إلى علماء الأزهر
علي الطنطاوي (ت 1420ه - 1999 م)
نشر عام 1366ه الموافق 1947م
ما عرفنا من عرفنا من علماء الأزهر إلا ملوكا، لا أمر فوق أمرهم، ولا كلمة بعد كلمتهم، إذا قال واحدهم لبت الأمة، وإذا دعا هب الشعب، وإذا أنكر على الحكومة منكرا أزالت الحكومة المنكر، وإذا أمرها بمعروف أطاعت بالمعروف، فكانوا هم السادة وهم القادة، وهم أولو الأمر: هذه حكومة مصطفى فهمي باشا تستجيب سنة 1899م لرغبة الإنكليز في إضعاف القضاء الشرعي، فتضع مشروعها المشهور لتعديل اللائحة الشرعية، وضم اثنين من أعضاء الاستئناف الأهلي إلى المحكمة الشرعية العليا، ويبلغ من ثقتها بقوتها، وتأييد مجلس الشورى لها أن لا تبالي باحتجاج الحكومة العثمانية على المشروع، وتعرضه على المجلس، وكان من أعضائه الشيخ حسونة النواوي (الذي جمعت له مشيخة الأزهر وفتوى الديار المصرية) فيقول كلمة موجزة في إنكار المشروع، وينسحب من المجلس، ويتبعه القاضي التركي، فتكون هذه الكلمة كافية لقتل المشروع، فيرده المجلس كله، وتحاول الحكومة إنفاذه على رغمه فلا تجد عضوا استئنافيا واحدا يقبل الانضمام إلى المحكمة العليا، عرضت ذلك على الشيخ محمد عبده، وكان من أعضاء الاستئناف الأهلي وسعد زغلول وأحمد عفيفي ويوسف شوقي ويحيى إبراهيم، فأبوا جميعا، وتمشي كلمة الشيخ في الناس مشي النار في يابس الحطب، فتهب الأمة كلها وتؤيده حتى ترضى الحكومة بالهزيمة وتسترد مشروعها.
ولم يكونوا يخشون في الحق لومة لائم، ولا يخافون غضبة ملك جبار: هذا حسين باشا الجزائري يصل مصر، فيفر منه أمراؤها إلى الوجه القبلي، فيأخذ أموالهم كلها، ولا يرضيه في عتوه وجبروته أن يستولي على عروضهم حتى يسطو على أعراضهم، فيقبض على نسائهم وأولادهم، ويسوقهم إلى السوق ليبيعهم زاعما أنهم أرقاء لبيت المال، وكانت الأحكام عرفية، وسيوف الظلم مصلتة، ولواء البغي مرفوعا، ولكن ذلك لم يمنع علماء الأزهر من إنكار هذا المنكر، ولم يرهبوا بطش الباشا، وهم يرون أن أفضل الشهداء رجل قال كلمة حق عند إمام جائر فقتله بها، فمضوا إليه وتكلم الشيخ محمد أبو الأنوار فقال له: (أنت أتيت إلى هذه البلدة، وأرسلك السلطان لإقامة العدل، ورفع الظلم كما تقول، أو لبيع الأحرار وأمهات الأولاد وهتك الحريم؟ فقال: هؤلاء أرقاء لبيت المال قال: هذا لا يجوز ولم يقل به أحد. فغضب أشد الغضب وطلب كاتب ديوانه، وقال: اكتب أسماء هؤلاء، وأخبر السلطان بمعارضتهم لأوامره. فقال له الشيخ محمود البنوفري: اكتب ما تريد بل نحن نكتب أسماءنا بخطنا). وكانت النصرة لهم عليه، فأحقوا الحق وأبطلوا الباطل، ووضع الله في قلبه هيبتهم؛ لأن من خاف الله خافه كل شيء. فكانوا بذلك (أجل من الملوك جلالة)، وكانت إشارتهم للحكام أمرا، وطاعتهم عليهم فرضا، حدث الشيخ محمد سليمان [في كتابه الجليل من أخلاق العلماء] أن أباه قدم لطلب العلم في الأزهر أواخر أيام الشيخ إبراهيم البيجوري، فشكا إليه ظلم تلك الأيام، وما كان فيها من السخرة والمعونة، فكتب له ورقة بمساحة إصبعين، هذا نص ما كان فيها: (ولدنا مدير الدقهلية، رافعه من طلبة العلم يجب إكرامه، خادم العلم والفقراء، الخاتم (إبراهيم البيجوري) فدفعها إلى المدير، فقبلها ووضعها على رأسه، ودفعت عنه هذه الورقة كل مظلمة، وأنالته كل مكرمة، ورفعت قدره عند المدير وعند الناس.
وكان الشيخ الأزهري موقرا في الجامع وفي البيت وفي السوق، ومبجلا عند الطلبة والعامة والحكام، وكان أقصى أمل الطالب أن يخدم الشيخ، وأن يحمل له نعله، وإذا سبه عد سبه إكراما، وتحمله مسرورا، ورآه من أسباب الفتوح.
وكان الطالب الأزهري المجاور يذهب إلى بلده في العيد أو في الإجازة، فيقبل البلد كله عليه يقبل يده، ويتبرك به، ويشم فيه عبق الأزهر، ويكون المرجع لأهله في الجليل من شؤونهم والحقير، ويكون فقيههم، والحاكم بينهم، لا مرد لحكمه، ولا اعتراض عليه؛ لأنه يحكم بشرع الله، ويبين حكمه في فتواه.
هذا ما عرفناه، فما الذي جرى حتى تبدلت الحال ... ؟
ما الذي نزع هيبة المشايخ من القلوب، وأنزلهم من مكانتهم عند الحكام؟
أقول: أنتم أيها الأزهريون فعلتم هذا كله! أنتم تنكبتم سبيل أسلافكم، فما الشيخ اليوم شيخ مسلك، ولكنه موظف محاضر، وما التلميذ مريد طيع ولكنه مشاكس مشاغب، وما يطلب علما ولكن يبتغي شهادة، أنتم ثرتم على مشايخكم، وعلمتم الناس الثورة عليهم، أنتم أيها الطلاب، أنتم مددتم أيديكم إلى مدرسيكم فجرأتم هؤلاء أن يمدوا أيديهم ... ، أنتم أطلقتم ألسنتكم فيهم فشجعتم هذه الصحف أن تتطاول حزبية إلى الكلام على شيخ الأزهر، أنتم أيها الأزهريون جعلتموها جامعة فكان فيها ما يكون في الجامعات، وقد كانت جامعا لا يكون فيه إلا ما يكون في الجامع، لقد كان الأزهر لله، فصار للناس، وكان للآخرة فغدا للدنيا، وكان يجيئه الطالب يبتغي العلم وحده، يتبلغ بخبز الجراية، وينام على حصير الرواق، ويقرأ على سراج الزيت، ولكنه لا ينقطع عن الدرس والتحصيل من مطلع الفجر إلى ما بعد العشاء، ينتقل من شيخ إلى شيخ، ففي كل ساعة درس، ولكل درس كتاب، ولكل كتاب ساعة للتحضير والمراجعة، لا يدع الدرس إلا للصلاة في المسجد، صلاة خشوع وتبتل، أو للأكل فيه، أكل قناعة وتقشف، أو لشرب العرقسوس أو الخرنوب، هذه ملذاتهم من دنياهم، لا يخرجون من المسجد إلا عصر الخميس، يؤمون الرياض والحياض للاستجمام والاستحمام لا يأملون من العلم مالا، وقد كان أقصى مرتب الشيخ الأزهري إلى عهد قريب ثلاثة جنيهات في الشهر، ولا يبلغها إلا نفر قليل، فراضوا نفوسهم على القناعة، وعودوها الصبر وألزموها الرضا، هذا المرصفي يحدث عنه الأستاذ محمود حسن زناتي أنه كان في دار بالية، في حي قديم، وقد جلس على حصير ألقى عليه كتبه وأوراقه، ومن حوله خيط من عسل القصب، مرشوش على البلاط، يدرأ عنه هجوم البق، لم يمنعه هذا الحصير الخلق في هذا الدار البالية من أن يشرح عليه (الكامل)، وأورثهم هذا الفقر عزة في نفوسهم: أورثهم كبر العلم، وكل كبر مذموم إلا كبر العلم، فلم يكونوا يحفلون أحدا من أبناء الدنيا؛ لأنهم لم يتذوقوا لذتها حتى يداجوا فيها، ولم يميلوا إليها حتى يتزلفوا إليهم من أجلها، كسروا قيودها وتخلصوا من رقها، وهانت عليهم وهان أهلها، هذا هو اللورد كرومر، وما أدراك ما اللورد كرومر؟! يدخل على الشيخ محمد الأنبابي شيخ الأزهر، ويسلم عليه، فيرد الشيخ التحية وهو قاعد، فيعظم اللورد قعوده، ويقعد إلى جنبه، فيقول له مغضبا: (يا سيدنا الشيخ، ألست تقوم للخديوي؟ قال: نعم. قال: فلم لم تقم لي؟ قال: إن الخديوي ولي الأمر، وأما أنت فلست منا.) فيزيد ذلك اللورد إجلالا له، ويكتبه في أحد تقريراته لحكومته.
وهذا هو رياض باشا، وكان رئيس الحكومة، وناظر المالية يزور مدرسة دار العلوم، وكان الشيخ حسن الطويل مدرسا فيها، فلا يسلم الرئيس ويدخل حتى يبتدره الشيخ من آخر القاعة، فيقول له: يا باشا، أما آن لكم أن تجعلوني معكم ناظرا؟ فيدهش الباشا ويقول: ما هذا يا شيخ حسن؟ فيقول: ما تسمع يا باشا؟ قال: فأي نظارة تريد؟ قال: المالية. قال: لماذا؟ قال: لأستبيح أموالها. فذعر الباشا وخرج يرتجف، وقال لعلي مبارك باشا ناظر المعارف: لا بد أن تخرج هذه الرجل من خدمة الحكومة. قال: كيف وماذا أصنع مع علماء الأرض وهو عالم عالمي؟) كذلك كانوا، زهدوا في الدنيا فجاءتهم الدنيا، وأعرضوا عنها فأقبلت عليهم، وهابوا الله فهابهم الناس، فكيف حالكم اليوم يا إخواننا الأزهريين؟
يا إخواننا، إن هذا الأزهر المعمور، لبث خمسمائة سنة من عمره، وهو منار العلم المفرد في الدنيا لولاه لتاهت في ظلمات الجهل، وهو حارس الدين واللغة، فأدركوه لا ينطفئ المنار، ويهجع الحارس، وتترك الدنيا للظلام وللصوص.
يا إخواننا، ما عاش الأزهر، ولا عز بالعلم وحده، وما العلم بلا عمل؟ ولكن عز بالتقوى وبالعمل وبالخلق المتين.
لقد كانت لعلماء الأزهر أخلاق لا أقول ضاعت، ولكن اختفت عن الناس، تلك الأخلاق كانوا يجلون مشايخهم فيجلهم الناس كلهم، هذا هو الشيخ الباجوري شيخ الجامع كان يجلس بعد المغرب في الصحن فيقبل عليه العلماء والطلبة يقبلون يده، وكان الشيخ مصطفى المبلط وهو أكبر منه، ناظره في طلب المشيخة ولم ينلها، يندس فيهم ويقبل يد الشيخ، فانتبه إليه مرة، فأمسك به وبكى وقال: (حتى أنت يا شيخ مصطفى؟ لا لا.
فقال الشيخ مصطفى: نعم. وأنا! لقد خصك الله بفضل وجب أن نقره، وصرت شيخنا فعلينا أن نوقرك). وكانوا يقدمون العلم على المنصب، ويعرفون لأهله حقهم، هذا هو الشيخ الشربيني شيخ الجامع الأزهر يدخل مع الطلبة على الشيخ الأشموني حتى يلثم يده، وكان الأشموني ربما قال له: إزيك يا عبد الرحمن؟ فيكون الشيخ كأنما حيته من فرحته بذلك الملائكة. ولم يكونوا يدعون للعدو ثغرة يدخل منها إليهم، ويجعلون خلافهم إذا اختلفوا بينهم، هذا هو الشيخ الأمير كانت بينه وبين الشيخ القويسني جفوة بلغت الحاكم، وزاره الأمير فسأله عنها، وأوهمه أن القويسني أخبره بها، وكان يريد معرفة حقيقتها ليزيلها، فقال الشيخ الأمير: ليس بيننا إلا الخير، وما أظن الشيخ القويسني حدثك بشيء من هذا. وأثنى عليه ومدحه، ونزل من عند الحاكم فمر به على ما كان بينهما، وأنبأه بما كان فقال القويسني: صدقت في ظنك ما قلت للحاكم شيئا. قال الشيخ الأمير: هكذا أهل العلم يسوون أمورهم بينهم. أما مظهرهم فيجب أن يكون قدوة في التآلف إمساكا على عروة الإسلام، وحفظا لكرامة العلم، وزال بذلك ما كان بينهما.
فيا إخواننا الأزهريين، سألتكم بالله ارجعوا بالأزهر إلى سبيله التي درج عليها، أعيدوه سنته الأولى، أفيضوا عليه الدين والتقوى، والتقوى روح العلم، فإن فارقته كان جسما بلا روح، أحيوا فيه أخلاق الأسلاف، ليكن لكم تقاهم وزهدهم، فتكون لكم عزتهم ومكانتهم، يا إخواننا لم نجد والله خيرا في الجامعة الأزهرية، فردوا علينا الجامع الأزهر!.
صفحة ٥٠