ولا تزال ذكرى الأم تؤنس حياتنا بعد موتها، وتثير في أنفسنا إحساسات الرحمة والحب والشرف والإنسانية. ولا يستطيع إنسان أن يكون دنسا أو خسيسا إذا مثلت أمه في ذاكرته.
ونحن نعيب على الأمهات تدليلهن للأطفال، وهذا حق إذا كان هذا التدليل مسرفا. ولكن من منا لا يذكر بالهناء والفرح تلك اللحظات التي وجد فيها من أمه، وهو طفل، بعض هذا التدليل؟
وأكاد لذلك أن أقول إن شيئا من التدليل يمكن أن يعد حسنا؛ وذلك كي يبقى رصيدا نفسيا نذكر به الأم ونصبو به إلى أيام طفولتنا ونشكر للأقدار ما أسدت إلينا من سعادة.
وإني لأعرف شيوخا وكهولا في الخمسين والستين من أعمارهم إذا ذكروا أمهاتهم ضحكوا ومرحوا كما لو كانوا أطفالا. وعندما أتأمل هذا السلوك أكاد أتساءل: هل نحن نخرج من المهد؟ ألا نعيش فيه طيلة حياتنا من حيث لا ندري؟ أليست عواطفنا ونحن في الخمسين أو الستين من العمر تعود إلى البذور التي زرعتها الأم في قلوبنا أيام طفولتنا؟
وزرعتها في شيء من التدليل المحبب؛ ولذلك بقيت ثابتة محببة إلى نفوسنا.
إن كثيرا من الكتاب يتحدثون عن السعادة ويذكرون ما يجب وما لا يجب لتحقيقها، وكأنهم ينسون أن الذي يزرع بذور السعادة هو الأم، وأن ذكرياتنا للأمومة هي أكبر دعائم سعادتنا، وأن كثيرا مما نرى في الدنيا إنما نراه بعينيها، وأننا نشهد على الأشياء والناس بضميرها.
وأكبر كارثة تقع بإنسان أن تموت أمه أو تنفصل منه بطلاق وهو طفل؛ إذ هو يحيا بعد ذلك بلا ذكريات حميمة، وبلا روابط أصيلة تربطه بالمجتمع، وقد ينجح في إيجاد روابط جديدة حين يجد أما أخرى قد بسطت عليه أمومتها.
ولكنه، إذا لم يجد هذه الأم المستعارة، يبقى شقيا؛ إذ هو يرى الأثرة ولا يعرف الإيثار، ويجد الخاطفين ولا يجد العاطفين، وتغيب عنه رمزية البيت. كما أنه يعجز عن أن يضفي على زوجته ذلك الإحساس الإيثاري الذي كان يضفيه على أمه.
وعلى ذكر الزوجة وعلاقتها بالأم - أي أم الزوج - نحتاج إلى بيان منير.
ذلك أننا حين نكون على ثديي الأم نحب وجهها ونشغف به، وننشأ ونحن نعد هذا الطراز من الوجه خلاصة الجمال النسوي. فإذا بلغنا ونضجنا صرنا لا نلتفت إلى أفراد الجنس الآخر إلا إذا كن على طراز أمهاتنا في الوجه والقامة، بل في الصوت والإيماءة.
صفحة غير معروفة