى بلغت الإبل مائة فقربها إلى الآلهة ونجا ابنه ذاك الفتى.
فإذا صورت هذه القصة شيئا فإنما تصور نزوع عبد المطلب إلى شيء من الدين وإخلاصه فيه وإسماحه في سبيله بالولد والمال جميعا، وتصور كذلك عزوف قريش عن المفظع من الأمر، وإنكارها في عنف وإلحاح هذا القربان البشع الذي يضحى فيه بالإنسان للآلهة.
صفحة غير معروفة