ولو كان هناك وجدان شعبي لكتب أدباء العرب للشعوب العربية، عندئذ كانوا يكتبون بلغة هذه الشعوب التي يتحدث بها أفرادها.
وعندما نقرأ أشعار شوقي نحس أنه أديب يكتب للأدباء، وكل من يعرف حياة شوقي والوسط العالي الذي كان يعيش فيه ليدرك الأسباب التي جعلته يكتب بأسلوبه المتعالي، فإن هموم الشعب في حي بولاق، لم تدخل قط في وجدانه الأدبي، وقد كان هو يتعالى في عيشه فتعالى في أسلوبه، ومن هنا نحن نؤثر حافظ عليه؛ لأنه أقرب إلى الشعب منه، ولكن حتى حافظ لا يزيد على أن يكون في أكثر حالاته، أديبا يكتب للأدباء.
ولهذا الحال أسباب واضحة بل فاضحة، هي أن هناك هوة كبيرة تفصل بين الأدباء وبين عامة الشعب، ولذلك لم ترتفع هموم هؤلاء إلى أقلام أولئك، كما أن هؤلاء الأدباء لم يصلوا إلى وجدان بحالتهم تنبههم إلى واجبهم نحو الشعب. •••
رسالة الكاتب المصري في وقتنا هذا أن يرشد وأن يكافح، فأما الإرشاد فهو من حيث توجيه القارئ العربي الذي انقطعت جذوره في الشرق ولما تصل إلى الغرب، وعلينا نحن الأدباء أن نواجه أولئك الذين لا يزالون شرقيين، أولئك المرددين بأن في الشرق روحية وفي الغرب مادية، علينا أن نوجههم جميعا نحو الغرب، أي نحو الحضارة العصرية، بأن ننقل إليهم المثل والقيم البشرية كما هي في أوروبا.
وهذا التوجيه هو في صميمه كفاح، كفاح من أجل تحرير المرأة بالعمل، وتحرير الشعب من الفقر والجهل والمرض، كفاح ضد القرون المظلمة التي لا تزال تخيم على عقول كثيرين منا، وأخيرا كفاح الدول الاستعمارية التي تفسق بالعقول وتقتل البشرية،
ما هو هذا الذي نكافحه نحن الكتاب المصريين؟ نكافح حي بولاق، ونكافح مصر المجسمة في حي بولاق.
عندما أجول في هذا الحي أحس كأننا قد هيأنا منازله وأزقته وناسه كي نعرضها على الأديب الناشئ حتى يعرف رسالته المستقبلة، وهي أن ينقل مصر من هذا الخراب الوعر إلى الحضارة المهذبة، وإني لأقف بين أزقة هذا الحي، وأتلبث فيها، كي أملأ حواسي بما تحوي من قبح، وإني لأتأمل رطوبة الجدران، وكأنها غنغرين قد تمدد وفسد، وإني لأحس أن الجهل والفقر والمرض لتكمن جميعها في هؤلاء السكان الذين تجردوا من كل مميزات المتمدنين، وإني لأسير على أرض هي براز وبصاق وذباب قد عممت في الهواء عفنا وخمولا يملآن النفس كربا وهما، وإني لأتأمل وأتشمم وأتحسس هذه الأزقة، ناسا وجدرانا، فأحترق، وأحس رسالة الأديب في مصر.
هذه هي الحال المصرية التي يجب علينا أن نغيرها، فإذا لم نفعل فنحن لسنا مقصرين فقط بل خونة، وحين يفر أحدنا من حي بولاق إلى التاريخ الماضي، فيكتب عن زوجة الرشيد أو عدل المأمون أو حرب علي ومعاوية، فإنه بفراره هذا، إنما يخون أدبه، وهو بمثابة الجندي الذي فر من الميدان؛ لأن ميداننا جميعا، الميدان الأول، هو حي بولاق ورمزيته لوطننا.
هذه هي خيانة الكتاب، وإني لأستطيع أن أذكر الأسماء لعدد غير صغير من كتابنا بدأوا ملهمين، يحدثون قراءهم عن تلك الحالات الحميمة للقلب والعقل في دراسة الإنسان والطبيعة، ثم طمسوا هذا الإلهام وعادوا يكتبون عن الماضي. •••
لقد تأملت كثيرا، في حسرة وألم هذا التخلف أو القصور في الأدب المصري الحديث، بحيث لا نجد نابغا أو عبقريا يقاس بأولئك النبغاء أو العبقريين في أوروبا أو في الهند، وبعد إنعام التأمل أجد أن أكبر الأسباب لحالنا هو هذا التردد بين الثقافتين: ثقافة الشرق والتقاليد، وثقافة الغرب والابتداع. وقليل من التفكير السيكولوجي هنا ينيرنا.
صفحة غير معروفة