وكانوا عظيمي القوة مفتولي السواعد، وكانت أسلحتهم ومنازلهم من النحاس وكذا باقي معداتهم.
لم يكن للحديد الأسود وجود في ذلك العصر، ولكنهم ما إن دمروا هذه المعدات بأيديهم حتى انتقلوا إلى زمهرير الجحيم في دارها الرطبة دون أن يتركوا وراءهم أي شيء يخلد ذكرهم، ورغم ما كانوا عليه من شدة وبأس، فقد أمسك الموت بتلابيبهم، حتى غابوا عن الشمس وعن شعاعها اللامع.
ما إن اندثر هذا الجيل أيضا، حتى عاد زوس، فصنع من جديد جيلا آخر، أكثر نبلا وعدلا من سابقه، ذلك هو الجيل الرابع على الأرض الخصبة، جيل يشبه أبطال الآلهة الذين يدعون «أنصاف الآلهة»، هو الجيل السابق لجيلنا من سكان الأرض الفسيحة الأرجاء، ولقد أهلك بعضهم البعض الآخر بالحرب الضروس في أرض كادموس قرب طيبة ذات الأبواب السبعة، وذلك عندما تقاتلوا من أجل قطيع أودييوس، والبعض الآخر عندما نقلتهم السفن عبر البحار الواسعة إلى مدينة طروادة من أجل هيلين الجميلة الفاتنة، ذات الشعور الذهبية الغزيرة والأنوثة الكاملة الجذابة.
حقا لقد هلك كثير منهم في تلك الحرب الشعواء الطاحنة، ولكن الأب زوس منح الحياة للبعض الآخر، كما وهبهم موطنا نائيا عن البشر، وأسكنهم عند نهاية الأرض في جزر المباركين قرب ساحل المحيط البعيد الغور، وكانت قلوبهم لا تعرف الهموم ولا الأحزان.
فعاشوا عيشة الأبطال السعداء، الذين كانت الأرض المثمرة تحمل فاكهتها الحلوة المذاق من أجلهم، وكانت الأرض تزهر ثلاث مرات في العام بعيدا عن الآلهة الخالدين.
وكان يدير شئونهم الرب كرونوس «الزمن» إذ أطلق أبو الآلهة سراحه وفك قيوده، وكان لهم شرف ومجد موزعان عليهم بالتساوي.
عاد زوس الثاقب النظر فصنع من جديد جيلا آخر هو الجيل الخامس من البشر، الذين يقيمون فوق الأرض الطيبة.
كان هذا العصر، هو عصر الحديد حقا، تدفقت فيه الجريمة كما تتدفق الفيضانات، أما العدالة والحق والشرف، فقد ولت الأدبار، وحل محلها الضغينة والحقد والخداع، والعنف ومحبة الربح الدنيء، لذا عمد البحارة إلى نشر أشرعة سفنهم للرياح، وقطعت الأشجار من الغابات لتصنع منها السفن التي تثير حنق سطح المحيط، أما الأرض - التي كانت حتى تلك الآونة تزرع وتفلح لمصلحة الجميع - فقد بدئ في تقسيمها إلى ممتلكات، ولم يعد الناس يقنعون بما تنبته لهم الأرض، فدفعتهم الضرورة إلى الوصول إلى باطنها حفرا وتنقيبا، ليخرجوا منها الجوهر والمعدن.
استخرج الإنسان الحديد الكثير الأذى، والذهب الذي يفوقه ضررا، ونشبت الحروب، واستخدموا هذه المواد فيها، ولم يعد الآباء يتفقون مع بنيهم، ولا الأبناء مع آبائهم، وكذلك الحال بين الضيف ومضيفه، والزميل وزميله، ولم يعد الأخ عزيزا على أخيه كسابق العهد، وما عاد الناس يحترمون والديهم إذا تقدمت بهم السن، بل صاروا يتأففون منهم وينهرونهم بجارح الألفاظ.
ولا يوفون آباءهم الشيوخ جميل ما أسدوه إليهم من رعاية وما لاقوه في تربيتهم صغارا.
صفحة غير معروفة