* بسم الله الرحمن الرحيم
( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ) ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) ( فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ) ( ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم )
القرآن الكريم
صفحة ٢٦
* نهضة الحسين (ع)
كان المغزى الوحيد لشهيد الدين ، وحامية الإسلام الحسين بن أمير المؤمنين (ع) إبطال احدوثة الامويين ، ودحض المعرات عن قدس الشريعة ، ولفت الأنظار إلى براءتها وبراءة الصادع بها عما ألصقوه بدينه ؛ من شية العار ، والبدع المخزية ، والفجور الظاهرة ، والسياسة القاسية (1). فنال سيد الشهداء (عليه السلام) مبتغاه بنهضته الكريمة ، وأوحى إلى الملأ الديني ما هنالك من مجون فاضح ، وعرف الناس (بيزيد المخازي) ومن لاث به من قادة الشر وجراثيم الفتن ، فمجتهم الأسماع ، ولم يبق في المسلمين إلا من يرميهم بنظرة شزراء حتى توقدت عليهم العزائم ، واحتدمت الحمية الدينية من اناس ونزعات من آخرين ، فاستحال الجدال جلادا ، وأعقبت بلهنية عيشهم حروبا دامية أجهزت على حياتهم ، ودمرت ملكهم المؤسس على أنقاض الخلافة الإسلامية من دون أية حنكة أو جدارة ، فأصاب هذا الفاتح الحسين (ع) شاكلة الغرض بذكره السائر ، وصيته الطائر ، ومجده المؤثل ، وشرفه المعلى ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ).
لا أجدك أيها القارىء وأنت تسبر التاريخ ، وتتحرى الحقائق بنظر التحليل ، إلا وقد تجلت لك نفسية (أبي الضيم) الشريفة ، ومغزاه المقدس ونواياه الصالحة ، وغاياته الكريمة في حله ومرتحله ، وفي إقدامه وإحجامه في دعواه ودعوته ، ولا أحسبك في حاجة إلى التعريف بتفاصيل تلكم الجمل بعد أن
صفحة ٢٧
عرفت أن شهيد العظمة من هو؟ وما هي أعماله؟ وبطبع الحال تعرف قبل كل شيء موقف مناوئه ، وما شيبت به نفسيته من المخازي.
نحن لو تجردنا عما نرتئيه (لحسين الصلاح) من الإمامة والحق الواضح الذي يقصر عنه في وقته أي ابن انثى لم تدع لنا النصفة مساغا لاحتمال مباراته في سيرة طاغية عصره ، أو أنه ينافسه على شيء من المفاخر. فإن سيد شباب أهل الجنة متى كان يرى له شيئا من الكفاءة حتى يتنازل إلى مجاراته؟ ولقد كان (ع) يربأ بنفسه الكريمة حتى عن مقابلة أسلافه.
أترى أن الحسين يقابل أبا سفيان بالنبي الكريم ، أو معاوية بأمير المؤمنين ، أو آكلة الأكباد بأم المؤمنين خديجة رضوان الله تعالى عليها ، أو ميسون بسيدة العالمين ، أو خلاعة الجاهلية بوحي الإسلام ، أو الجهل المطبق بعلمه المتدفق ، أو الشره المخزي بنزاهة نفسه المقدسة؟! إلى غيرها مما يكل عنه القلم ، ويضيق به الفم.
لقد كانت بين الله سبحانه وتعالى ، وبين اوليائه المخلصين أسرار غامضة تنبو عنها بصائر غيرهم ، وتنحسر أفكار القاصرين حتى أعمتهم العصبية؛ فتجرؤا على قدس المنقذ الأكبر ، وأبوا إلا الركون إلى التعصب الشائن ، فقالوا : إن الحسين قتل بسيف جده ؛ لأنه خرج على إمام زمانه (يزيد) بعد أن تمت البيعة له ، وكملت شروط الخلافة باجماع أهل الحل والعقد ، ولم يظهر منه ما يشينه ويزري به!! (1).
والعجب من التزامه بصحة خلافة يزيد وهو يقرأ حديث النبي (ص) لا يزال أمر امتي قائما بالقسط حتى يكون أول من يثلمه رجل من بني امية يقال له يزيد ، رواه ابن حجر في مجمع الزوائد ج 5 ص 241 عن مسند أبي يعلى والبزاز وفي الصواعق المحرقة ص 132 عن مسند الروياني عن أبي الدرداء عنه (ص): أول من يبدل سنتي رجل من بني امية يقال له يزيد وفي كتاب الفتن من صحيح البخاري باب قول النبي (ص): هلاك امتي على يدي اغيلمة من امتي عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله (ص) يقول : هلكة امتي على يدي غلمة من قريش ، قال ابن حجر في شرح الحديث من فتح الباري ج 13 ص 7 : كان أبو هريرة يمشي في السوق ويقول : اللهم لا تدركني سنة ستين ولا أمارة الصبيان قال ابن حجر : أشار بذلك إلى خلافة يزيد فإنها في سنة ستين ولم يتعقبه.
صفحة ٢٨
وقد غفل هذا القائل عن أن ابن ميسون لم يكن له يوم صلاح حتى يشينه ما يبدو منه! وليس لطاماته ومخازيه قبل وبعد وقد ارتضع در ثدي (الكلبية) المزيج بالشهوات ، وتربى في حجر من لعن على لسان الرسول الأقدس (1)، وأمر الامة بقتله متى شاهدته متسنما صهوة منبره! (2). ولو امتثلث الامة الأمر الواجب ؛ لأمنت العذاب الواصب ، المطل عليها من نافذة بدع الطاغية ، ومن جراء قسوته المبيدة لها ، لكنها كفرت بأنعم الله ، فطفقت تستمرء ذلك المورد الوبيء ذعافا ممقرا ؛ فألبسها الله لباس الخوف ، وتركها ترزح تحت نير الاضطهاد ، وترسف في قيود الذل والاستعباد ، ونصب عينها استهتار الماجنين وتهتك المنهمكين بالشهوات! وكلما تنضح به الآنية الاموية الممقوتة شب (يزيد الاهواء) بين هاتيك النواجم من مظاهر الخلاعة.
ولقد أعرب عن كل ما أضمره من النوايا السيئة على الإسلام ، والصادع به جذلا بخلاء الجو له ، فيقول العلامة الآلوسي :
من يقول إن يزيد لم يعص بذلك ولا يجوز لعنه ، فينبغي أن ينتظم في سلسلة أنصار يزيد ، وأنا أقول : إن الخبيث لم يكن مصدقا برسالة النبي (ص)، وإن مجموع ما فعله مع أهل حرم الله وأهل حرم نبيه (ص) وعترته الطيبين الطاهرين في الحياة وبعد الممات ، وما صدر منه من المخازي ، ليس بأضعف دلالة على عدم تصديقه من إلقاء ورقة من المصحف الشريف في قذر! ، ولا أظن أن أمره كان خافيا على أجلة المسلمين إذ ذاك ، ولكن كانوا مغلوبين مقهورين ، ولم يسعهم إلا الصبر. ولو سلم أن الخبيث كان مسلما ، فهو مسلم جمع من الكبائر ما لا يحيط
صفحة ٢٩
به نطاق البيان. وانا أذهب إلى جواز لعن مثله على التعيين ، ولو لم يتصور أن يكون له مثل من الفاسقين. والظاهر أنه لم يتب ، واحتمال توبته أضعف من إيمانه.
ويلحق به ابن زياد ، وابن سعد وجماعة ، فلعنة الله عليهم وعلى أنصارهم وأعوانهم وشيعتهم ومن مال إليهم إلى يوم الدين ، ما دمعت عين على أبي عبد الله الحسين (ع).
ويعجبني قول شاعر العصر ، ذي الفضل الجلي ، عبد الباقي افندي العمري الموصلي ، وقد سئل عن لعن يزيد ، فقال :
يزيد على لعني عريض جنابه
فاغدو به طول المدى العن اللعنا
ومن يخشى القيل والقال من التصريح بلعن ذلك الضليل ، فليقل : لعن الله عز وجل من رضي بقتل الحسين (ع)، ومن آذى عترة النبي (ص) بغير حق ، ومن غصبهم حقهم ، فإنه يكون لاعنا له ؛ لدخوله تحت العموم دخولا اوليا في نفس الأمر. ولا يخالف أحدا في جواز اللعن بهذه الألفاظ ونحوها ، سوى ابن العربي المار ذكره وموافقيه ، فإنهم على ظاهر ما نقل عنهم ، لا يجوزون لعن من رضي بقتل الحسين (عليه السلام)! وذلك لعمري هو الضلال البعيد الذي يكاد يزيد على ضلال يزيد!.
ثم قال : نقل البرزنجي في (الاشاعة)، والهيثمي في (الصواعق المحرقة)، أن الإمام أحمد لما سأله ابنه عبد الله عن لعن يزيد قال : كيف لا يلعن من لعنه الله في كتابه! فقال عبد الله : قرأت كتاب الله عز وجل فلم أجد فيه لعن يزيد! فقال الإمام : إن الله يقول : ( فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله )، وأي فساد وقطيعة أشد مما فعله يزيد!.
وقد جزم بكفره وصرح بلعنه جماعة من العلماء ، منهم : القاضي أبو يعلى ، والحافظ ابن الجوزي ، وقال التفتازاني : لا نتوقف في شأنه ، بل في إيمانه ، لعنة الله عليه وعلى أعوانه وأنصاره ، وصرح بلعنه جلال الدين السيوطي.
وفي تاريخ ابن الوردي ، والوافي بالوفيات : لما وردت على يزيد نساء الحسين وأطفاله ، والرؤوس على الرماح ، وقد أشرف على ثنية جيرون ونعب الغراب ، قال :
لما بدت تلك الحمول وأشرقت
تلك الشموس على ربى جيرون
صفحة ٣٠
يعني : أنه قتل بمن قتله رسول الله (ص) يوم بدر ؛ كجده عتبة وخاله ولد عتبة وغيرهما ، وهذا كفر صريح ، فاذا صح عنه ، فقد كفر به. ومثله تمثله بقول عبد الله بن الزبعرى قبل إسلامه ب (ليت أشياخي ببدر ...) الأبيات (1) ، إلى كثير من موبقاته وإلحاده ، فاستحق بذلك اللعن من الله وملائكته وأنبيائه ، ومن دان بهم من المؤمنين إلى يوم الدين. ولم يتوقف في ذلك إلا من حرم ريح الإيمان ، وأعمته العصبية عن السلوك في جادة الحق ؛ فأخذ يتردد في سيره ، حيران لا يهتدي إلى طريق ، ولا يخرج من مضيق.
ولم يتوقف المحققون من العلماء في كفره وزندقته ، فيقول ابن خلدون : غلط القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي ، إذ قال في كتابه (العواصم والقواصم): إن الحسين قتل بسيف شرعه ، غفلة عن اشتراط الإمام العادل في الخلافة الإسلامية! ومن أعدل من الحسين في زمانه وإمامته وعدالته في قتال أهل الآراء!؟. وفي الصفحة نفسها ذكر الاجماع على فسق يزيد ، ومعه لا يكون صالحا للإمامة ، ومن أجله كان الحسين (ع) يرى من المتعين الخروج عليه ، وقعود الصحابة والتابعين عن نصرة الحسين لا لعدم تصويب فعله ، بل لأنهم يرون عدم جواز اراقة الدماء ، فلا يجوز نصرة يزيد بقتال الحسين ، بل قتله من فعلات يزيد المؤكدة لفسقه والحسين فيها شهيد (2).
ويقول ابن مفلح الحنبلي : جوز ابن عقيل وابن الجوزي الخروج على الإمام غير العادل ، بدليل خروج الحسين على يزيد ؛ لاقامة الحق. وذكره ابن الجوزي في كتابه (السر المصون) من الاعتقادات العامية التي غلبت على جماعة من المنتسبين إلى السنة ، إنهم قالوا : كان يزيد على الصواب ، والحسين مخطئ في الخروج عليه. ولو نظروا في السير لعلموا كيف عقدت البيعة له والزم الناس بها ، ولقد فعل مع الناس في ذلك كل قبيح ، ثم لو قدرنا صحة خلافته ، فقد بدرت منه بوادر وظهرت منه أمور ، كل منها يوجب فسخ ذلك العقد ؛ من نهب المدينة ، ورمي الكعبة بالمنجنيق ، وقتل الحسين وأهل بيته (عليهم السلام) وضربه على ثناياه بالقضيب ، وحمل
صفحة ٣١
رأسه على خشبة ، وإنما يميل إلى هذا جاهل بالسيرة ، عامي المذهب ، يظن أنه يغيظ بذلك الرافضة (1).
وقال التفتازاني : الحق إن رضا يزيد بقتل الحسين واستبشاره به ، واهانته أهل بيت النبي (ص)، مما تواتر معناه وان كان تفاصيله آحاد. فنحن لا نتوقف في شأنه ، بل في إيمانه لعنة الله عليه وعلى أنصاره وأعوانه (2).
وقال ابن حزم : قيام يزيد بن معاوية ؛ لغرض دنيا فقط ، فلا تاويل له. وهو بغي مجرد (3). ويقول الشوكاني : لقد أفرط بعض أهل العلم فحكموا : بأن الحسين السبط رضي الله عنه وأرضاه ، باغ على الخمير السكير ، الهاتك لحرمة الشريعة المطهرة يزيد بن معاوية! لعنهم الله. فيا للعجب من مقالات تقشعر منها الجلود ، ويتصدع من سماعها كل جلمود!! (4).
وقال الجاحظ : المنكرات التي اقترفها يزيد ؛ من قتل الحسين ، وحمله بنات رسول الله (ص) سبايا ، وقرعه ثنايا الحسين بالعود ، واخافته أهل المدينة ، وهدم الكعبة ، تدل على القسوة والغلظة والنصب ، وسوء الرأي والحقد والبغضاء ، والنفاق والخروج عن الايمان. فالفاسق ملعون ، ومن نهى عن شتم الملعون فملعون (5).
ويحدث البرهان الحلبي ، إن الاستاذ الشيخ محمد البكري تبعا لوالده كان يلعن يزيد ويقول : زاده الله خزيا وضعه وفي أسفل سجين وضعه (6) كما لعنه أبو الحسن علي بن محمد الكياهراسي ، وقال : لو مددت ببياض لمددت العنان في مخازي الرجل (7). وحكى ابن العماد عنه ، أنه سئل عن يزيد بن معاوية ، فقال : لم يكن من الصحابة ؛ لأنه ولد أيام عمر بن الخطاب. ولأحمد فيه قولان ؛ تلويح وتصريح. ولمالك قولان ؛ تلويح وتصريح. ولأبي حنيفة قولان ؛ تلويح وتصريح. ولنا قول واحد
صفحة ٣٢
تصريح دون تلويح ، وكيف لا يكون كذلك وهو اللاعب بالنرد ، ومدمن الخمر ، وشعره في الخمر معلوم (1). ويقول الدكتور علي ابراهيم حسن : كان يزيد من المتصفين بشرب الخمر واللهو والصيد (2).
وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء : كان يزيد بن معاوية ناصبيا فظا ، غليظا جلفا ، يتناول المسكر ويفعل المنكر ، افتتح دولته بقتل الشهيد الحسين ، وختمها بوقعة الحرة ؛ فمقته الناس ولم يبارك في عمره (3).
وقال الشيخ محمد عبده : اذا وجدت في الدنيا حكومة عادلة تقيم الشرع ، وحكومة جائرة تعطله ، وجب على كل مسلم نصر الاولى. ثم قال : ومن هذا الباب خروج الإمام الحسين سبط الرسول (ص) على إمام الجور والبغي ، الذي ولي أمر المسلمين بالقوة والمكر ، يزيد بن معاوية ، خذله الله وخذل من انتصر له من الكرامية والنواصب (4). وقال ابن تغربردي الحنفي : كان يزيد فاسقا ، مدمن الخمر (5)، وقال : أخذت فتاوى العلماء بتعزير عمر بن عبد العزيز القزويني ؛ إذ قال أمير المؤمنين يزيد ، ثم اخرج من بغداد إلى قزوين (6). وقال أبو شامة : دخل بغداد أحمد بن اسماعيل بن يوسف القزويني فوعظ بالنظامية ، وفي يوم عاشوراء قيل له : إلعن يزيد بن معاوية. قال : ذلك إمام مجتهد. ففاجأه أحدهم فكاد يقتل ، وسقط عن المنبر. ثم أخرجوه إلى قزوين ، ومات بها سنة (590) ه (7).
وقال سبط ابن الجوزي : سئل ابن الجوزي عن لعن يزيد فقال : أجاز أحمد لعنه ، ونحن نقول لا نحبه ؛ لما فعل بابن بنت نبينا ، وحمله آل رسول الله (صلى الله عليه وآله) سبايا إلى الشام على أقتاب الجمال ، وتجريه على آل رسول الله ، فإن رضيتم بهذه المصالحة بقولنا لا نحبه ، وإلا رجعنا إلى أصل الدعوى جواز لعنته (8).
صفحة ٣٣
وذكر أبو القاسم الزجاجي باسناده عن عمر بن الضحاك ، قال : كان يزيد بن معاوية ينادم (قردا)، فأخذه يوما وحمله على إتان وحشي وشد عليها رباطا ، وأرسل الخيل في أثرها حتى حسرتها الخيل فماتت الأتان ، فقال يزيد :
تمسك أبا قيس بفضل عنانها
فليس علينا أن هلكت ضمان
وما ذكره ابن الأثير عن أبي يعلى حمزة بن محمد بن أحمد بن جعفر بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع)، أنه قال : أنا لا اكفر يزيد ؛ لقول النبي (ص): «سألت الله تعالى أن لا يسلط على بني من غيرهم ، فأعطاني ذلك» (2). لا يتابع عليه ؛ لأن شرف أبي يعلى وجلالته وثقته ، تبعد صدور هذه الكلمة الجافة عنه ، وإن سبقه إليها الرافعي في التدوين في علماء قزوين (3). وعلى فرض صدورها منه ، فمن المقطوع به صدورها منه تقية. وقد بالغ الميرزا عبد الله افندي تلميذ المجلسي في إنكارها (4)؛ لأن كل من ترجم له من علماء الرجال مدحه واطراه بالجميل ، ولم يذكر ذلك عنه ، ولو كان لصدورها عنه عين أو أثر لمقتوه من أجلها. وقد ترحم عليه الشيخ الصدوق في كتبه وترضى عنه ؛ لأنه من مشائخه. وفي عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، حدثه بقم سنة (339) ه عما كتبه إليه علي بن إبراهيم بن هاشم سنة (309) ه ، عن ياسر الخادم عن الرضا (ع).... الخ حتى أن الخطيب البغدادي مع تعصبه ترجم له ، ولم يذكر عنه هذه الكلمة النابية (5)، فهذه الكلمة من زيادات الرافعي وابن الأثير ، الغير المقرونة بأصل وثيق.
وبعد مقت أعلام الامة ليزيد ، نحاسب عبد المغيث بن زهير بن علوي الحربي عن الاصول الصحيحة التي استقى منها كتابه ، الذي صنفه في فضائل يزيد (6)! وأي مأثرة صحيحة وجدها له حتى سجلها في كتابه؟! وهل حياته كلها إلا مخاز وتهجمات على قدس الشريعة؟ ؛ لذلك لم يعبأ العلماء بهذا الكتاب. فيقول :
صفحة ٣٤
ابن العماد : أتى فيه بالموضوعات. ويقول ابن كثير : رد عليه ابن الجوزي فأجاد وأصاب. وفي كامل ابن الأثير ، وعليه المسعودي في مروج الذهب : أتى فيه بالعجائب (3). وقال ابن رجب في طبقاته : صنف ابن الجوزي في الرد عليه كتابا أسماه : الرد على المتعصب العنيد ، المانع من لعن يزيد.
ومن الغريب ما أفتى به عبد الغني المقدسي ، حين سئل عن يزيد فقال : خلافته صحيحة ؛ لأن ستين صحابيا بايعه ، منهم : ابن عمر. ومن لم يحبه لا ينكر عليه ؛ لأنه ليس من الصحابة ، وإنما يمنع من لعنه ؛ خوفا من التسلق إلى أبيه ، وسدا لباب الفتنة (1)!!. وأغرب من هذا ، إنكار ابن حجر الهيثمي رضا يزيد بقتل الحسين (ع)، أو أنه أمر به (2) مع تواتر الخبر برضاه ، ولم ينكره إلا من أنكر ضوء الشمس!!.
قال ابن جرير والسيوطي : لما قتل الحسين سر يزيد بمقتله ، وحسنت حال ابن زياد عنده ، ثم بعد ذلك ندم (3). وقال الخوارزمي : قال يزيد للنعمان بن بشير : الحمد لله الذي قتل الحسين (4). وقد احتفظوا بمنكراته كاحتفاظهم ببغي أبيه معاوية ، ومعاندته لقوانين صاحب الدعوة الإلهية ، أليس هو القائل لأبيه صخر لما أظهر الإسلام فرقا من بوارق المسلمين :
يا صخر لا تسلمن طوعا فتفضحنا
بعد الذين ببدر أصبحوا مزقا
ويقول ابن أبي الحديد : طعن كثير من أصحابنا في دين معاوية ، وقالوا : إنه كان ملحدا لا يعتقد بالنبوة. ونقلوا عنه في فلتات كلامه ما يدل عليه (7).
صفحة ٣٥
وجده صخر ، هو القائل للعباس يوم الفتح : إن هذه ملوكية. فقال العباس : ويلك إنها نبوة (1). وفي معاوية ، يقول أحمد بن الحسين البيهقي : خرج معاوية من الكفر إلى النفاق في زمن الرسول (ص)، وبعده رجع إلى كفره الأصلي (2).
فابن ميسون عصارة تلكم المنكرات ، فمتى كان يصلح لشيء من الملك فضلا عن الخلافة الإلهية ، وفي الامة ريحانة الرسول وسيد شباب أهل الجنة؟!. أبوه من قام الدين بجهاده ، وامه سيدة نساء العالمين ، وهو الخامس لأصحاب الكساء ، وعدل الكتاب المجيد في (حديث الثقلين)، يتفجر العلم من جوانبه ، ويزدهي الخلق العظيم معه أينما يتوجه ، وعبق النبوة بين أعطافه ، وألق الإمامة في أسارير وجهه. والى هذا يشير (ع) لما عرض الوليد البيعة ، فقال :
«أيها الأمير ، إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة ، بنا فتح الله وبنا يختم. ويزيد رجل فاسق ، شارب الخمر ، وقاتل النفس المحترمة ، معلن بالفسق. ومثلي لا يبايع مثله» (3).
وبعد هذا ، فلنسأل هذا المتحذلق عن قوله : (خرج الحسين بعد انعقاد البيعة ليزيد)، متى انعقدت هاتيك البيعة الغاشمة؟ ومتى اجتمع عليها أهل الحل والعقد؟ أيوم كان يأخذها أبوه تحت بوارق الإرهاب؟! أم يوم إسعاف الصلات لرواد الشره رضيخة يتلمظون بها؟! (4) أم يوم عرضها عمال يزيد على الناس ، فتسلل عنها ابن الرسول ومعه الهاشميون ، وفر ابن الزبير إلى مكة وتخفى ابن عمر في بيته؟ (5). وكان عبد الرحمن ابن أبي بكر يجاهر بأنها هرقلية ؛ كلما مات هرقل قام هرقل مكانه (6)، وكان يقول : إنها بيعة قوقية ، وقوق هو اسم قيصر (7) فأرسل له معاوية مئة ألف درهم يستعطفه بها ، فردها وقال : لا أبيع ديني بدنياي (8)، وقال
صفحة ٣٦
عبد الله بن عمرو بن العاص لعابس بن سعيد ، الذي حثه على البيعة ليزيد : أنا أعرف به منك ، وقد بعت دينك بدنياك (1). وقال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي للشامي الذي أرسله مروان بن الحكم ليبايع ليزيد : يأمرني مروان أن أبايع لقوم ضربتهم بسيفي حتى أسلموا! والله ما أسلموا ولكن استسلموا (2) . وقال زياد بن أبيه لعبيد بن كعب النميري : كتب إلي معاوية في البيعة ليزيد ، وضمان أمر الإسلام عظيم ؛ إن يزيد صاحب رسلة وتهاون مع ما اولع به من الصيد ، فأخبر معاوية عني ، وأخبره عن تهاون يزيد بأمر الدين وفعلاته المنكرة (3).
وقد أنكر على معاوية سعيد بن عثمان بن عفان ، وفيما كتب إليه : إن أبي خير من أب يزيد ، وأمي خير من امه ، وأنا خير منه (4). وكان الأحنف بن قيس منكرا لها ، وكتب إليه يعرفه الخطأ فيما قصده من البيعة لابنه يزيد ، وتقديمه على الحسن والحسين مع ما هما عليه من الفضل والى من ينتميان ، وذكره بالشروط التي أعطاها الحسن ، وكان فيها أن لا يقدم عليه أحدا ، وإن أهل العراق لم يبغضوا الحسنين منذ أحبوهما ، والقلوب التي أبغضوه بها بين جوانحهم (5).
وحرص أبي الضيم سيد الشهداء على نصح معاوية وارشاده إلى لاحب الطريق ، وتعريفه منكرات يزيد ، وإن له الفضل عليه بكل جهاته ، وفيما قال له : «إن امي خير من امه ، وأبي خير من أبيه». فقال معاوية : أما امك ، فهي ابنة رسول الله (ص)، فهي خير من امرأة من كلب. وأما حبي يزيد ، فلو اعطيت به ملء الغوطة لما رضيت. وأما أبوك وأبوه ، فقد تحاكما إلى الله تعالى فحكم لأبيه على أبيك (6).
إلى هنا سكت أبو عبد الله الحسين (ع)؛ لأنه عرف ألا مقنع لابن آكلة الأكباد بالحقيقة ، وإنما لم يقل معاوية (إن أباه أفضل من أبيك)؛ لعلمه بعدم سماع أحد منه ذلك ، ولشهرة سبق علي (ع) إلى الإسلام واجتماع المحامد
صفحة ٣٧
فيه ، وتقدمه على غيره في الفضائل جمعاء ؛ لذلك عدل معاوية إلى الإيهام بايجاد شبهة المنافرة والمحاكمة ، وهذا ما يسميه علماء البلاغة بالاستدراج.
ومرة اخرى ، قال له سيد الشهداء أبو عبد الله (عليه السلام): «لقد فهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله سياسته لامة محمد (ص)، تريد أن توهم على الناس كأنك تصف محجوبا أو تنعت غائبا أو تخبر عما احتويته بعلم خاص ، وقد دل يزيد من نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد من استقرائه الكلاب المهارسة (1)، والحمام السبق ، والقينات ذوات المعازف وضرب الملاهي تجده ناصرا ، ودع ما تحاول فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت فيه ، فوالله ما برحت تقدم باطلا في جور ، وحنقا في ظلم حتى ملأت الأسقية ، وما بينك وبين الموت إلا غمضة ، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود ، ولات حين مناص» (2).
وكتب (عليه السلام) إليه مرة ثالثة : «إعلم إن لله عز وجل كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا أحصاها ، وليس الله تعالى بناس أخذك بالظنة ، وقتلك اولياءه على التهم ، ونفيك لهم عن دورهم إلى دار الغربة. أولست قاتل حجر أخي كندة والمصلين العابدين ؛ الذين كانوا ينكرون الظلم ويستعظمون البدع ولا يخافون في الله تعالى لومة لائم؟ أولست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله (ص)، العبد الصالح الذي أبلته العبادة؛ فنحل جسمه ، واصفر لونه بعدما آمنته وأعطيته من عهود الله عز وجل ، ولو أعطيته طائرا لنزل إليك من رأس جبل ؛ جرأة منك على ربك ، واستخفافا بذلك العهد؟ أولست المدعي (ابن سمية) المولود على فراش عبيد ثقيف ، فزعمت أنه من أبيك وقد قال رسول الله (ص): الولد للفراش وللعاهر الحجر ، فتركت سنة رسول الله (ص) تعمدا ، واتبعت هواك بغير هدى من الله تعالى ، ثم سلطته على العراقين يقطع أيدي المسلمين ، ويسمل أعينهم ، ويصلبهم على جذوع النخل. كأنك لست من هذه الامة وليسوا منك!؟ أولست الكاتب لزياد أن يقتل كل من كان على دين علي بن أبي طالب (عليه السلام)؛ فقتلهم ومثل بهم بأمرك. ودين علي (ع) هو دين الله عز وجل الذي به ضرب أباك وضربك ، وبه جلست مجلسك الذي جلست؟
صفحة ٣٨
وإن أخذك الناس ببيعة ابنك يزيد ، وهو غلام حدث يشرب الخمر ، ويلعب بالكلاب ؛ فقد خسرت نفسك ، وبترت دينك وأخرجت أمانتك» (1).
وكتب إليه مرة رابعة يعدد عليه بوائقه ؛ وذلك لما قتل زياد ابن أبيه مسلم بن زيمر ، وعبد الله بن نجي الحضرميين ، وصلبهما على أبواب دورهما بالكوفة أياما ، وكانا من شيعة علي أمير المؤمنين (عليه السلام). وفيما كتب إليه : «ألست صاحب حجر والحضرميين اللذين كتب إليك ابن سمية أنهما على دين علي (عليه السلام) ورأيه. فكتبت إليه : من كان على دين علي ورأيه فاقتله وامثل به ، فقتلهما ومثل بامرك بهما؟ ودين علي وابن عم علي الذي كان يضرب عليه أباك ، ويضربه عليه أبوك ، جلست مجلسك الذي أنت فيه. ولولا ذلك ، كان أفضل شرفك وشرف أبيك تجشم الرحلتين اللتين بنا من الله عليك بوضعها عنكم .....»
في كلام طويل يوبخه فيه بادعائه زيادا ، وتوليته على العراقين (2). ولم تجد هذه النصائح من ابن الرسول (ص) في دحض باطل معاوية ، بعد أن سدت بوارق الإرهاب ، وبواعث الطمع طريق الحق. لكن معاوية بدهائه المعلوم لم يرقه أن يمس الحسين (ع) سوء ؛ خشية سوء الفتنة وانتكاث الأمر ، لما يعلمه أن (أبي الضيم) لا يتنازل إلى الدنية إلى نفس يلفظه ، وأن شيعته يومئذ غيرهم بالأمس على عهد أخيه الإمام المجتبى ، فإنهم ما زالوا يتذمرون من عمال معاوية ؛ للتنكيل الذريع بهم حتى بلغ الحال ، أن الرجل منهم يستهين أن يقال له : زنديق ، ولا يقال له (ترابي)!.
وكم من مرة واجهوا الإمام المجتبى (ع) بكلام أمر من الحنظل مع اعترافهم له بالإمامة ، وإذعانهم بأن ما صدر منه عن صلاح إلهي ، وأمر ربوبي. وحتى أنهم استنهضوا الحسين (ع) غير مرة فلم ينهض معهم ؛ رعاية للميثاق ، وإرجاء الأمر إلى وقته المعلوم لديه من جده (ص)، وأبيه الوصي (ع).
فمعاوية يعلم أنه لو اصيب الحسين (ع) بسوء والحالة هذه تلتف الشيعة حوله ؛ فيستفحل الخطب بينه وبين معاوية.
صفحة ٣٩
وللعلة هذه بعينها ؛ أوصى ولده يزيد بالمسالمة مع الحسين إن استبد بالأمر ، ومهما يجد من أبي الضيم مخاشنة وشدة. فقال له : إن أهل العراق لن يدعوا الحسين حتى يخرجوه ، فإن خرج عليك وظفرت به ، فاصفح عنه ، فإن له رحما ماسة ، وحقا عظيما (1).
لكن (يزيد الجهل)؛ لغروره المردي لم يكترث بتلك الوصية ، فتعاورت عليه بوادره ، وانتكث فتله. ولئن سر (يزيد الخزاية) الفتح العاجل ، فقد أعقب فشلا قريبا ، وكاشفه الناس بالسباب المقذع ، وأكثروا باللائمة عليه حتى ممن لم ينتحل دين الإسلام.
وحديث رسول ملك الروم مع يزيد في المجلس ، حين شاهد الرأس الأزهر بين يديه يقرعه بالعود! أحدث هزة في المجلس ، وعرف يزيد أنه لم تجد فيهم التمويهات. وكيف تجدي وقد سمع من حضر المجلس صوتا عاليا من الرأس المقدس ، لما أمر يزيد بقتل ذلك الرسول «لا حول ولا قوة إلا بالله» (2)؟
وأي أحد رأى أو سمع قبل يوم الحسين (عليه السلام) رأسا مفصولا عن الجسد ينطق بالكلام الفصيح؟ وهل يقدر ابن ميسون أن يقاوم أسرار الله ، أو يطفئ نوره الأقدس؟ ... كلا.
ولقد فشا الإنكار عليه من حريمه وحامته حتى أن زوجته هند (3) لما أبصرت
(الصورة الاولى) في مقتل الحسين للخوارزمي 1 / 151 ط النجف ، بالاسناد إلى يحيى بن عبد الله بن بشير الباهلي ، قال : كانت هند بنت سهيل بن عمرو عند عبد الله بن عامر بن كريز ، وكان عامل معاوية على البصرة. فاقطعه خراج البصرة على أن يتنازل عن زوجته هند ؛ لرغبة يزيد فيها. وبعد انتهاء العدة أرسل معاوية أبا هريرة ومعه ألف دينار مهرا لها ، وفي المدينة ذكر أبو هريرة القصة للحسين بن علي (عليه السلام)، فقال : «اذكرني لهند». ففعل أبو هريرة ، واختارت الحسين فتزوجها ، ولما بلغه رغبة عبد الله بن عامر فيها ، طلقها وقال له : «نعم المحلل كنت لكما». وفي اسناده يحيى بن عبد الله بن بشير الباهلي عن ابن المبارك وهو مجهول عند علماء الرجال.
(الصورة الثانية) في المصدر نفسه / 150 مسندا عن الهذلي عن ابن سيرين : إن عبد الرحمن بن عناب بن اسيد كان أبا عذرتها ، طلقها وتزوجها عبد الله بن عامر بن كريز. وذكر كما في الصورة الاولى
صفحة ٤٠
الرأس مصلوبا على باب دارها ، والأنوار العلوية تتصاعد إلى عنان السماء ، وشاهدت الدم يتقاطر ، ويشم منه رائحة طيبة ، عظم (1) مصابه في قلبها ؛ فلم تتماسك دون أن دخلت عليه مجلسه مهتوكة الحجاب وهي تصيح : رأس ابن بنت رسول الله (ص) مصلوب على دارنا؟!. وقام إليها وغطاها ، وقال لها : اعولي على الحسين ، فإنه صريخة بني هاشم ، عجل عليه ابن زياد (2).
(الصورة الثالثة) في نهاية الارب 6 / 180 : كانت زينب عند عبد الله بن سلام عامل معاوية على العراق ، فطلب منه معاوية طلاق زوجته ؛ لرغبة يزيد فيها على أن يزوجه من ابنته. فلما طلقها لم توافق ابنة معاوية على التزويج منه ، فأرسل معاوية أبا هريرة وأبا الدرداء إلى العراق ليخطبا زينب بنت اسحاق ليزيد. فقدما الكوفة ، وكان بها الحسين بن علي (ع)، فذكرا له القصة ، فقال لهما : «اذكراني». فاختارت الحسين (ع) وتزوجها ، ولما عرف رغبة عبد الله بن سلام فيها طلقها ؛ ليحلها لزوجها الاول.
وهذه القصة المطولة ، التي أرسلها النويري في نهاية الأرب من دون إسناد ، ارسلها ابن بدرون في شرح قصيدة ابن عبدون ص 172 سنة 1330 ، واسماها (ارينب) بالراء المهملة. والحسين (ع) لم يرد إلى الكوفة بعد ارتحالهم منها!.
(الصورة الرابعة) في الامثال للميداني 1 / 274 حرف الراء عنوان (رب ساع لقاعد) روي مرسلا : إن معاوية سأل يزيد عن رغباته ، فذكر له رغبة في التزويج من (سلمى ام خالد)، زوجة عبد الله بن عامر بن كريز. فاستقدمه معاوية ، وسأله طلاق امرأته على أن يعطيه خراج فارس خمس سنين ، فطلقها. فكتب معاوية إلى واليه على المدينة (الوليد بن عتبة) أن يعلم ام خالد بطلاقها. وبعد انقضاء العدة ، أرسل معاوية أبا هريرة ومعه ستون ألفا ؛ عشرون ألف دينار مهرها ، وعشرون ألفا كرامتها ، وعشرون ألفا هديتها. وفي المدينة حكى القصة لأبي محمد الحسن بن أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال لأبي هريرة : «اذكرني». وقال له الحسين : «اذكرني لها». وقال عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب : اذكرني. وقال عبد الله بن جعفر الطيار : اذكرني . وقال عبد الله بن الزبير : اذكرني. وقال عبد الله بن مطيع بن الاسود : اذكرني. ولما دخل عليها أبو هريرة ، حكى لها ما أراده معاوية ، ثم ذكر رغبة الجماعة فيها. فقالت له : اختر لي أنت؟ فاختار لها الحسن بن علي (ع) وزوجها منه ، وانصرف إلى معاوية بالمال. ولما بلغت معاوية القصة ، عتب على أبي هريرة ، فرد عليه : المستشار مؤتمن.
هذا كل ما في عيبة المؤرخين الامناء على تسجيل الحقائق كما وقعت ومن المؤسف عدم تحفظهم عن الطعن بكرامة المسلمين والتأمل في هذه الاسطورة لا يعدوه الاذعان بأن الغاية منها هو النيل من ابني رسول الله صلى الله عليه وآله ، الإمامين على الامة «إن قاما وإن قعدا» ؛ لعل من يبصر الأشياء على علاتها من دون تمحيص وقد وجد من انطلت عليه هذه الاكذوبة ، فرمى أب محمد الحسن (ع) بما تسيخ منه الجبال ، بالاعتذار عن كثرة الزوجات للحسن أن الطلاق بالثلاث شائع ، وأنهم لم يجدوا محللا صادقا بأن يتزوج المرأة على الدوام ثم يطلقها إلا الحسن (ع) وما أدري بما يعتذر يوم يقول له (أبو محمد) (ع): على أي استناد وثيق هتكتني ، ولم تتبصر؟.
صفحة ٤١
قصدا منه تعمية الأمر ، وتبعيد السبة عنه بالقاء الجريمة على العامل ، لكن الثابت لا يزول. وهذا هو السر في انشائه الكتاب الصغير ، الذي وصفه المؤرخون بأنه (اذن فارة)، أرفقه مع كتابه الكبير إلى واليه على المدينة الوليد بن عتبة؛ بأخذ البيعة من أهلها عامة. وفي هذا الكتاب الصغير ، إلزام الحسين بها (1)، وإن أبى فاضرب عنقه وابعث إلي برأسه؟!.
وليس الغرض من هذا ، إلا أن يزيد لما كان عالما بأن بيعته لم يتفق عليها صلحاء الوقت ، وأشراف الامة ، وما صدر من الموافقة منهم يوم أرادها أبوه معاوية إنما هو بالوعيد والتهديد! أراد ان يخلي رسمياته عن الأمر بقتل الحسين (عليه السلام)، بحيث لو صدر ذلك من عامله ولامه الناس وخطؤوه ؛ تذرع بنسبة القتل إلى العامل. فان كتابه الذي يأمره فيه بأخذ البيعة من أهل المدينة عامة ، خال من هذه الجرأة ؛ فيكون له المجال في إلقاء التبعة بذلك على عاتق العامل!. كما انه في الوقت نفسه تذرع بهذا العذر ، وانطلى على بعض المؤرخين! وهل ينفعه هذا؟.
لبسوا بما صنعوا ثياب خزاية
سودا تولى صبغهن العار
* الأنبياء مع الحسين
لقد كان حديث مقتل الحسين (عليه السلام) من أسرار الخليقة وودائع النبوات ، فكان هذا النبأ العظيم مألكة (2) أفواه النبيين ، دائرة بين أشداق الوصيين وحملة الأسرار؛ ليعرفهم المولى سبحانه وتعالى عظمة هذا الناهض الكريم ، ومنته على الجميع بحفظ الشريعة الخاتمة التي جاؤوا لتمهيد أمرها ، وتوطيد الطريق إليها ، وتمرين النفوس لها. فيثيبهم بحزنهم واستيائهم ؛ لتلك الفاجعة المؤلمة! فبكاه آدم والخليل وموسى ، ولعن عيسى قاتله ، وأمر بني اسرائيل بلعنه ، وقال : «من أدرك أيامه ، فليقاتل معه ، فإنه كالشهيد مع الأنبياء ، مقبلا غير مدبر. وكأني أنظر إلى بقعته ، وما من نبي إلا
صفحة ٤٢
وزارها ، وقال : إنك لبقعة كثيرة الخير ، فيك يدفن القمر الزاهر» (1).
وشاء إسماعيل صادق الوعد الأسوة به ؛ لما انبأ بشهادته ، فيكون الآخذ بثأره الإمام المنتظر عجل الله فرجه (2).
واختار يحيى أن يطاف برأسه
وله التأسي بالحسين يكون
وحديث مقتل الحسين (ع) أبكى الرسول الأقدس وأشجاه (3) وهو حي ، فكيف به لو رآه صريعا بكربلاء في عصابة من آله كأنهم مصابيح الدجى ، وقد حلؤوه ومن معه عن الورد المباح لعامة الحيوانات؟!.
نعم ، شهد نبي الرحمة (ص) فلذة كبده بتلك الحالة التي تنفطر لها السموات ، ورأى ذلك الجمع المغمور بالاضاليل ، متألبا على استئصال آله من جديد الأرض ، فشاهده بعض من حضر ينظر الجمع مرة والسماء اخرى ، مسلما للقضاء (4).
ولما مر أمير المؤمنين (عليه السلام) بكربلاء في مسيره إلى صفين ، نزل فيها واومأ بيده إلى موضع منها ، فقال : «ههنا موضع رحالهم ، ومناخ ركابهم» ، ثم أشار إلى موضع آخر وقال : «ههنا مهراق دمائهم. ثقل لآل محمد ينزل ههنا» ، ثم قال : «واها لك يا تربة! ليحشرن منك أقوام يدخلون الجنة بغير حساب» (5) وأرسل عبرته ، وبكى من معه ؛ لبكائه. وأعلم الخواص من صحبه ، بأن ولده الحسين (ع) يقتل ههنا في عصابة من أهل بيته وصحبه ، هم سادة الشهداء ، لا يسبقهم سابق ، ولا يلحقهم لاحق (6).
وفي حديثه الآخر ، بعد الإخبار بأن في موضع كربلاء تقتل فتية من آل محمد (ص)، قال : «تبكي عليهم السماء والأرض (7). بأبي من لا ناصر له إلا الله» (8). ثم قال : «لا يزال
صفحة ٤٣
بنو امية يمعنون في سجل ضلالتهم حتى يهريقوا الدم الحرام في الشهر الحرام ، ولكأني أنظر إلى غرنوقا من قريش يتشحط في دمه ، فإذا فعلوا ذلك ، لم يبق لهم في الأرض عاذر ، ولم يبق ملك لهم» (1).
ومر سلمان الفارسي بكربلاء حين مجيئه إلى المدائن ، فقال : هذه مصارع إخواني ، وهذا موضع مناخهم ، ومهراق دمائهم. يقتل بها ابن خير الأولين والآخرين (2). ومر عيسى بن مريم (ع) بأرض كربلاء ، فرأى ظباء ترعى هناك ، فكلمته بأنها ترعى هنا ؛ شوقا إلى تربة الفرخ المبارك ، فرخ الرسول أحمد (ص)، وأنها آمنة في هذه الأرض. ثم أخذ المسيح (ع) من أبعارها وشمه ، وقال : «اللهم ، أبقه حتى يشمها أبوه ، فتكون له عزاء وسلوة». فبقيت الأبعار إلى مجيء أمير المؤمنين (ع) بكربلاء ، وقد اصفرت ؛ لطول المدة. فأخذها وشمها وبكى ، ثم دفعها إلى ابن عباس ، وقال : «إحتفظ بها ، فاذا رأيتها تفور دما ، فاعلم إن الحسين قد قتل». وفي يوم عاشوراء بعد الظهر رآها تفور دما (3).
* الإقدام على القتل
** تمهيد
من الضروري احتياج المجتمع البشري إلى مصلح يسد خلته ، ويسدد زلته ، ويكمل اعوازه ، ويقوم إوده لتوفر دواعي الفساد فيه. فلو لم يكن في الامة من يكبح جماح النفوس الشريرة ؛ للعبت الأهواء بهم ، وفرقتهم أيدي سبا ، وبات حميم لا يأمن حميه ، وأصبحت أفراد البشر ضحايا المطامع.
وهذا المصلح يختاره المولى سبحانه من بين عباده ؛ لأنه العارف بطهارة النفوس ونزاهتها عما لا يرضى به رب العالمين. ويكون الواجب ، عصمته مما في العباد من الرذائل والسجايا الذميمة حتى لا يشاركهم فيها ، فيزداد الطين بلة ، ويفوته التعريف والإرشاد إلى مناهج الاصلاح ومساقط الهلكة!.
وقد برأ الله تعالى ذات النبي الأعظم (ص) من نور قدسه ، وحباه بأكمل الصفات الحميدة حتى بذ العالم ، وفاق من في الوجود ، فكان محلا
صفحة ٤٤
للتجليات الإلهية ، وممنوحا بالوحي العزيز. وإن اليراع ليقف مترددا عن تحديد تلك الشخصية الفذة ، التي أنبأ عنها النبي (ص) بقوله لأمير المؤمنين (ع): «لا يعرف الله إلا أنا وأنت ، ولا يعرفني إلا الله وأنت ، ولا يعرفك إلا الله وأنا» (1).
وحيث إن عمر النبي (ص) غير باق إلى الأبد ؛ لأنه لم يخرج عما عليه الناس في مدة الاجل. وجملة من تعاليمه لا تخلو من أن تكون كليات لم تأت أزمنة تطبيقها على الخارج ، كان الواجب في شريعة الحق الداعية إلى إصلاح الامة : إقامة خليفة مقامه ، يحذو حذوه في نفسياته واخلاصه وعصمته ؛ لأن السرائر الكامنة بين الجوانح لا يعلمها إلا خالقها. ولو اوكل معرفتها إلى الامة لتعذر عليها التمييز؛ لعدم الاهتداء إلى تلك المزايا الخاصة في الإمام! فتحصل الفوضى ، وينتشر الفساد ، ويعود النزاع والتخاصم. وهو خلاف اللطف الواجب على المولى سبحانه ( وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة ) (2) ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ) (3).
فالخلافة منصب إلهي يقيض الله تعالى رجلا ينوؤ بأثقال النبوة ، فيبلغ الدعوة لمن تبلغه ، ويدعو إلى تفاصيل الشريعة التي جاء بها المنقذ الأكبر (ص)، فيرشد الجاهل ، وينبه الغافل ، ويؤدب المتعدي ، ويبين ما أجمله النبي (صلى الله عليه وآله)؛ لضرب من المصلحة أو أهمله لعدم السعة في زمانه بعد انقضاء أمد الرسالة.
في شخصية أمير المؤمنين ثم ابنه الحسن ، وبعده أخوه سيد الشهداء الحسين ، فابنه زين العابدين علي ، ثم ابنه الباقر محمد ، فابنه الصادق جعفر ، فابنه الكاظم موسى ، فابنه الرضا علي ، فابنه الجواد محمد ، فابنه الهادي علي ، فابنه الحسن العسكري ، ثم ابنه المنتظر أبو القاسم محمد عجل الله فرجه.
كما أفاد المتواتر من الاحاديث : بأن الله عز شأنه اودع في الإمام المنصوب حجة العباد ، ومنار يهتدي به الضالون قوة قدسية نورية ، يتمكن بوساطتها من
صفحة ٤٥