إن كتاب مصر الآن رومانسيون، يتبعون الخيالات الكاذبة والإحساسات البدائية عندما يكتبون عن الشعراء العرب، وعلي الوردي موضوعي، واقعي، يقول: إن الخلفاء كانوا يظلمون الشعوب العربية، ويجدون من الشعراء مؤيدين لهم مادحين لظلمهم. •••
الواقعية تعني أن التأليف الفني ليس هو البراعة في محاكاة القدماء في أفكارهم وكلماتهم، وأساليبهم، وأهدافهم، وإنما هي النظر الموضوعي إلى المجتمع ومحاولة الوصول إلى كنه حقائقه وأصوله والتعرف إلى أسباب سعادته وتعاسته.
والكاتب الواقعي لا يستسلم للأوهام بأن يكون موضوعه فخما يتناول أميرا أو ملكا أو قائدا، ويكتب الأضاليل والأكاذيب عنه؛ لأن واقعيته قد نقلت اهتمامه من هذه الموضوعات الملوكية إلى الشعب، إلى الآلاف والملايين الكادحة، إلى الإنسانية.
فهو مثل تولستوي، يعالج الحرب كما هي في واقعها ونتائجها ودمائها وأمراضها وأغراضها العليا، إذا كانت حرب كفاح ضد العدوان. أو أغراضها السفلى، إذا كانت حرب استعمار وعدوان، وهو يسائل : ما هي القيمة الإنسانية في حرب ما؟
إني أحب، عندما يتحدث أحد عن عبقرية المتنبي، الذي وقف حياته على مدح سيف الدولة وسب كافور، أن أسأل: أما كنا نحب المتنبي، ونعجب به أكثر لو أنه ألف قصيدة في وصف حياة عبد، قد اشتراه سيده وهو في العاشرة من عمره، ثم خصاه كي يعيش مع الحريم طيلة عمره؟ وأحب شوقي أكثر لو أن شوقي، الذي وقف حياته على مدح عباس، كان قد ألف دراما عليا عن عرابي، الذي دافع عن استقلال مصر، وكافح استبداد الخائن توفيق؟
إن الواقعية هي الإنسانية، هذه الإنسانية التي كانت تطرق أذن المتنبي وشوقي، وتناديهما بشأن الرق الرسمي في أيام سيف الدولة الفعلي وفي أيام توفيق، ولكن هذه الآذان كانت في صمم عن هذا النداء الإنساني؛ لأن هذين الشاعرين لم يكونا يعيشان في المجتمع، وإنما كان يعيشان فوق المجتمع، ولا يزال الرق باقيا إلى عصرنا، إلى هذه السنة 1958، في بعض الأقطار العربية، ولم يصرخ أديب صرخة الشرف ضد السفلة من الأمراء والأثرياء الذين يمارسونه، وذلك لسبب واحد هو أن أدبنا التقليدي غير واقعي، ملوكي غير إنساني. «الإنسان» ليس موضوع الأدب العربي في أيامنا. «شئون المجتمع» المصري أو العربي ليست من شئون الأدب، مع كلماتي هذه بما تحتوي من لهجة التعميم، أحب أن أتحفظ وأن أقول: إن طائفة جديدة من الكتاب، جديدة في الوجود؛ لأن أفرادها لا يزالون صغارا، بالمقارنة في السن إلى غيرهم، قد وجدت الطريق إلى الإنسانية والمجتمع فأنشأت الأسلوب الواقعي، وقد أمضى أفراد هذه الطائفة أو معظمهم بعض سني شبابهم في السجون لهذا السبب، وكانت هذه السجون مدارسهم التي أختمروا فيها، وبعد الاختمار الانفجار، أو بعد الاضطرام الاشتعال. ••• «الإنسان» هو كما قلت موضوع الواقعية.
الإنسان العادي في نظامنا الطبقي؛ العامل والعاملة، والزوج والزوجة، والطالب والمعلم، والأرملة واليتيم، والشاب والشيخ، كل هؤلاء وغيرهم يكدحون كي يعيشوا بعيدين عن خطر المرض والجوع والفقر والحرب، ولا يمكن أن يعرف الفنان في عصرنا مشكلات هؤلاء الأفراد العاديين إلا إذا درس الاقتصاد والاجتماع.
ألا يدخل الاقتصاد بيت الزوجة الأم عندما تشتري رغيف الخبز وطبق الفول في الصباح؟
ألا يدخل الاجتماع بيت الزوجة الأم عندما يرميها زوجها بالطلاق؟
ألا يدخل كلاهما السجن عندما يتعطلان عن العمل الكاسب ويسرقان؟ ألا يدخلان القبر عندما يجوعان هما وأبناؤهما حتى الموت؟
صفحة غير معروفة