وكان أول مؤرخ يعلل التاريخ وينظر إليه النظرة المادية، ويجد أن حوادثه ليست طوارئ ومصادفات، وإنما هي نتائج لأسباب وأسباب لنتائج، وهي تطورات وثورات تقتضيها ظروف الطبيعة أو ظرف الاجتماع.
وقد كانت حياته حافلة، بل مزدحمة، بالأحداث العظام، مثل الطاعون الجارف الذي عم القارات الثلاث، ومثل هجوم التتار بقيادة الوحش تيمور لنك وتدميره حضارة الشرق الإسلامى في آسيا، وهذان الحادثان جديران بأن ينبها الذهن العادي فضلا عن الذهن الفذ الذي كان يمتاز به ابن خلدون، وهما بمثابة هاتين الحربين العالميتين اللتين وقعتا في عصرنا من 1914 إلى 1945، فإنهما أيضا قد نبهتا الغافلين قبل المتنبهين وعممتا بيننا وجدانا بالبشرية وضرورة الحكومة العالمية، وقد نشأ من الحرب الأولى «عصبة الأمم »، ونشأ من الحرب الثانية «هيئة الأمم المتحدة».
وكانت حياة ابن خلدون نفسها كثيرة الأحداث، فإنه ولد في تونس، وشغل المناصب السياسية في مراكش وإسبانيا، وعاد إلى تونس حيث ألف كتابه العظيم «المقدمة والتاريخ» ثم رحل إلى مصر حيث بقي بها نحو 23 عاما استخدم في أثنائها في السفارة إلى تيمور لنك الذي قابله عند دمشق.
والذي يقرأ «المقدمة» يجد عبارات جديدة لم يكن يعرفها الكتاب من قبل، هي ما ابتكره هو من الأفكار، مثل «العمران البشري» و«الاجتماع الإنساني» و«تأثير الهواء في ألوان البشر» و«العمران البدوي والأمم الوحشية» و«إن للدولة أعمارا طبيعية كما للأشخاص» و«إن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم» إلخ ...
وقد يكون مخطئا في كثير من أبحاثه، ولكن جدتها كانت تبعث على التفكير والمناقشة، وكان يمكن أن تخصب هذه «المقدمة» لو أنها وجدت من المتعلمين في مصر وسائر الأقطار العربية من يوالونها بالنقد والشرح والتعليق، وهذا ما لم يحدث لأسباب ما زلنا نجهلها.
وظني أن بعض ما حال دون ذلك هو كراهة ابن خلدون للعرب وعدوانه على ثقافتهم في المعنى العصري لهذه الكلمة، وقد كنت أنا أول من استعمل كلمة «الثقافة» بمعناها العصري، وكان ابن خلدون هو الموحي إلي به.
ومن العجيب في ابن خلدون أنه يذكر «العصبية» كثيرا، ولكنه لا يذكر الأسرة، وهو لا يكاد يكون في غيبوبة تامة عن مكانة المرأة في المجتمع، ولا عبرة بأن يقال: إنه نشأ في وسط اجتماعي يعوق بصيرته، فإن ابن رشد قد سبقه بسنوات إلى هذا الموضوع، وتحدث عن ضرورة ارتقاء المرأة، وأنها يجب أن تخالط المجتمع وتؤدي وظائف الدولة.
ثم إنه كان يعرف المجتمع الأوربي؛ إذ عاش فيه بضعة أشهر في سفارته إلى ملك إشبيلية، ولكنه لم يقارن بين المجتمعين الأوربي والعربي، مع أنه قارن بين أساليب الحرب الأوربية والأساليب العربية، وآثر الأولى على الثانية.
والخطأ البارز في ابن خلدون هو تنقصه حضارة العرب، فإنه هنا أعمى كامل العمى لا يرى بصيصا من نور، وأنا لا أعزو هذا العمى إلى أنه بربري يكره العرب، فإن هذا القول ليس تفسيرا، وما أظن أنه كان يخدع نفسه فيرى فضائل العرب نقائص، ويكتب هذا في «مقدمة» أخلص فيها التفكير وأراد أن يصل فيها إلى استنتاجات منطقية. هذا مع أني أحتفظ له بخيانات شخصية وثقافية، فإنه مثلا خان معظم الأمراء والملوك الذين خدمهم، ثم إنه سرق كل ما كتبه إخوان الصفاء وعزاه إلى نفسه.
ولكن حملة ابن خلدون ترجع إلى جهله لا أكثر، فإنه رأى الإعراب، ولم ير العرب.
صفحة غير معروفة