من ذكريات الحج
علي الطنطاوي (ت 1420ه - 1999 م)
نشر عام 1955
ألا ترون العروق الشعرية كيف تحمل الدم من أطراف الجسم ثم تصبه في الأوردة الكبار، حتى يدور دورته في القلب مجتمعا، وفي الرئة منتشرا، فيصفو بعد العكر، وينقى من الوضر، ويعود في الشرايين دما أحمر جديدا، بعد أن كان في الأوردة دما أسود فاسدا؟ كذلك الحج.
يأتي المسلمون من آفاق الأرض الأربعة، أفرادا ثم ينتظمون جماعات، ثم يدورون حول الكعبة قلب الأرض المسلمة، ثم ينتشرون في عرفات رئة الجسم الإسلامي فتصفي نفوسهم من أكدار الشهوات، وتنقى أوضار الذنوب، ويعودون إلى بلادهم أطهارا، قد استبدلوا بتلك النفوس نفوسا جديدة كأنها ما عرفت الإثم، ولا قاربت المعاصي.
لذلك كان الحج أكبر أمنية يتمناها لنفسه المسلم، ويتمناها له إخوانه وأصدقاؤه، فهم إذا دعوا له دعوة صالحة دعوا له بالحج.
وإذا كان أقصى ما يتمناه من يقدر العالم، أو يكبر الكاتب، أو يهوى الحبيب، أن يزور البيت الذي ولد فيه، والعش الذي خرج منه، والمواطن التي شهدت طفولته وصباه، وكهولته وموته، ويطأ الأرض التي وطئ. وينشق الهواء الذي نشق، فكيف لا يتمنى المسلم أن يزور موطن الروح، ومهوى القلب؛ الأرض التي انبلج منها فجر الإسلام، وأشرقت منها شمسه، وعاش في ربوعها أعظم العظماء، وسيد الأنبياء، حبيب قلب كل مسلم، ومن هو أعز عليه وأحب إليه من أمه وأبيه وولده وأهله، ويدخل من باب السلام، ويبصر البيت الحرام، ويطوف بالكعبة والحطيم، ويرى زمزم والمقام.
هنالك الفرحة الكبرى، التي لا تعدلها أفراح الدنيا، وهنالك اللقاء لا لقاء الحبيب بعد طول الهجران، وهنالك الموكب النوراني الذي يمر من حول الكعبة، موكب الطائفين، من كل جنس ولون، من بيض وسمر، وسود وشقر، وشيوخ وفتيان، ورجال ونسوان، من كل قطر من أقطار الأرض، ينادون بكل لسان، يدعون ربا واحدا يسألونه، وهو الكريم لا يرد سائلا، ولا يضجره سؤال.
إنكم لتعجبون إن رأيتم موكبا يمشي ساعات لا يقف ولا ينقطع، أو أبصرتم جيشا يلبث أياما، وهو يمر لا يتريث ولا ينفد، فاعجبوا، واعجبوا أشد العجب من موكب بدأ يمشي من خمسة آلاف سنة، من يوم بنى إبراهيم هذه البنية، ولا يزال يمشي إلى اليوم يطوف بهذه الغرفة القائمة في واد غير ذي زرع من بطن مكة، المبنية بالحجارة السود، الخالية من الصقل والتهذيب والزخارف والنقوش، ومن نعم الله على الإسلام أنها بقيت كما هي، فلم تمتد إليها اليد بمثل الفن الذي أراقته العبقرية الإسلامية على الأموي وقبة الصخرة والحمراء وتاج محل؛ لأن كل بارع من الفن قد يوجد ما هو أبرع منه، أما الفطرة الساذجة التي شيدت بها الكعبة فستظل أبدا نسيج وحدها، في العظمة والخلود.
هذا الموكب الذي بدأ يمشي من خمسة آلاف سنة، ولا يزال يمشي إلى اليوم، وسيقف كل جيش في الدنيا مهما بلغ من القوة والعديد، وكل موكب بشري مهما حوى من الفخامة والعظم ، ويظل هذا الموكب يمشي، يمشي ما بقي الزمان ماشيا على طريق الأبد، يمشي في وقدة الشمس المتلظية في آب، ويمشي في قرة الشتاء في كانون، ويمشي في رأد الضحى، ويمشي في هدأة السحر، يمشي في الليل وفي النهار، يمشي في هناءة السلم، وفي غمرة الحرب، يمشي رغم النكبات والمصاعب والأهوال.
لم توقف سيره جيوش الصليبيين لما رمتنا بها أوربة، فجاءت كالسيل المنهمر، ولكنه سيل من نار مدمرة، وهلاك مبيد، ولا القرامطة لما ثاروا ثورة البركان يرمي بالحمم، وعاثوا في الأرض فسادا وتدميرا، وأدخلوا الموت إلى الحرم الآمن، ولطخوا بدم الطائفين أرض المطاف، ولا المغول لما هبوا كما تهب الريح الصرصر العاتية، تدمر كل شيء، لا وليس في الوجود قوة بشرية تستطيع أن تقف موكب الخلود الذي يطوف أبدا حول الكعبة البيت الحرام.
إنه ليس الخبر كالعيان، وأنا مهما أوتيت من البيان لا أستطيع أن أصف لكم ما يحس به الحاج عندما يقف على باب الحرم، ويرى الكعبة لأول مرة، فقولوا: آمين! أسأل الله أن يكتب لمن يريد منكم ألا يموت حتى تكتحل عينه برؤية هذا المشهد، مشهد الكعبة، الكعبة التي تتوجهون إليها من الشام ومصر والمغرب والمشرق، وكل بلد على ظهر الأرض تتخيلونها بقلوبكم من وراء الجبال والصحارى والآكام البعاد، وكلما اقتربتم منها مرحلة شعرتم بازدياد الشوق، وغلبة الجهد.
تحسون كأنكم تدنون من الحبيب ودونه الحجب والأستار، فلا تزال ترفع لكم حجابا بعد حجاب وسترا بعد ستر، حتى تروا طلعة الحبيب، وأين طلعته من طلعة الكعبة، قبلة الإسلام، ومهوى القلوب.
ها هي ذي الكعبة يا ناس، وهذا الحطيم وزمزم والمقام، لقد صحت الرؤى وتحققت الأحلام، وهؤلاء المسلمون صفوفا حولها، وراءها صفوف، صفوف تمتد إلى خارج الحرم إلى وراء الحجاز، إلى الدنيا كلها، فهذه مركز الدائرة وهذه سرة الأرض، وهنا يلتقي المكان كله، فالمشرق هنا والمغرب، والنائي من الأرض والداني، وهنا الشام ومصر والعراق والمغرب وفارس والمشرق والهند هنا، وجاوة والأرض المسلمة كلها، وقد جاء أبناؤها من كل مكان، كما تصب الجداول في النهر الأعظم تدور معه حتى تستقر معه في حضن البحر الرحيب، يطوفون بالكعبة ثم يمضون إلى حضن عرفات. فلا ترى إلا بحرا يموج بالسفائن البيض، بالخيام التي تبسم طهرا لعين الشمس.
قلت لكم إنه ليس الوصف كالعيان، ولا يستطيع قلم ولا لسان أن يصف لكم هاتيك العواطف السماوية، التي تملأ قلب المسلم إنه يطوف بالكعبة، فيخرج من حاضره، وينسى دنياه، ويرى أمامه هذا الموكب الطويل يمتد خلال الزمان، فيبصر الخلفاء تمشي معه، والصالحين والعباد والأئمة، ويرى أبا بكر وعمر وعثمان وعليا، ويبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يمشي على أثره، يدور من حيث دار، ويضع شفتيه موضع شفتي محمد الحبيب على الحجر الأسود.
صدقوني إن كل لذات الدنيا، بطعامها وشرابها ولباسها ومتع شهواتها ومناعم أموالها، لا تبلغ ذرة من اللذة الروحية التي يشعر بها الحاج وهو يلثم الحجر الأسود، الذي لثمه محمد، ومن قبله أبو الأنبياء إبراهيم، صلى الله عليهم جميعا. فقولوا آمين، أسأل الله أن لا يحرمكم هذه النعمة.
وعرفات، إنها لن ترى عين البشر مشهدا آخر مثله، هيهات ما في الدنيا ثان لهذا المشهد العظيم، ولقد يجتمع في المعارض والألعاب الأولمبية واحتفالات التتويج في بلاد الغرب حشود من الناس وحشود، ولكن شتان ما بين الفريقين، أولئك جاؤوا للمتعة والفرجة والتجارة، وحملوا معهم دنياهم، وقصدوا بلدا زاخرا بأسباب اللذة والتسلية، وهؤلاء خلوا دنياهم وراء ظهورهم، ونزعوها عن أجسادهم ومن قلوبهم
مشهد لو كان يجوز أن يشهده غير مسلم لاقترحت أن تجعله هيئة الأمم المتحدة عيدها الأكبر، إذ هنا أعلنت حقوق الإنسان، لا كما أعلنت في الثورة الفرنسية، ولا كميثاق الأطلنطي الذي كتب على الماء، أعلنت قبل ذلك بأكثر من ألف سنة، وطبقت حقيقة، يوم قام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فأعلن الحرية والمساواة وحرمة الدماء والمساكن ووصى بالنساء، وقرر لهن من ذلك اليوم الاستقلال الشخصي والمالي، مع أن أكثر قوانين الأرض المدنية لا تقر للمتزوجة في أموالها هذا الحق، وكان هذا المشهد في كل سنة دليلا قائما يملأ عيون البشر وأسماعهم على أن ما قرره محمد قد طبق أكمل التطبيق.
مشهد يهدم الفروق كلها، فروق الطبقات وفروق الألوان، وفروق الأجناس، الناس كلهم إخوة، لا ميزة لأحد على أحد إلا بالعمل الصالح، وإذا كان اللباس الرسمي في الحفلات والمواقف الرسمية ما تعرفون، فاللباس الرسمي هنا قطعتان من قماش فقط، لا خياطة ولا أناقة ولا زخرف، ولا يفترق في هذا المقام أكبر ملك عن أصغر شحاد.
إنه مشهد عجيب، إنه أعجوبة الأعاجيب.
عشرات وعشرات من آلاف الخيام، تحتها أقوام من كل بقعة في الأرض، لا يجمعهم لون ولا لسان ولا بلد، ولكنهم لا يقفون ساعة حتى يحس كل أنه أخ للآخر، أعز عليه من أخيه لأمه وأبيه، إخوان وحدتهم العقيدة، ووحدتهم القبلة، وربما عادى الأخ أخاه حقيقة، إن لم يكن دينه من دينه، ومذهبه من مذهبه؛ لأن أخوة الدين والمذهب أقوى من أخوة النسب.
إنهم يضجون بكل لغة، يهتفون جميعا: لبيك اللهم لبيك، لبيك إن الحمد لك والملك لا شريك لك، دعوتنا فجئنا من أقاصي الدنيا، لم تمنعنا الجبال ولا القفار ولا البحار، ولم يمسكنا حب الأهل والولد، دعوتنا إلى القرآن لا قراءة وترنيما وتغييبا، بل عملا وتطبيقا، فقلنا: لبيك اللهم لبيك، دعوتنا إلى العزة والوحدة والصدق في القول والعمل، فقلنا: لبيك اللهم لبيك. دعوتنا إلى الجهاد؛ جهاد النفس وجهاد الكافرين، فقلنا: لبيك اللهم لبيك.
لبيك اللهم لبيك، لبيك إن الحمد لك والملك لا شريك لك.
إن الحج هو الدورة التدريبية الكبرى، التي تقوي الأجسام والأرواح، التي تربي الأجساد والقلوب، التي تعد للحق جيشا جنده متمرسون بالشدائد، حمالون للمصاعب، سامون بأرواحهم إلى حيث لا تستطيع أن تبلغ مداه روح.
إن الحج عيش في تاريخ المجد، في سيرة الرسول، في سماء الإيمان، إنه النهر الذي يغسل أوضار الناس، إنه الرئة التي تصفي الدم، وترده أحمر نظيفا مملوءا بالصحة والحياة.
إنه المؤتمر الإسلامي الأكبر.
أسأل الله أن يكتبه لمن لم ينعم به منكم، وأن يجعل لي ولمن حج معادا إليه.
صفحة ١٩