هذا الدستور يقوم على فصل الدين عن الدولة وعلى تأميم أكثر من مئة صناعة فرنسية، ولا يكاد يمر يوم حتى نقرأ عن سياسي عظيم يلقي محاضرة أو خطبة في السياسة، وهي ليست سياسة فرنسا وحدها بل سياسة الأمم الأخرى.
والجرائد الفرنسية تعنى عناية كبيرة بدرس السياسة، بل إن بعض الأحزاب تعلق صحائف جرائدها على الجدران؛ كي يقرأها أولئك الذين لا يريدون شراءها، والقهوة هي قبل كل شيء سياسي، كثيرا ما يحمى فيه النقاش السياسي بين الحاضرين.
وكذلك الطلبة يؤلفون الجمعيات لدرس السياسة، ولا تخشاهم الحكومة؛ لأنها لا تحس فسادها كما تحس الأحزاب الفاسدة السابقة عندنا، وكذلك ليس عندهم استعمار يكره الحريات ويتوجس منها.
ولا يزال بعيدا ذلك اليوم الذي نجد فيه الطلبة المصريين يحتفلون بحريات الأمم الأخرى ويذكرون آلام الأمم المخضعة، ويجب أن يكون بعيدا؛ لأننا ما زلنا غارقين في همومنا يستبد بنا المستعمر، وإن كنا قد تخلصنا من المستبدين الوطنيين.
ولكن الإنسانية التي بعثت الطلبة في باريس إلى أن يذكروا آلامنا سوف تنفذ إلى قلوب طلبتنا في المستقبل أيضا، حين نتخلص من المستعمرين الإنكليز، وحين نشرع في درس سياستنا الداخلية بروح النزاهة والشرف.
باريس بعد 40 عاما
كنت في باريس قبل أربعين سنة طالبا، أو بالأحرى تلميذا، أتعلم اللغة الفرنسية في مدرسة داخلية في «موليري» وهي قرية تبعد عن باريس بنحو ثلاثين كيلو مترا، ولكني كنت أزور العاصمة مرة كل أسبوع، ثم قضيت فيها أكثر من شهر مدة الإجازة السنوية فيها، وكنت أنظر إليها بعين الشباب، أما الآن فإني في العقد السابع أنظر إليها بعين الشيخوخة، أو على الأقل الكهولة، وبين النظرتين بون شاسع.
ولذلك لا تليق المقارنة بين باريس في 1912 وباريس في 1952، وذلك لأنه إذا كانت باريس لم تتغير فإن الناظر إليها قد تغير، ومع ذلك لن أحاول أن أكون موضوعيا ولن أستطيع؛ لأن انطباعاتي عن باريس متأثرة من ذاتيتي.
وقبل أن أتحدث عن هذه الانطباعات يجب أن أقول: إنه على الرغم من التغييرات العديدة، فإن النفس، نفس باريس، لم تتغير، ولكل مدينة كبيرة قديمة نفسها التي نحسها من مبانيها القديمة ومن لهجة سكانها، ومن مدارسها، ومن أسواقها، وأخيرا من طراز العيش فيها.
وفي باريس معابد كثيرة للدين والفن والعلم، تجعل ماضيها حاضرها وحاضرها ماضيها، فيها كنيسة نوتردام، ومسرح الأوبرا، وجامعة السوربون.
صفحة غير معروفة