أما دستوفسكي فيمكن أن نسميه الكاتب الصوفي الذي يجد في تاريخ الإنسانية، ماضيها ومستقبلها، خيرا من المسيحية، فهي صخرة الأمان عنده إذا ادلهمت الكوارث، وأشخاص قصصه نفوس أكثر مما هي أشخاص، يجري النقاش بينهم بشأن كوارثهم التي تختلف ألوانها وتتفاوت مقاديرها على مستوى الإيمان الفلسفي والاستكانة والرضا بما هو قائم، وهو إلى حد كبير، شرقي يكره الغرب الذي ينزع إلى المادية، ونحن الشرقيين نحبه؛ لأننا نجد في اختبارات أبطاله وعواطفهم أصداء لما نحسه من اضطرابات وقلاقل نفسية، هي ثمرة الحرمان والفقر والجهل وسائر الرذائل التي تولدت من الاستعمار والاستبداد، وقد كانت روسيا حين ألف دستوفسكي قصصه، في استعمار واستبداد بحكم القياصرة والنبلاء والشركات الأجنبية.
وأعظم ما يمتاز به دستوفسكي أنه يفكر بإحساساته، وهي إحساسات ذكية تتعمق المشكلات وتستنبط منها الإنسانية، ومشكلاته هي البؤس والحرمان والإجرام، ولكنها تنبع من صميم شعب جائع غاضب حزين، وقل أن نجد في أوروبا الغربية الثرية من يحبه؛ لأنه لا يجد نفسه صدى لأفكاره أو إحساساته، وإنما نحن الشرقيين نجد هذا الصدى ونحبه ونفتتن به. •••
لقد مرت بحياتي فترة شغفت فيها بمؤلفات هذا الكاتب شغفا عظيما جدا حتى إني ترجمت جزءا من قصة «الجريمة والعقاب» في 1912 وطبعته على نفقتي، ولكن فوضى النشر، ولصوصية الاتجار بالكتب في ذلك الوقت، حملاني على أن أكف عن نشر باقي القصة.
ودستوفسكي قصصي من الطراز الأول، بل لا يعلو عليه في العالم قصصي آخر، وعندما نقرأه لأول مرة نسحر به، ولكن هذا السحر يدل على حالنا النفسية المريضة؛ ذلك أن أبطاله يمثلون الشك المؤلم والحيرة المضنية في الأزمات النفسية، وهذه الحيرة تصيب كلا منا في فترات من حياته: الحيرة بين العلم والدين، والحيرة بين الثورة والاستسلام، والحيرة بين الموضوعية والذاتية إلخ ...
ومثل هذه الحيرة تصيب المستنيرين الذين لا يزالون في موقف الشك، وجميع أبطاله من هذا الصنف، فإن بطل «الجريمة والعقاب» طالب يقتل عجوز بدوافع فلسفية، و«الإخوة كارمازوف» كلهم فلاسفة حائرون، وأحدهم حمار عظيم يقتل أباه بحافز من العلم المادي.
وكان دستوفسكي يكره العلم ويؤثر العقيدة على الحقيقة، بل إن له كلمة أخجل من ذكرها هنا قالها عن المسيح، وكان يستحق عليها المارستان مدى حياته، لولا أنه قالها عن إحساس إنساني عميق نكاد نذوب عندما نتأمل معانيها.
ونحن حين نعجز عن معالجة المظالم الاجتماعية، وحين نقف أمام القدر مهزومين، وحين يجابهنا المرض وعليه علامة الحكم بالإعدام، وحين نواجه هوان الفقر والمرض والجوع، في هذه الحالات جميعا نخضع ونستسلم، بل نمدح هذا الواقع ونجد فيه «نظاما» ينطوي على عدل لا نفهمه، وعندئذ تبدو كل هذه الحالات حسنة تجد التبرير في منطق تعاستنا، هذا هو موقف دستوفسكي الذي أحبه القيصر، وكان يزوره رئيس الكنيسة الروسية، بل إن دستوفسكي هذا نفسه قد وقف يخطب وينعي على الحضارة الأوروبية ماديتها، ويطالب بمقاطعتها وبقاء روسيا في روحيتها، أجل هذه الروحية التي أثمرت راسبوتين ...
ولكن هناك من يرون أن المظالم الاجتماعية يمكن علاجها، وإننا نستطيع أن نلغي الفقر والمرض والجهل من الدنيا بقوة العلم، وهؤلاء يكرهون دستوفسكي؛ ولذلك وصف مكسيم جوركي أفكاره بأنها «سامة».
لقد كنت في أول شبابي وفجاجة ثقافتي أجد في دستوفسكي لذة التحسر، أي: لذة الألم، لذة العجز والاستسلام لكوارث الحياة؛ إذ كانت هذه الكوارث لكثرتها وفداحتها لا تطاق إلا بالاستسلام، أما الآن فإني مع مكسيم جوركي أجد أن أفكار دستوفسكي تسم العقول، وأن الثورة، لا الاستسلام، هي العلاج لكوارث المجتمع بل لكوارث القدر. •••
وقد كان دستوفسكي من الشعب وكتب للشعب، الشعب الحزين أيام القياصرة، أما تولستوي فكان من الارستقراطية، وكان يتمتع عند أشخاصها بلقب «كونت» ولكنه، مثل الأمير كوربتكين، ترك هذه الارستقراطية ونزل إلى الشعب، فاعتنق بؤسه وفكر في كوارثه، وانتهى كما انتهى دستوفسكي إلى أن السعادة لا يمكن أن تتحقق إلا بتعميم المبادئ المسيحية.
صفحة غير معروفة