من بعض فيقطع الأرحام ويسفك الدماء ويهلك الحرث أي الزرع بالإحراق والنسل أي الحيوان بالقتل، فإن الأخنس لما انصرف من بدر مر ببني زهرة وكان بينه وبين ثقيف خصومة فبيتهم ليلا، فأحرق زرعهم وأهلك مواشيهم. والله لا يحب الفساد (205) أي لا يرضى به وإذا قيل له أي لذلك الإنسان اتق الله في فعلك أخذته العزة بالإثم أي لزمه التكبر الحاصل بالإثم الذي في قلبه. فإن التكبر إنما حصل بسبب ما في قلبه من الكفر والجهل وعدم النظر في الدلائل فحسبه جهنم أي كافيه جهنم جزاء له وعذابا ولبئس المهاد (206) أي لبئس المستقر هي. ومن الناس من يشري أي يشتري نفسه بماله ابتغاء مرضات الله.
روي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في صهيب بن سنان مولى عبد الله بن جدعان، وفي عمار بن ياسر، وفي سمية أمه وفي ياسر أبيه، وفي بلال مولى أبي بكر، وفي خباب بن الإرث، وفي أبي ذر، وفي عابس مولى حويطب أخذهم المشركون فعذبوهم. فأما صهيب فقال لأهل مكة: إني شيخ كبير ولي مال ومتاع وأنا أعطيكم مالي ومتاعي وأشتري منكم ديني. فرضوا منه بذلك وخلوا سبيله فانصرف إلى المدينة فنزلت هذه الآية. وعند دخول صهيب المدينة لقيه أبو بكر رضي الله عنه فقال: ربح بيعك يا أبا يحيى. فقال: وما ذاك؟ فقال: أنزل الله فيك قرآنا، وقرأ عليه هذه الآية. وأما خباب بن الأرت وأبو ذر فقد فرا وأتيا المدينة، وأما سمية فربطت بين بعيرين ثم قتلت وقتل ياسر، وأما الباقون فأعطوا بسبب العذاب بعض ما أراد المشركون فتركوا والله رؤف بالعباد (207) الذين قتلوا في مكة أبي عمار وأمه
وغيرهما لأنه تعالى أرشدهم لما فيه رضاه. يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة نزلت هذه الآية في شأن طائفة من مسلمي أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه، وذلك لأنهم حين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم أقاموا بعده على تعظيم شرائع موسى، فعظموا السبت وكرهوا لحوم الإبل وألبانها وكانوا يقولون: ترك هذه الأشياء مباح في الإسلام وواجب في التوراة فنحن نتركها احتياطا فكره الله تعالى ذلك منهم وأمرهم أن يدخلوا في السلم كافة ولا يتمسكوا بشيء من أحكام التوراة اعتقادا له وعملا به لأنها صارت منسوخة. ولا تتبعوا خطوات الشيطان أي لا تتبعوا طرق تزيين الشيطان بتفريق الأحكام بالعمل ببعضها الموافق لشريعة موسى وعدم العمل بالبعض الآخر المخالف لها إنه لكم عدو مبين (208) أي ظاهر العداوة فإن زللتم أي إن انحرفتم عن الطريق الذي أمرتم به من بعد ما جاءتكم البينات أي الدلائل العقلية والنقلية كالمعجزة الدالة على الصدق وكالبيان الحاصل بالقرآن والسنة فاعلموا أن الله عزيز أي قوي بالنقمة لمن لا يتابع رسوله فلا يمنعه مانع عنكم ولا يفوته ما يريده منكم حكيم (209) أي عالم بعواقب الأمور هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة أي ما ينظر أهل مكة إلا أن يأتيهم الله بلا كيف يوم القيامة والملائكة في ظل من الغمام فقوله: في ظلل من الغمام والملائكة مقدم ومؤخر،
صفحة ٦٩