وهنا قال الزهري في صوت خافت: يرى بعض المفسرين في قوله تعالى:
ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس
أن المعنى: لا تجعلوا القسم بالله حائلا بينكم وبين البر والتقوى والإصلاح بين الناس، فإذا حلف رجل أن يأتي منكرا وجب عليه أن ينقض يمينه، ويكفر عنها. فقال ابن عنبسة: هذا تفسير عظيم، وأسرع هشام فقال: إذا أنا في حل من هذه الأيمان، ولم يبق إلا أن نكتب ميثاقا ندون فيه مساوئ الوليد ومثالبه، وأنه لا يصلح للخلافة، ونثبت فيه محامد مسلمة ومناقبه، وأنه خير من يقوم بها من بني أمية، وأن أمير المؤمنين لكل هذا خلع الوليد من ولاية العهد، ونقلها إلى مسلمة، أين سالم أبو العلاء؟ فتحرك العباس بن الوليد في مجلسه قليلا، وهو يكبت غيظا دفينا، وقال: قبل أن تدعو كاتبك يا أمير المؤمنين أرى أن نبحث في الأمر حتى نصل فيه إلى غاية تثلج الصدر، وتبدد الشكوك.
فأجاب هشام غاضبا: ألم نمحص الأمر بحثا ودراية؟ ألم يصبح عبث الوليد حديث الناس، ومسلاتهم في أسمارهم؟ أليس ابني مسلمة في دينه وعقله خيرا ألف مرة من الوليد؟ فأجاب العباس: إن الأمر يا أمير المؤمنين أعظم خطرا من أن نتقنع فيه بالحياء، وأجل شأنا من أن نجتذب فيه رضاك، أو نجتنب فيه سخطك، أنا شاك غير مستيقن بكل ما قلتم، فلا الوليد قد وصل إلى تلك الهاوية التي زعمتم، ولا مسلمة قد بلغ تلك القمة من الصيانة والتقوى، ولا تلك الأيمان التي وكدتها لأخيك أصبحت لغوا فصرت في حل من نقضها؛ فبهت من بالمجلس، واصفر وجه هشام، واحمرت عيناه من الغيظ، وضرب عرق صدغه، وانتفض وصاح حتى ملأ صوته القاعة: هكذا أنتم دائما يا أولاد الوليد بن عبد الملك! تحقدون علي وعلى أولادي، ولقد كاد يسلبكم الضغن عقولكم حين ازور عنكم وجه الخلافة بعد أن تجاذبتم أطرافها، فأصبحتم تعدون علينا الأيام، وتتمنون أن تتقلص عنا ظلالها، إنكم أعظم كيدا للخلافة، وأكثر عدوانا عليها من العباسيين، والعلويين، والترك، والدليم، ووالله لولا خشية منه، ولولا أن يقول الناس حارب هشام أهل بيته لبدأت بكم قبل أن أبدأ بمقاتلة المتألبين على الدولة من الخوارج، أما قولك: إنك في شك من الأمر فباطل يراد به إزهاق الحق، وإطلاق شيطان الفتنة من عقاله؛ ليعيث معكم في الدولة كما تعيثون.
فوقف يزيد بن خالد وقفة المناضل المتحدي وقال: مهلا يا أمير المؤمنين، فنقل الخلافة من رجل إلى رجل أمر جلل، لا يكفي فيه أن يكون أمير المؤمنين ساخطا على هذا، أو راضيا على ذاك، لقد قال العباس حقا، وإن رأى من تجمعهم اليوم من أنصارك لا يكفي لإقناع الأمة، وحملها على نبذ العهد الذي عاهدتك عليه، والأمر شديد الخطر على أمير المؤمنين قبل أن يكون شديد الخطر على الوليد، لقد بايعك الناس في عهد واحد وفي ميثاق واحد على أمرين لا على أمر واحد: بايعوك بالخلافة، وبايعوك على أن تكون الخلافة من بعدك للوليد بن يزيد، فإذا نقضت بعض العهد يا أمير المؤمنين انتقض كله، وتحلل الناس من البيعة لك، وصح لكل خارج عليك، أو ضجر حكمك أن يصيح في الناس: أيها المسلمون، إن هشاما نقض العهد الذي بينه وبينكم، فليس له في رقابكم بيعة، أتريد أن يحصل هذا يا أمير المؤمنين؟ أتريد أن توقظ راقد الفتنة، وتعيد أيام صفين حين احتكم المسلمون إلى سيوفهم في شأن الخلافة؟ إن هؤلاء يا أمير المؤمنين الذين يزينون لك ما تحب، ويقربون لك الأقصى مما تريد، أعداء في ثياب أصدقاء، أو مخبولون في مسوح عقلاء، ثم من هم أبناء الوليد الذين يكيدون لك ويدبرون السوء لدولتك؟ أتستطيع أن تشير إلى واحد منهم عن بينة ويقين؟ دعك من كل هذا يا أمير المؤمنين، واترك الأمر كما هو، فلسنا في حاجة إلى فتن جديدة نشعلها بين الناس، فإن الفتن تنبث في كل مكان، وإن تحت الرماد للهيبا وضراما.
وما كاد يسكت حتى ابتدره ابن عنبسة قائلا: ما هذا التهويل يا ابن خالد، أنا أعرف صلتك بالوليد، ومحبتك له، وتهاديكما الجواري الحسان، أعرف أنك تطمع أنت والعباس في أن يكون لكما شأن في خلافته بعد أن انبت بكما الحبل في هذه الدولة، ثم ما أخلوقة البيعة هذه التي إذا انتقض بعضها انتقض كلها، وهنا تمتم الإمام الزهري قائلا: إن ما قاله ابن خالد حق؛ لأن الجزأين متلازمان، وقد تفهم البيعة على وجه آخر، هو أن الناس بايعوا هشاما بالخلافة شريطة أن يتركها بعده للوليد، فإذا أقصى الوليد عن ولاية العهد فقد نقض شرط ما بايعوه عليه، وبهذا تسقط بيعته من أعناقهم؛ فوجم هشام، وجف ريقه، وظهرت الحيرة على وجوه أنصاره، وهنا قال العباس: قلت: إن عندي شكا، ولم أكن في هذا القول كاذبا ولا متجنيا، إن أكثر ما يشاع عن الوليد إفك ومين، وهي أكاذيب ولع الناس بها، واختلقها قوم لهم في اختلاقها مأرب ومغنم؛ فعجل الزهري وقال: لا يا ابن الوليد، لقد رأيته بعيني وحوله القيان ينقرن الدفوف، والمغنون يضربون على البرابط والطنابير. - هذا يا مولانا أمر لا يخلو منه قصر من قصور بني أمية، ثم التفت إلى هشام قائلا: ثم إني لا أعرف من رجال بني أمية من يبغض الوليد إلا القليل ممن يحيطون بهذا القصر، ويتزلفون إلى صاحبه، ولو أنك يا أمير المؤمنين خلعت الوليد لأثرت فتنة شعواء في حياتك، وفرقت كلمة المسلمين بعد مماتك؛ فإني أرى بعين الغضب - وأطال الله بقاء أمير المؤمنين - أن الناس سيختلفون بعد موتك، وسوف يعد كثير منهم نقضك الولاية للوليد أمرا باطلا، فينصرفون إليه، ويبقى فريق مع مسلمة، ويتقاتل الفريقان، ويأتي العباسيون فيضربون هذا بذاك، ويختطفون الخلافة من أيديهم، يا أمير المؤمنين: دع الأمر كما هو، ودع كلاب الفتنة نائمة، فإني أخشى أن نكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، والله يعلم أني لك ناصح، وعلى خير المسلمين أمين.
فانتفض هشام واقفا وقال: اذهبوا عني الآن، فإن عقلي يكاد يطير من رأسي، اذهبوا فللخلافة رب يحميها، وأين هشام إذا أراد أمرا، وأراد الله غيره؟ فانصرف القوم في وجل ورهبة، وبقي ابن عنبسة متخلفا، فلما خلت القاعة التفت إليه هشام وقال في ألم ممض: طار العصفور من أيدينا، وبقي على دوحته ينظر إلينا مغردا ساخرا، لقد خاب الأمل في بني أمية. - دعه يغرد قليلا يا أمير المؤمنين، فإننا سنعد له بعد قليل فخا وسكينا. - كيف يا ابن عنبسة؟ - إذا لم نستطع خلعه من ولاية العهد استطعنا خلعه من الحياة. - معاذ الله أن أمد يدي إلى الوليد بسوء، لا تفكر في شيء من هذا يا ابن عنبسة، أتريد أن تجعلني أحدوثة في الناس، وأن يقول القالة: إن هشاما قتل ابن أخيه؟
لن يكون لك يا أمير المؤمنين في هذا الأمر ورد ولا صدر، وإنما:
هو الموت يعتام الكرام ويصطفي
عقيلة مال الفاحش المتشدد - لا، لا، يا يزيد، وإياك أن تقتل نفسا حرم الله إلا بالحق. - لقد كنت أفكر يا أمير المؤمنين في التخلص من الوليد، لا لأنه يزاحم مسلمة في الخلافة فحسب، بل لأنه يزاحمني في سلمى بنت سعيد. - لقد حلت بينه وبين هذه الأمنية، وأمرت سعيدا ألا يرضى به زوجا لبنته. - من يدري يا أمير المؤمنين؟ فإن الأحوال قد تحول، وقد يصبح سعيدا له راجيا بعد أن كان آبيا. - ماذا تريد أن تقول لا أم لك؟ - أطال الله حياة أمير المؤمنين، ومد في عمره. - سمعت هذه الدعوات من آلاف الآلاف من الناس، ولكن الدعاء لا يمنع القدر. - إن لكل نفس أجلا يا أمير المؤمنين، لا تستقدم عنه ساعة، ولا تستأخر. - دعك من ذكر الموت، وخض في حديث آخر. - كانت لي جارية اسمها «صدوف» يا أمير المؤمنين، اشتراها مني الوليد من خمس سنوات، وهي لا تزال تهفو إلي، وتحن إلى ذكراي، وتنقل لي أخباره، ولو أني أمرتها أن تثب في النار، أو تنام في خيس الأسد لفعلت مطيعة راضية، وقد كنت أريد إغراءها بقتل الوليد قبل أن يستنكره أمير المؤمنين، وينهى عنه، وأمير المؤمنين واجب الطاعة، وقد كان الأمر جد هين، فإن مروان بن الحكم الذي كانت تنتفض منه قلوب الأبطال رعبا لم يقتله إلا امرأة هي زوجه أم خالد، فقد وضعت على وجهه وسادة وهو نائم، فلم ترفعها عنه حتى مات؛ فأغمض هشام عينيه وغادر الحجرة غاضبا وهو يقول: احذر يا ابن عنبسة أن تدنس يديك بالدماء! إني أنهاك ... إني أنهاك!
صفحة غير معروفة