حياة أدب وأدب حياة
تأملات نهرو في السجن
كيف نكون عبقريين؟
كتب العلم وكتب الأدب
هل الأدباء والفنانون مجرمون؟
نحو النظافة
أرجو أن يحرق جثماني بعد وفاتي
المستبد الفاسد
الواقعية في الأدب العصري
ثلاثة عمالقة
بين البراعة والإنسانية
إنسانية العلم
العرب والعلم والصناعة
والفلسفة للشعب أيضا
ابن خلدون والعرب
شاعران من مصر
صلاح الدين ومقامه في التاريخ
نابليون في مصر
أدباء فرنسا في اللغة العربية
حيوية التفكير السياسي
باريس بعد 40 عاما
دماء الأعناب في فرنسا
المسلمون في الصين
المرأة العربية الجديدة
ختان البنات
جحا العاقل وجحا المغفل
رسالة الكاتب
حياة أدب وأدب حياة
تأملات نهرو في السجن
كيف نكون عبقريين؟
كتب العلم وكتب الأدب
هل الأدباء والفنانون مجرمون؟
نحو النظافة
أرجو أن يحرق جثماني بعد وفاتي
المستبد الفاسد
الواقعية في الأدب العصري
ثلاثة عمالقة
بين البراعة والإنسانية
إنسانية العلم
العرب والعلم والصناعة
والفلسفة للشعب أيضا
ابن خلدون والعرب
شاعران من مصر
صلاح الدين ومقامه في التاريخ
نابليون في مصر
أدباء فرنسا في اللغة العربية
حيوية التفكير السياسي
باريس بعد 40 عاما
دماء الأعناب في فرنسا
المسلمون في الصين
المرأة العربية الجديدة
ختان البنات
جحا العاقل وجحا المغفل
رسالة الكاتب
مقالات ممنوعة
مقالات ممنوعة
تأليف
سلامة موسى
حياة أدب وأدب حياة
لم يقل أحد إن غاندي كان أديبا، ولم يقل هو نفسه ذلك، ولكن حياته كانت أدبا عظيما إذا فهمنا أن العظمة الإنسانية هي الموضوع الأول للأدب، وبرهان ذلك أننا نستطيع أن نؤلف قصة رائعة أو قصيدة سماوية عن حياته، يكون هو بطلها الذي يقتحم الأفكار ويبني الإنسانية، ويلهم الأمم ويخلق من الضعف قوة تحطم الاستعمار.
كانت حياة غاندي أدبا وفلسفة، وكذلك الشأن في ألبيرت شفيتزر الذي منح جائزة نوبل قبل ثلاثة أو أربعة شهور.
والإنسانيون العظماء في أيامنا صنفان:
صنف يحيا حياة الداعية المكافح الذي يحاول تغيير المجتمع البشري، فهو يكتب ويؤلف ويعمل ويغير، والأنبياء من هذا الصنف. ولكن هناك إنسانيين من غير الأنبياء، أو بالأحرى هم طراز جديد من الأنبياء ، يحاولون تغيير المجتمع؛ مثل كارل ماركس، وجان جاك روسو، وأفلاطون. ولا نكاد نسأل عن حياتهم الشخصية؛ لأننا نقنع بمذهبهم الاجتماعي.
وصنف آخر يحيى حياة القديسين أو ما نفهمه من معاني القداسة، فهم ينصبون أنفسهم للخير، ويجعل كل منهم شخصيته مثالا وقدوة لهذا الخير، ليس لتغيير المجتمع، أو إذا كان لهم ذلك، فهو يتضاءل خلف حياتهم العظيمة.
ومن هؤلاء تولستوي، وجيته، وإخناتون، وشفيتزر. فإني حين أذكر تولستوي أكاد أنسى أنه كان له برنامج اجتماعى يحاول به تغيير معايش الناس، وإنما تلفت ذهني حياته وشخصيته، فأذكره وهو خلف المحراث يحاول أن يكون فلاحا يتعب ويعرق مثل الفلاحين، وأذكره حتى في علاقاته الزوجية، وهو يحاول أن يتقشف في شهواته، وأنا أحبه في كل هذه المجهودات الإنسانية التي فشل فيها جميعا أكثر مما أحبه لقصصه الخالدة.
وكذلك تروعني حياة جيته أكثر مما تروعني مؤلفاته، فإنه جاء هذه الدنيا وبنى شخصيته، بناها بالحب، والعلم، والأدب، والثقافة، والسياسة.
وكذلك إخناتون أحبه لشيء واحد هو أنه كان «الشخصية» الأولى في التاريخ البشري؛ إذ رفض الإيمان بالآلهة، وأعلن استقلاله الروحي، وحطم الأصنام وآمن بإله واحد، وأرجو أن يفهم القارئ أني لا أعجب به؛ لأنه آمن بإله واحد، وإنما رفض الخضوع للتقاليد والعادات، واستقل وفكر وجابه وأعلن وجهر، ولم يبال الكهنة، ولم يبال الخاصة أو العامة.
وكذلك الشأن في ألبيرت شفيتزر، فإن حياته، وليست برامجه، هي موضوع إعجابي وحبي، وذلك أنه اختار الحياة التي شاء أن يحياها، وهذه كلمات تبدو تافهة، ولكن على القارئ أن يتأمل حياته وحيوات غيرها من الناس، فإنه عندئذ واجد أنهم لا يختارون حياتهم، وإنما يختارها لهم المجتمع الذي ينصب لهم الهدف، وعليهم أن يبلغوه، ولكن شفيتزر رفض الجري وراء الهدف الاجتماعي رفض أن يحيى الحياة الأوروبية الناعمة المتمدنة، وأن يحيى فوق المنصة التي بلغها حين صار دكتورا في الغيبيات الدينية، وفي الموسيقى يكسب الكثير من المال ويجد الكثير من الاحترام، رفض ذلك كله، والتحق بكلية الطب في جامعة باريس، عندما كانت سنه قد بلغت الرابعة والثلاثين، ودرس هذه الحرفة الإنسانية بغية أن يتسلح بها، ويقصد إلى إفريقيا كي يشفي جراح الزنوج المتقيحة، التي أنزلها الاستعمار الأوروبى والتقاليد الإفريقية السوداء، عاش حياته كما أراد، وكما رسم هذه الحياة سنة 1911، هو شخصية عالية يجب على كل مثقف أن يعرفها.
وقد أحب المسيحية وعمل بمبادئها، ولكنه كره غيبياتها، فنقب عنها وكشف عن زيفها، وأحب الدنيا والخير، والإنسان والحيوان، وتعمق الثقافة البشرية، وعرف ظلامها ونورها، وآمن بالإنسان وبالحب.
وهو حين أنشا مستشفى للزنوج، كان أعقل من تولستوي حين وقف خلف المحراث يسوق الماشية، ولكن كليهما كان بعيدا عن أن يضع برنامجا للمجتمع يغيره ويصلحه؛ إذ كان يقنع بمجهوده الشخصي، وهو لذلك قدوة عظيمة لكل منا يجب أن ينبهنا حتى لا يغفو ضميرنا ونستسلم للنوم.
إننا نعاصر، أو قد عاصرنا، أدباء حياة في أشخاص الكثيرين من الرجال والنساء قبل ألبيرت شيفتزر ومدام كوري وبرنارد شو وبول سارتر وغاندي ونهرو.
هؤلاء هم أدبنا الحي الذي يروح ويغدو ويعلم ويهذب.
تأملات نهرو في السجن
يجب أن نؤلف عشرين بل ثلاثين بل خمسين كتابا عن الهند، وكيف وقعت في الاستعمار البريطاني؟ ثم كيف نهضت؟ كيف بعث غاندي الحياة الجديدة فيها؟ وكيف أقنع أثرياءها بأن يلبسوا الخيش بدلا من الجبردين الإنجليزي؟ وهو الخيش الذي نعبئ نحن فيه القطن، وكيف حارب غاندي الخرافات حتى قتل البقرة المقدسة بيده؟ وكيف قاد نهرو البلاد نحو النهضة الصناعية الجديدة؟ وكيف رفع المرأة من الأنوثة الشرقية إلى الإنسانية الحرة؟ وكيف تسير الهند هذه الأيام في الزراعة والصناعة والسياسة؟
يجب أن نؤلف عن الهند أكثر مما نؤلف عن أوروبا؛ لأن الهند كابدت ما نكابده، وشربت السم كما شربنا، سواء من الاستعمار الأجنبي أم الاستبداد الداخلي، وعرفت الرجعية كما عرفناها، وكانت لها تقاليد توغل في آلاف السنين كما لنا، وكان لهذه التقاليد رجال يقولون: لا تتطوروا، لا تجرءوا على التفكير.
أقول هذا بعد أن قرأت كتاب نهرو «اكتشاف الهند»، فقد انتهيت منه وفي رأسي طنين من أفكاره وآرائه، وكنت في أثناء قراءتي أحس بالمؤلف رجلا مليئا بالشرف مضيئا بالذكاء عامرا بالأمل.
ولكن لا، ليست هذه صفاته الأصلية؛ إذ هي ثمرة الشجرة الأصلية التي يهفوا قلبي إلى أن أرى مثلها في تربتنا المصرية. إنما الصفة الأصلية في نهرو أنه رجل ناضج ليست فيه فجاجة أو صبيانية، ولن أعود إلى شرح هذه الصبيانية في رجالنا، رجال العهود الماضية، ولكني أرمز إليها بمنظر واحد كنت أراه قبل أكثر من نصف قرن على جسر قصر النيل، فقد كان الأمراء السابقون يخرجون في عرباتهم التي كانت تجرها خيول مطهمة، كل منهم يبدو كما لو كان حصانا أو حمارا قد شد لجامه فارتفع رأسه وانبعج بطنه، وكان يتقدم العربة رجلان يحمل كل منهما عصا طويلة تبلغ أربعة أمتار، وقد اكتسى بسترة قزحية الألوان، وكانا يعدوان ويصيحان: هيه. هيه. هيه. أبهة. فخامة. أبهة الصبيان وفخامة الصبيان.
وإني أحس كأني أسب نهرو حين أقول: إنه ليس كذلك؛ إذ هو هنا يعلو على المقارنة، ولكن هذه العربة هي رمز للذهبية، والضيعة، والباشوية، والسيارة، وسائر ما نعرفه عن أبهة هؤلاء الصبيان.
لقد نجحت الهند في تحقيق استقلالها، ونجحت بعد ذلك في احترام العالم صوت ساستها؛ لأن هؤلاء الساسة لم يعرفوا قط هذه الصبيانية. •••
لا أعرف هل كان قدرا أم تدبيرا ذلك الذي هيأ للهند رجلين يشعلان لها طريق المجد، أحدهما يخاطب قلوبها وهو غاندي، والثاني يخاطب عقولها وهو نهرو.
ولكن ليس من شك أن النهضة الهندية احتاجت إلى هذين الرجلين كي تصل إلى تمام فورتها وذروتها.
وهذا الكتاب الذي قرأته لو ترجم إلى اللغة العربية لزاد على ألف صفحة، وهو واحد من كتب عديدة ألفها نهرو في السجن، فقد أقام في سجون الهند نحو ثلاث عشرة سنة؛ لأنه هندي يحب الهنود، أو لأنه إنسان ينزع إلى الإنسانية، وهو يبدو في هذا الكتاب أديبا فنانا، واقتصاديا عصريا يعرف قيمة الصناعة، ومؤرخا يشرح الحضارة الهندية قبل ثلاثة آلاف سنة، ولكنه في كل ذلك غربي المزاج، وليس شرقيا؛ إذ يطلب الحضارة العصرية ويؤمن بالعلم، وحسبي أن أنقل إلى القراء بعض السطور التي تنير وتدل. •••
هو الآن في السجن ينظر إلى القمر فيقول:
إن القمر، وهو رفيقي في السجن، قد توثقت صداقته لي لزيادة استئناسي به، وهو يذكرني بجمال هذه الدنيا، وبنمو الحياة وفنائها، وبالنور يخفف الظلام، وبالموت والبعث يتعاقبان في سلسلة لا تنقطع، وهو على كثرة تغيره باق على ما هو عليه، ولقد راقبته في أطواره المختلفة، وحالاته العديدة حين تطول الظلال في المساء، وفي الساعات الساكنة في الليل، وحين يتنفس الفجر، ويهمس باستقبال النهار القادم، أجل ما أنفعه هذا القمر حين أعد به الأيام والشهور؛ ذلك لأن شكل القمر وحجمه حين يسفر، يعينان الأيام في الشهر بما يقارب الدقة ...
هذه إحساسات سجين قد ألف السجن، فعقد بينه وبين القمر ألفة لا يمكن المستعمر، أو السجان، أن يحرمه إياها.
وهو في هذه الكلمات التالية ينصح للهنود بأن يعتمدوا على العلم الذي يقول عنه:
إن العلم لا يفصح لنا كثيرا أو قليلا عن الغاية من الحياة، ولكن آفاقه تتسع وتتراحب هذه الأيام، ولعله يغزو قريبا ما نسميه «العالم غير المنظور» وعندئذ قد نستعين به على فهم الغاية من الحياة في معانيها، أو هو يتيح لنا على الأقل أن نلمح بعض ما يلقي الضوء على مشكلة الوجود البشري.
ثم يقول هذا الزعيم الذي ساهم في تحرير أمة تبلغ أربعمائة مليون إنسان:
إنى أجدني في صميم نفسى، مهتما بهذا العالم، وبهذه الحياة، ولست أعرف إذا كانت هناك روح، أو أننا سنحيا بعد الموت، ومع أن هذه المسائل خطيرة فإنها لا تقلقني أقل القلق.
ثم يقول:
إن تحضير الأرواح، وما يقال من عقد الجلسات بشأنها، وأنها تظهر فيها، وسائر هذا الكلام، كان يبدو لي على الدوام، شيئا سخيفا ووقحا، باعتباره طريقة أو وسيلة لبحث الظواهر النفسية أو الروحية وخفايا الحياة الأخرى، بل هو في العادة أكثر من هذا، إذ إن تحضير الأرواح هذا هو استغلال لعواطف الناس الذين يجدون أنه من السهل أن يصدقوا؛ إذ هم في حاجة إلى ما يخفف عنهم متاعبهم العقلية، ولست أنكر أنه من الممكن أن يكون للظواهر الروحية أساس من الحقيقة، ولكن طرق معالجتها تبدو لي جميعا مخطئة ...
هذا الرجل «نهرو» قد عاش في إنجلترا كما عاش في الهند، ولذلك هو يقارن كثيرا بين الرقي والانحطاط، فيقول هذا الكلام التالي الذي يجب أن يتعمق أدباؤنا المتزمتزن معانيه:
إن أسباب الانحطاط في الهند واضحة؛ ذلك أنها تأخرت في الصناعات الفنية، في حين أن أوروبا التي كانت متخلفة أخذت بالارتقاء الفني، وكان خلف هذه الصناعات هذا الروح العلمي، وهذه الحياة المتدفقة، التي انتفضت في نشاط واقتحام تكشف الدنيا.
ونحن نجد في التاريخ الماضي للهند تقهقرا يتوالى قرنا بعد قرن، فإذا بروح الخلق والابتكار يتضاءل إزاء التقليد والنقل، وبدلا من الأفكار الثائرة المنتصرة التي كانت تحاول أن تخترق خفايا الطبيعة والكون لم نعد نجد غير المعلقين والشراح بتوضيحاتهم وتخريجاتهم المستفيضة، حتى إن فخامة الفن والعمارة تنهزم وتترك مكانها للنحت الدقيق في التفاصيل المعقدة، بدلا من النبل في التصوير أو التخطيط، كما أن قوة اللغة وخصوبتها، قوة وخصوبة ولكن مع السهولة، تزول وتأخذ مكانها زخارف وأساليب أدبية معقدة.
إني أقف هنا وأتساءل: هل يومئ نهرو إلينا؟
هل هو يتكلم عن تطعيم الخشب بالصدف والعاج، وعن المشربية التي تصنع من نوى البلح؟
هل هو يتكلم عن زخارفنا اللفظية؟ وما معنى قوله: والقوة والخصوبة ولكن مع السهولة؟ أية سهولة؟
هل هي السهولة التي ندعو إليها كي يفهم الشعب؟ •••
وكنت أحب أن أنقل ما قاله نهرو عن الصناعة، وما كان يقوله المستعمرون بأن الهند بلاد زراعية، وما قلت مثله مئة مرة في الثلاثين سنة الماضية حتى صار كلامي عن هذا الموضوع يشبه الهوس، ولذلك سأتركه، وكذلك لن أنقل ما يقوله عن المرأة، أليست شقيقته رئيسة جمعية الأمم المتحدة هذا العام؟ وقصارى ما أقول عن نهرو: إنه رجل أوروبي الذهن مئة في المئة، وإنه يعارض الرجعيين في بلاده كما يعارض المستعمرين.
وإنه لا يبالى بأن يقول للشعب الهندى: أنا كافر بأدبائكم؛ إذ هو يأنف من أن يغش الجماهير التي يقودها؛ ذلك لأنه يقود، ولا ينقاد، حرصا على الزعامة.
وعندما أقارن بين نهرو وبين ساستنا القدامى، الصبيان الذين يحبون هيه، هيه، أحس كأني أقارن بين أرسطوطاليس وبين صبي يعدو بدراجته في الشوارع وهو يطرب بزمارتها.
لقد حاولت أن أعلم ساستنا القدامى، وألفت عشرات الكتب، وكتبت مئات المقالات كي أوضح لهم قيمة العلم، وقيمة الصناعة، وقيمة المرأة في الارتقاء الاجتماعي، ولكني لم أجد غير الاضطهاد والنفور.
إني أنصح لساستنا، الذين أرجو ألا يعود أحدهم إلى الحكم في المستقبل، أن يشتغلوا فيما بقي لهم من أعمار بدراسة الهند أيام الاستعمار وأيام الاستقلال، وأنا واثق بأنهم لن يندموا؛ لأنهم سيتغيرون من الصبيانية إلى الرجولة، ومن فجاجة التفكير إلى النضج.
كيف نكون عبقريين؟
قبل أن نشرح هذا الموضوع نحتاج إلى أن نشرح نقيضه وهو: كيف نكون غير عبقريين؟
والجواب سهل، بل في غاية السهولة، وهو: أننا نكون غير عبقريين إذا كانت الظروف الاجتماعية تمنعنا بالقوانين أو بقوة وضعها الاجتماعي عن ذلك؛ كأن تكون هذه القوانين تقاليد فقط.
إن تاريخ مصر وأوروبا، بل جميع الشعوب يدل على أنه وضعت قوانين لمنع التفكير البكر الأصيل، وسنت قوانين تنص على عقوبة المفكرين، فقد كان في فرنسا مثلا قبل الثورة قانون يعاقب كل من يجرؤ على مخالفة أرسطوطاليس، وكلنا يعرف أن قوانين الكنيسة كانت تطالب بمعاقبة كل من يخالف تقاليدها ونصوصها بفكرة جديدة تنقض هذه النصوص أو تزيد عليها أو تنقص منها.
وأسوأ ما في القوانين المانعة للتفكير أن يؤيدها المجتمع حين تكون العامة هي الكثرة الغالبة في هذا المجتمع، بل أحيانا يكون بحاله من التقاليد، وبلا حاجة إلى قوانين، هو الذي يمنع التفكير البكر الأصيل، ولكن حين يجتمع الاثنان، التقاليد والقوانين، فإن الطامة تفدح والشعب يركد وييأس.
إن مؤلفاتنا العصرية، وأعني تلك التي تحمل الروح العصرية التطورية، لا تدخل اليمن الآن، وليس هذا لأن الإمام يمنع دخولها فقط، بل لأن المجتمع اليمني، بتقاليده وغيبياته، ينفر منها، وفي مثل هذه الأحوال لا يمكن أن ننتظر من اليمن مؤلفا عبقريا يفكر التفكير الأصيل البكر.
والذي يجب ألا ننساه أن العبقرية ليست هبة موروثة، وإنما هي كفاءة يطلبها المجتمع، بحيث إذا لم يطلبها لم توجد، وهذه هي الحال المؤسفة في بعض الشعوب العربية الآن.
وفي مصر منعتنا الحكومة الاستبدادية من التفكير الاجتماعي البكر، أو ما يسميه بعضهم التفكير اليساري، فتخلفنا في التفطن إلى الأصول التي ينبع منها الاستعمار، وإلى العوامل التي يستند إليها، وضاعت منا عبقريات في الفهم الاجتماعي العام بسب العقوبات التي عوقب بها بعض المفكرين الذين جرأوا على التفكير.
ومن عجيب ما أقرأ من وقت إلى آخر كلمات لأحد المغفلين ينعي فيها على المرأة في كافة الدنيا عجزها عن الابتكار والتفكير الأصيل. مع أن القليل من التأمل في حالها الاجتماعية يوقفنا على علة هذا العجز؛ إذ كانت المرأة إلى وقت قريب لا تمارس من الأعمال سوى تلك التي تتصل بالبيت، وهى أعمال لا تحتاج إلى ذكاء، ونحن بإصرارنا على منعها من الاختلاط بالمجتمع، إنما وضعنا بذلك قيودا على ذكائها، ومنعناها من تدريبه وتنبيهه، ولكن هذه الخمسين سنة الأخيرة، التي أطلقت فيها المرأة من حدود البيت، وأخرجت إلى ميادين النشاط الاجتماعي المختلفة، بعثت فيها من الذكاء ما يساوي ذكاء الرجل، وما حدث في أوروبا وأمريكا سوف يحدث في مصر.
نعود فنقول مع الإحساس بالتكرار: إن العبقريات، بل الذكاء؛ مثل اللغة التي هي أعظم وسائل الذكاء اجتماعية، وإنه إذا كان المجتمع بتقاليده لا يحتاج إلى العبقرية أو يعاقب على ظهورها، فإنها لن توجد إلا في أفراد شاذين ثائرين سرعان ما يفرون أو ينتحرون أو يعاقبون، وقد رأينا بعض هذا في مصر مما عطل التفكير السياسي عدة سنين. •••
في القرنين الثاني عشر والثالث عشر ظهرت كوكبة من المفكرين المبتكرين في العالم العربي هم:
ابن رشد الفيلسوف الذي لا تزال فلسفته تناقش إلى الآن في أوروبا.
وموسى بن ميمون الذي هاجر من الأندلس إلى القاهرة، والذى شرح طريقة التفكير المادي.
وابن حزم الذي قال بضرورة الحب، وكان باعثا لإيجاد الحركة الرومانتيكية الأولى في أوروبا.
وابن النفيس الذي عرف الدورة الدموية قبل أن تعرف في أوروبا.
وابن خلدون أول مفكر اجتماعي في العالم كله.
هؤلاء خمسة من المفكرين المبتكرين الذي لم يسبقهم أحد إلى أسلوب تفكيرهم، والذين تجرأوا على نقض المألوف من الأفكار السابقة لهم، كلهم نقضوا شيئا في التفكير القديم وأوجدوا تفكيرا جديدا، ولكننا لا نجد مفكرا عربيا واحدا بعدهم. لماذا؟
لسبب واحد هو أن التفكير الحر المستقل أصبح جريمة، وصارت الشعوب العربية تؤمن بالغزالي، الذي كان يعد تعلم الجغرافية سبيلا إلى الكفر، بدلا من أن تؤمن بابن رشد أو ابن النفيس.
ورأى ابن رشد مؤلفاته تحرق أمام عينيه، وينفى إلى مراكش، حيث بقي يتعفن إلى أن مات، بل إن موسى بن ميمون تلميذه، كان يؤلف مؤلفاته العربية في القاهرة بالخط العبري حتى لا يقرأها العرب ويتهموه بالكفر، ورأينا صلاح الدين يأمر بقتل السهروردي بتهمة الكفر.
بعد ذلك مات الفكر العربي، وازداد موتا بدخول الأتراك واحتلالهم الأقطار العربية، وأصبحت النهضات العربية تعتمد على الأئمة بدلا من الاعتماد على الفلاسفة.
أصبح التفكير محظورا بحكم الآراء ورضا المجتمع، ولذلك لم يظهر عبقري واحد في الشعوب العربية منذ 600 سنة، وإلى الآن، لا يزال المفكر المصري يتهم بأنه ضد التقاليد إذا جرؤ على التفكير المثمر. •••
كل ما سبق يعالج موضوع: كيف لا نكون عبقريين؟
أما كيف نكون عبقريين فشروط ذلك أن نعيش في مجتمع حر، غير متجمد بما نسميه تقاليد، وفي ظل حكومة غير مستبدة، أو تخشى الأفكار الجديدة، مثل حكومات إسماعيل صدقي وغيره أيام فؤاد وفاروق ...
أما كيف يكون المؤلف مبتكرا عبقريا؛ فالشرط الأول لذلك أن يحب الإنسانية، وأن تكون النظرة الشاملة ليس إلى وطنه وحده بل إلى العالم كله، وحبه الإنسانية، وشمول نظرته، يحملانه على الرغبة في الارتقاء والخير فينقذ الحال القائمة، وهو يؤمل ويرجو في حال أخرى أسعد للناس وأوفر هناء لهم، وعندئذ يؤلف كي يغير ويطور المجتمع.
وهذه هي العبقرية.
كتب العلم وكتب الأدب
في ظروفنا الحاضرة، في فقرنا الذي يدل عليه هبوط الدخل السنوي في عام 1937، وهو نحو 830 قرشا يعيش بها المصري، وعليه أن يحصل منها على قوته طيلة العام لحما وخبزا وملحا، وأن يحصل منها على السكنى واللباس ووسائل النظافة ... في ظروفنا الحاضرة هذه ... أنحتاج الذي يسميه الدكتور طه حسين «ترفا ذهنيا»؟ أم نحتاج إلى العلم الذي نبني به بلادنا ونعمرها، زراعة وصناعة، حتى يرتفع متوسط الدخل للمصري من 850 قرشا في العام إلى 600 أو 700 جنيه، كما هو متوسط الدخل في الولايات المتحدة؟
ليس منا من يكره الترف والحلوى، ولكن أولى من الترف حاجات الصحة والطمأنينة. وأولى من الخبز واللحم.
في ظروفنا الحاضرة، في فقرنا المذل، لا يتسع وقتنا للترف، بل لا نستحقه؛ لأننا نحتاج إلى الخبز، وإلى اللباس، وإلى السكنى، وإلى ما يوفر لنا صحة الأم وصحة الطفل في المعيشة النظيفة التي تليق بالكرامة الإنسانية. هنالك ما هو حسن وما هو أحسن، الأدب حسن ولكن العلم أحسن.
ومرة أخرى أقول: إننا في ظروفنا الحاضرة، نحتاج إلى العلم وليس إلى الأدب، أي: نعجل بنقل الكتب العلمية ونؤجل كتب الأدب. ونعجل بالخبز الضروري ونؤجل حلوى الترف.
لا أعتقد أن أحدا يتهمني بأني شكسبير، فإني أستطيع أن أنشد سبعين بيتا من أشعاره عن ظهر قلب، كما أستطيع أن أفعل ذلك في أشعار المعري، ولكني لأني أعرف شكسبير، أقول: إن في وسعنا، في ظروفنا الحاضرة أن نستغنى عنه عشر سنوات، أو عشرين سنة، بلا أقل ضرر، كما نستغني عن أي ترف آخر.
وقد سبق أن قلت: إن شكسبير يعد من شعراء الملوك والأمراء، ونقلت قليلا من الكثير الذي تحفل به دراماته في سب الشعب واستصغار العامة، والعامة عنده، التي يصفها بأنها تأكل الثوم، هي الشعب.
ولم أكن في حاجة إلى أن أنقل ما قاله عنه تولستوي، وهو أنه مليء بالجلافة وسوء التقدير للقيم الأدبية، ولا أن أنقل ما قاله عنه برناردشو، من أنه في كثير من أشعاره لا يبدي عبقرية أو ذكاء، هذا بعض ما قاله عنه هذان الأديبان العظيمان، وعندي أن أعظم ما يعاب على شكسبير أنه يخلو من الرسالة، وأنه ليس له مبادئ أو مناهج، ولذلك لن تجد أديبا عصريا في إنجلترا يستطيع أن يقول إنه تعلم من شكسبير.
وقد يرد على الراغبون في نقل مؤلفاته إلى لغتنا بأنه «فنان»، وهو لا شك كذلك، ولكن فنه ليس هو الفن الذي يمكن أن يغير في أساليب التفكير أو التعبير في أدبنا. هو ترف.
لو أنه طلب إلي اختيار بعض كتب الأدب لنقلها إلى لغتنا لقلت: العلم أولى.
فلو كرر علي الطلب لاخترت هذه الكتب التالية باعتبار كل منها طرازا لغيره: (1)
الإخوة كارامازوف لدوستويفسكى باعتبارها أعظم قصة ظهرت في العالم القديم والوسيط والحديث، وأنها جديرة بأن تحدث ثورة في القلوب الشرقية، وتنقل معاني جديدة من الإنسانية تغير النفس العربية. (2)
الإنسان والسوبرمان لبرناردشو؛ لأنها جديرة بأن تحدث ثورة في العقول، فتجددها وتجرئها وتغير النظرة والعبرة للمستقبل. (3)
اعترافات روسو؛ لأنها جديرة بأن تجعل أدبنا ينعطف إلى طريق أخرى غير طريقه الحاضرة، فيغدو أدب البوح، أدب السريرة المكشوفة. (4)
مؤلفات أناتول فرانس الذي صار رئيس الجمهورية الفرنسية في جنازته على الرغم من مخالفته لعرف المجتمع الفرنسي، ويمكننا أن نتذوق من هذه المؤلفات أذواقا أدبية جديدة تغيرنا. (5)
قصة آنا كارنينا لتولستوي، تنقل كاملة بأسلوب تولستوي.
أختار هذه الكتب وأمثالها؛ لأنها محورية قد تغيرت الآداب الأوروبية بها، أما شكسبير فلم تتغير هذه الآداب بمؤلفاته، ومع ذلك أوثر كتب العلم؛ لأن حاجتنا إليه ملحة، أما الآداب فيمكن أن نؤجلها. إن لنا مشكلات روحية، ومشكلات أخرى مادية، ولا يمكن شكسبير أن يحل مشكلاتنا الروحية، وإنما الذي يحلها من رجال الأدب هو هؤلاء الخمسة الذين ذكرتهم أو أمثالهم.
أما مشكلاتنا المادية، فقرنا ومرضنا وموت أطفالنا، وقصر أعمارنا، وجوعنا وبؤسنا، وعجزنا عن العيشة النظيفة، كل هذا يحله العلم، بل العلم في عصرنا، يحل مشكلاتنا الروحية أكثر مما يحلها الأدب، وهناك فلسفة علمية، وإنسانية علمية، قد تغير بها نظرنا إلى الإنسان والطبيعة والكون، والنفس العربية في حاجة ملحة إلى هذا التغير؛ لأنها نفس جامدة قديمة تحيا على العقائد، وتنفر، أو تكاد تنفر من الحقائق. ثم العلم هو الذي قرر السيادة لأوروبا على الأمم العربية، فإذا لم نحبه، فلنخفه ونعرفه.
هل الأدباء والفنانون مجرمون؟
كتب كامل التلمساني مقالا فريدا في الجمهورية تحت عنوان «نحن مجرمون»، شرح فيه اتجاه الفنون والآداب أيام الشقيين فؤاد وفاروق ثم انتهى بقوله، باعتباره أحد الفنانين:
لقد كنا مجرمين فعلا في مصر الملوكية، ومن العار ألا نكفر عن خطئنا أيام الجمهورية.
وأحتاج قبل أن أعلق وأشرح، إلى أن أقتبس بعض السطور مما كتبه كامل؛ لأنها جديرة بأن نحققها، ثم إذا كانت حقيقية، فيجب أن نردد معانيها؛ حتى يفهم جمهور القراء موقفهم من الأدباء والفنانين الذين عاشوا أيام هذين الملكين، يقول كامل:
الإجرام مرض ... والمسئول عنه ... هو المثل والتقاليد والأهداف الاجتماعية ... وما يسري على الإجرام في الحياة يسري أيضا على الإجرام في الفن، فالفن المصري فن شاذ مجرم خلقه المجتمع الفاسد الذي أوجدته الملوكية؛ لتعيش فيه لمصلحة أفراد قلائل يتعاونون مع المستعمر الإنجليزي، ومع المستعمر الداخلي الإقطاعي، وهذا التعاون المنظم ينصب على استغلال موارد البلاد، كما ينصب على استغلال مؤهلات الأفراد ... كان من المستحيل على الملوكية المصرية أن تثبت أقدامها طوال السنوات السود ... دون الاستيلاء الفكري على قلوب الشعب نفسه لتوجيهه لما تريد من الزاوية التي تحافظ بها على بقائها ... لذلك كان لا بد للفن والإذاعة، والمسرح، والسينما، والشعر، والغناء، كل الفنون، كان لا بد منها؛ لتسخر لخدمة الملوكية ضد مصالح البلاد، وضد مصالح الشعب نفسه ... كان الفن المصري، في غالبيته العظمى فنا مجرما من خلق سادة فاسدين، وكان الفنانون المصريون في غالبيتهم العظمى مجرمين فعلا، مجرمين في حق بلادهم، ومجرمين في حق قدسية الفن ومثاليته ... واليوم، هل تغيرت الصحافة والإذاعة والمسرح والسينما والموسيقى والشعر والفنون؟
ويجيب كامل على هذا السؤال بكلماته المعتدلة:
قد تكون في سبيل تغيير شكلها، وقد تكون بصدد تغيير مضمونها، ولكنها لم تصبح ثورية ... لا بد لها من ثورة كاملة شاملة، ثورة في الشكل، وثورة في المضمون ...
قلت ما يكفينى للتعليق والشرح، وقد حذفت الكثير مما لا أعتقد أن حذفه يخل بموقف الكاتب وآرائه. •••
ولا أنكر اغتباطي بقراءة هذا المقال، فقبل أكثر من عشرين سنة ألفت كتابا عن «الأدب الإنجليزي الحديث» أوضحت فيه أنه أدب الشعب وأدب المجتمع، وكان قصدي أن أعكس بمرآته صورة لأدب جديد يعرفها شبابنا، ويطالبون بمثلها للأدب المصري، وفي 1952 كتبت في «أخبار اليوم» مقالا بعنوان «الأدب للشعب» أثار علي عاصفة، يمكن القارئ لكامل التلمسانى أن يفهمها الآن، والآن فقط لأني خالفت ودافعت، عن أدب جديد للشعب، أجل للشعب.
بل إنى في حماستى، صرحت بأني أوثر أزجال بيرم التونسي على أشعار شوقي؛ لأن الأول شعبي والثاني ملوكي، والأول كان يأكل التراب جوعا في باريس؛ لسخطه على فؤاد بينما كان شوقي يؤلف القصائد بالكلمات الرائعة في مدح فؤاد ويحيا في ترف موسد، ويأكل ويشرب في هناء.
وتحليل «كامل» للفنون والآداب ومرجع الانبعاث الفني والإلهام الأدبي صحيح، وإن كان يستحق المزيد من الشرح، فالفنون والآداب جميعا تعبر عن المجتمع وأهدافه ووسائله، فإذا كان الفنان أو الأديب ينتمي إلى الطبقة الحاكمة، ويحيا على ما يكسبه منها، فإنه يعبر عن آرائها، فلا يذكر الشعب، ولا يدرس الاشتراكية، ولا يعترف بأن للشعب أية حقوق، بل ما زلت أذكر أنه عندما ألغى الوغدان زيور وفؤاد البرلمان الشعبى في 1925 كانت صحفه تسمي الشعب «الرعاع».
أجل، وكان طه حسين وعبد القادر المازني يكتبان في الدفاع عنه في الجريدة التي أنشأها الحزب الذي يؤيد زيور، بل وجدنا أدباء بعد ذلك يدافعون سنة 1929 عن وقف الدستور ثلاث سنوات تقبل التجديد، ثم أعقب ذلك التعطيل التام للدستور، هذا التعطيل الذي وجد أيضا من يدافع عنه من الأدباء.
وقد بدأ العقاد حياته الأدبية بالسير مع الشعب، وكافح مع الزعيم العظيم سعد، وسجن من أجل هذا الدفاع، ولكنه بعد ذلك آثر الملوكية على الشعبية، وكذلك فعل طه حسين، ويستطيع الباحث أن يجمع ما كتباه وهما مع الشعب، أيام ثورة 1919، وما كتباه بعد ذلك حين أصبحا ملوكيين، ويقارن ويعلل هذا الانقلاب.
فإن طه حسين الذي ألف كتابا في أيام شبابه، عن المعري الشاعر الشعبي الذي استنهض الشعوب العربية إلى مكافحة المظالم، طه حسين هذا الذي نشأ من الدرجات الأولى في السلم الاجتماعي، وكافح وتعلم في جهد ومشقة، انقلب ملوكيا يفرح برتبة باشا، ويصف الشقي فاروق بأنه «صاحب مصر».
ويصيح أمام الطلبة في الجامعة، يخاطب هذا الوغد بقوله: «يا صاحب مصر»، ثم لا يكتفي بهذا الكفر الاجتماعي السياسي، بل يزيد عليه بقوله: «إن سلوكك الشخصي يا مولاي يصلح أن يكون قدوة لشعبك والناس».
تأمل هذا أيها القارئ، فاروق قدوة في أخلاقه الشخصية لي ولك ولسائر الناس ... يقول هذا طه حسين ... الذي يصف الأدب ويعرفه بأنه ترف ذهني.
ومثل هذا فعل العقاد الذي وصف فاروق بأنه فيلسوف، أعظم فيلسوف عرفه، كما لو كان هذا البغي يشبه أرسطاطاليس أو أفلاطون، ويؤلف القصائد في مدح فاروق فيقول:
وما اتخذت غير فاروقها
عمادا يحاط وركنا يؤم
ولا عرفت مثله في العلا
صديقا يشاركها في القسم
فدته البلاد وفدى البلا
د بعالي التراث وغالي القيم
إلخ إلخ.
لقد أصاب كامل التلمساني، إن فؤاد ثم فاروق، قد أفسدا الأدباء والفنانين، وبدلا من أن ينهضوا بالثورة عليهما انحنوا وركعوا ومسحوا الأحذية، ولم ينج توفيق الحكيم من هذا الانهيار، فإن درامة «أهل الكهف» هو دعوة المجتمع اليائس إلى الموت؛ لأنه لا يجد أملا في حياته، أي أمل كنا نجده في نهضة مصر أيام فؤاد وفاروق، يؤيدهما الإنجليز المستعمرون والإقطاعيون المصريون؟
لم يكن اليائسون يجدون أي أمل، ولكن كان في مصر ثائرون غاضبون يبصرون بالصباح من خلال الليل القاتم البهيم، كان منا مثلا بيرم التونسي وعبد الحليم، اللذان لم يستسلما للموت، ولم يفكر واحد منهما في إيجاد كهف يموت فيه الصالحون، ويرفضون الحياة كما فعل توفيق الحكيم بأبطاله في «أهل الكهف».
وكان منا أدباء تمذهبوا بمذاهب الحياة الجديدة، ورفضوا الملوكية والموت واليأس.
إن آدابنا وفنوننا تحتاج إلى نهضة للتمذهب بمذاهب الحياة الجديدة، وليس بمذاهب الموت، آدابنا مثل فنوننا تحتاج كما يقول كامل التلمساني إلى ثورة.
نحو النظافة
من التحيات السامية التي أعتز بها، والتي قصد منها قائلها أن يسبني، قوله قبل نحو ربع قرن: «سلامة موسى المراحيضي»، وذلك أني كنت قد ألقيت محاضرة بالجامعة الأمريكية قلت فيها: إن الإصلاح الأول للريف يقتضينا سن قانون لإجبار المالكين على إيجاد مرحاض لكل منزل؛ لأننا بذلك نوفر النظافة للسكان كما نوفر لهم الصحة والكرامة، وحياني صحفي عريق في جهله بأني «مراحيضي».
وقبل أن يموت الدكتور خليل عبد الخالق تحدثت إليه في هذا الموضوع، فوجدت أنه قد درسه، وشرع يشرح لي ضرورة هذا الإصلاح، وكيف يمكن إتقان الديدان الطفيلية بصنع المرحاض على وضع وقياس معينين.
ثم قرأت في مجلة أمريكية مقالا للسيدة «رامونا بارت» عما أسمته حربا صليبية قامت بها كي تعمم «السيفون» في مراحيض الزنوج في نيويورك، والسيفون هو المضخة التي تكسح المرحاض وتنظفه.
ونفهم من مقالها أن منازل الزنوج كانت تحوي المراحيض، ولكن هذه لم تكن مزودة بالسيفونات لفقر سكانها، وكان لهذا أثره في القذر والعفن والذباب، وقامت هذه السيدة بجمع التبرعات وشراء السيفونات، وتزويد كل مرحاض بواحد منها، فهي مثلي كانت «مراحيضية» ولكنها تفوقت علي بكفاحها، فجعلت دعواتها عملية.
وما أجمل أن نكافح من أجل النظافة، وما أجمل أن نخدم الفلاحين وننظف منازلهم ونطهرها من القذر والعفن والذباب.
وإنه لأليق وأشرف لكرامتنا أن نعامل الفلاح بالحب، فنتحرى الوسائل والأسباب لنظافة بيته وهناء عيشته، فإننا حين نذكر الريف تجري على ألسنتنا كلمات الأمن العام، وثمن القطن، والري والصرف، وتكاد ألسنتنا تجهل كلمات الحب والهناءة، والنظافة لسكان هذا الريف.
ومع أني لست طبيبا فإني أعتقد أن إيجاد المراحيض أجدى على الصحة العامة للفلاحين من تطهير ماء الشرب، وليس هناك أيسر علينا من أن نسن قانونا بإجبار المالكين على إيجاد المراحيض في المنازل التي يبنونها، وليس أيسر على الحكومة من أن تضع رسما يسترشد به المالكون، ويعملون وفقه، كي يوفروا النظافة لأكثر من عشرة ملايين مصري يعيشون بين برازهم وأقواتهم.
إن الذهن الذكي والقلب البار لا يرضيان هذه الحال المزرية التي يعيش فيها فلاحونا، وليس من الإسراف أن نطالب المالكين بإنفاق جزء من الأموال التي يجمعونها من محصول القطن لتوفير النظافة والكرامة لنصف الشعب المصري أو أكثر.
أرجو أن يحرق جثماني بعد وفاتي
لما مات برناردشو أذاعت التلغرافات أن جثمانه سيحرق، وأنه قد أوصى بألا يصلي عليه القسيس، وقد أدخل جثمانه في الكنيسة يومين، زاره في أثنائها أصدقاؤه وودعوه بتراتيل موسيقية، ثم حمل جثمانه إلى المرمدة حيث أحرق، والمرمدة مشتقة من الرماد الذي يتخلف من النار، ولا تخلو منها مدينة في أوروبا حيث تقوم مقام الجبانة التي لا تزال تستعمل للدفن.
وكان برناردشو يؤثر الحريق على الدفن، ولما ماتت زوجة الكاتب ه.ج. ولز دعاه إلى إحراق جثمانها، وقصد معه إلى المرمدة حيث تأمل كلاهما إحراق الموتى، وقد سر ولز من المنظر، إذ رأى فيه من النظافة والجمال وسرعة الفناء ما حمله على إحراق زوجته.
وقد ذكرت لنا التلغرافات أن برناردشو قد أوصى بأن يخلط الرماد المتخلف منه بالرماد المتخلف من زوجته التي سبقته إلى المرمدة قبل ثماني سنوات، وهذا خيال جميل وولاء أجمل من الزوجين.
وليس الإحراق للموتى جديدا، فإن الهندوكيين، الذين يزيدون على 350 مليونا، يمارسونه منذ آلاف السنين، وليس في الهند كلها جبانة واحدة، إلا للقليلين من المسيحين، وحتى بعض هؤلاء يؤثر الإحراق على الدفن.
ومن الإعلانات الطريفة في بعض الجرائد الأوروبية أن أصحاب المرامد يقولون: إن الحرق أرخص من الدفن، وهذا صحيح في أوروبا؛ لأن الدفن يحتاج إلى نفقات كبيرة لا يحتاج إليها الإحراق، وهذا بالطبع غير ما يتحيزه الدفن من قبور كان أولى بمكانها أن يزرع ويستغل.
وأنا أميل إلى الحرق، وأوثر أن يحرق جثماني بعد وفاتي لجمال الفكرة في النار تحيل جسمي في دقائق إلى بخار ورماد، بدلا من ترك هذا الجثمان يتعفن، ثم ينتفخ البطن بالغازات، ثم ينفجر، ويبقى على هذا التعفن بضع سنوات إلى أن يذهب اللحم والدم ، ولا يبقى غير الهيكل العظمي.
وإني لأبوح هنا بسر قد يشمئز منه القارئ حين يعرف السبب، وهو أنه قد مضى علي نحو أربعين سنة لم أذق فيها الفسيخ، ومرجع هذا أني كنت أشيع قريبا لي إلى قبره، وكان بالقبر ميت لما يمض على دفنه عشرون يوما، فما هو أن فتح القبر حتى خرجت منه رائحة الفسيخ، وسمعت من أحد اللحادين أن الميت السابق لم ينضج، وغمرتنا الرائحة كأنها نفذت إلى مسام أجسامنا، وبقيت ملوثا بها شهورا.
ومنذ هذه اللحظة إلى الآن لا أطيق هذه الرائحة، بل لا أستطيع أن أذكر كلمة «الفسيخ» إلا مع الاشمئزاز والقشعريرة، وهذه الحال البشعة هي مصيرنا جميعا في الدفن.
وقد يقال: إننا في الجبانات من الموتى، عظة وعبرة بالتجوال بين القبور، ولست أنكر أني أجد ذلك حين أجول بين القبور، ولكن هذه العظة وهذه العبرة يمكن أن نجدهما أيضا في المرمدة، بل إن الفناء السريع يحملنا على أن نحس أن الحياة لا تزيد على أن تكون هباء وهواء، وحفنة من الرماد، وفي هذا عبرة أية عبرة.
وهناك من يحتفظ بالرماد بعد الإحراق في علبة تصونها الأسرة كأنها كنز، وعندي أن هذا خطأ؛ إذ يجب أن نذرو الرماد في الريح كي نؤكد فكرة الفناء.
هذا هو ما فعله لندبرج الطيار الأمريكي، فإنه عقب وفاة أبيه حمل جثمانه إلى المرمدة، ثم أخذ الرماد المتخلف وامتطى طائرته فوق العزبة التي قضى أبوه حياته فيها، ثم أذرى الرماد فوق الحقول، من التراب وإلى التراب.
أجل إنى أوثر المرمدة على الجبانة؛ لأن الفناء بالنار أجمل من الفناء بالتعفن.
المستبد الفاسد
يقول أحد الكتاب الفرنسيين: «إن كل سلطة تفسد، والسلطة المطلقة تفسد إفسادا مطلقا».
والسلطة المطلقة هي الاستبداد، وقد يكون الاستبداد سياسيا أو دينيا أو ثقافيا.
فالمستبد السياسي:
يتولى الحكم بلا برلمان، أو هو يمكر فيزيف الانتخابات البرلمانية؛ كي يجد الكثرة الخاضعة التي تعينه على الاستبداد، وقد رأينا في السنين الثلاثين الأخيرة أمثلة قاسية فاضحة لهذا المستبد الذي أخر تطورنا، وعكس نهضتنا، وعطل مشاريعنا الإصلاحية.
والمستبد الديني:
يصر على أن غيبياته يجب أن تكون المذهب الوحيد الذي يعم الدنيا، وأن من يخالفه في العقائد الخاصة بها يجب أن يعاقب، مع أن عشر دقائق تقضيها معه في مناقشتها تدل على أنه لا يفهمها.
والمستبد الثقافي:
يتجسس على ما نقرأه من كتب، وما نفكر فيه من آراء، فيحاول أن يمنعنا من القراءة والتفكير؛ لأنه مستبد ويجب أن نفكر مثله فقط.
وكل هؤلاء المستبدين يحدثون فسادا في الأمة، ويمنعون تطورها، ويجبرونها على أن تجمد كما جمدوا، وهم طاعون الأمم وعلة انحطاطها، وهم الإغراء القوي الذي يجذب الاستعمار ويرسخ أقدامه ويؤيده.
ومن حق كل أمة أن تنهض بالثورة على هذا الاستبداد، أي: على السلطة المطلقة التي تحدث فسادا مطلقا.
ولكن يجب ألا ننسى أن المستبد هو نفسه ثمرة الفساد، فهو رجل فاسد من الأصل، قد نشأ على أنه لا يعرف المشورة أو المجاملة أو الرقة الاجتماعية، هو أناني يحب نفسه فقط ولا يبالي بغيره، وهو كالمجنون يعتقد أنه بؤرة الذكاء والفهم والحكمة، وأن الأمة جميعا بملايينها يجب أن تسير خلفه، فلا تتحدث في الساسية إلا كما يرى هو، ولا تقرأ من من الكتب إلا ما يعنيه هو، ولا تؤمن بالغيبيات التي تخالف تلك التي تعلمها في طفولته.
هذا هو المستبد الفاسد الذي نشأ في بيئة الفساد حين دلله أبوه حتى كاد يستبد بهما، فلما كبر بقي طفلا في عاداته الذهنية، فصار يستبد بالأمة التي يتولى الحكم فيها وزيرا، أو مديرا، أو مؤلفا، أو صحفيا. هو فساد يؤدي إلى فساد.
الواقعية في الأدب العصري
كلمة الواقعية مشتقة من الواقع، وإذن هي معالجة المؤلف للأشياء والناس والمشكلات وإيجاد الحلول وفق الواقع، وليس وفق الخيال.
هي المعالجة الموضوعية التي تتفق وواقع الحال، وليست المعالجة الذاتية التي تعتمد على الأغراض الشخصية، ولا يستطيع أحد منا أن يفصل الفصل التام بين ذاتيته الشخصية، وما تحمل من أهواء وأغراض، وبين واقع الحال في الأشياء والناس والمجتمع والفن، بل ليس ضروريا أو حسنا؛ لأننا لا نجد موضوعا ما في هذه الدنيا إلا ونحن خلفه بإحساسنا وتعلقنا ووعينا وضميرنا، وجميع هذه الكلمات تلابس الذاتية أكثر مما تلابس الموضوعية، ولكن هناك أشياء تجنبها المذهب الواقعي، ونجح في تجنبها، وأدى هذا التجنب إلى زيادة في الفهم وإخصاب في الفن.
تجنب المذهب الواقعي أول ما تجنب، ذلك الأسلوب الموروث بشأن اختيار الكلمات المذهبة وتأنقات الفصاحة والبلاغة، تجنب الجملة الزاهية والكلمة اللامعة، كما كان أسلوب العصر الماضي قبل الواقعية، بل كما كان أسلوب الكتاب عندنا في اللغة العربية أيام القرون الوسطى، هذا الأسلوب الذي نراه على أقصاه وأسوئه في مؤلف سيرة صلاح الدين.
فإننا هنا نقرأ جملا مسجوعة، وتأنقات لفظية، يلتذها المؤلف وقد يلتذها القارئ أيضا، ولكننا ننسى في سياق هذه الكلمة الحلوة، التي نتمززها أكثر مما نقرأها، إننا إزاء شخصية تاريخية عظيمة كانت قدرا في التاريخ بين الشرق والغرب، وإننا لا نعرف عن صلاح الدين ما كنا نحب أن نعرفه.
تاريخ صلاح الدين الذي ألفه هذا الرجل لم يكن واقعيا وإن كان تأنقا فنيا، ومع ذلك ما كان أسخفه من فن!
وكما رفضت الواقعية الكلمة المذهبة والجمل المتأنقة، كذلك رفضت الاستسلام للغيبيات، فليس الفقر مثلا حكم الأقدار على الناس، وإنما هو مرض يمكن أن يعالج، وليس الإنسان أسيرا في هذا الكون يخضع للطبيعة، وإنما هو سيد الكون يغير الطبيعة، وليس الإنسان عاجزا يجب أن يرضى بعجزه، وإنما هو قادر على أن يحيل عجزه إلى علم ومعرفة يسيطر بهما على حظوظه.
وأخيرا ليست الواقعية من حيث إنها طراز فني للتفكير والتعبير تهدف إلى المحال، وإنما هي في ظروفنا الحاضرة، ظروف الفقر والجهل والمرض، وظروف الرق والحرب والاستعمار، تهدف إلى الإنسانية، أجل، ليست الواقعية ممارسة الفن للفن، الواقعية هي أسلوب الأدب الجديد، أدب العلم والإنسانية معا، هي ممارسة الفن لخدمة الإنسان.
الواقعية ضد الرومانسية.
في مصر كتاب يصفون الشعراء العرب في القرون الوسطى بأسمى الأوصاف، وإنهم البلاغة كلها والأدب كله، ليس أفصح من البحتري. ولا أعجب من ابن الرومي، ولا أعظم من المتنبي، أجل، ويصفون الخلفاء ويتغنون بالبذخ الذي كان يعيش فيه هارون أو المأمون، والجواري والحلل الذهبية والصور والكرم الحاتمي، بل إنهم ليصفون لنا برهانا على العظمة والتمدن وسمو العيش، بركة قد وضع المسك بدلا من الطين على حافتها، وكل هذه الأشياء تحتاج إلى وصفها بكلمات متأنقة كلها فصاحة وبلاغة ... هؤلاء رومانسيون.
ولكن في العراق كاتبا واقعيا يدعى علي الوردي، هذا الكاتب قد وضع مؤلفات أوضح فيها: أن شعراء العرب في الجاهلية كانوا يمشون بالوقيعة بين قبيلة وقبيلة، وكانوا سببا لهذا السبب؛ للقتال بين القبائل، يحرضون على الثأر والانتقام ولا يدعون إلى سلام، وقد ذمهم القرآن ووصفهم بالغواية، ثم كان شعراء العرب بعد ذلك، أي: أيام الخلفاء، متسولين، يبيعون أشعارهم في المديح والهجاء بالدينار والدرهم، يمدحون بلا سبب، ويقدحون بلا حق، أو كانوا مثل ابن الرومي وأبي نواس، شعراء فاسقين، كانوا كما يقول علي الوردي، بلاء على المجتمع العربي، ولم يشذ منهم ويسمو عليهم سوى أبي العلاء المعري الذي كان ينبه الشعوب العربية إلى ضلال الحاكمين والمتدينين ومكرهم جميعا لخطف اللقمة من أفواه الفقراء المساكين.
إن كتاب مصر الآن رومانسيون، يتبعون الخيالات الكاذبة والإحساسات البدائية عندما يكتبون عن الشعراء العرب، وعلي الوردي موضوعي، واقعي، يقول: إن الخلفاء كانوا يظلمون الشعوب العربية، ويجدون من الشعراء مؤيدين لهم مادحين لظلمهم. •••
الواقعية تعني أن التأليف الفني ليس هو البراعة في محاكاة القدماء في أفكارهم وكلماتهم، وأساليبهم، وأهدافهم، وإنما هي النظر الموضوعي إلى المجتمع ومحاولة الوصول إلى كنه حقائقه وأصوله والتعرف إلى أسباب سعادته وتعاسته.
والكاتب الواقعي لا يستسلم للأوهام بأن يكون موضوعه فخما يتناول أميرا أو ملكا أو قائدا، ويكتب الأضاليل والأكاذيب عنه؛ لأن واقعيته قد نقلت اهتمامه من هذه الموضوعات الملوكية إلى الشعب، إلى الآلاف والملايين الكادحة، إلى الإنسانية.
فهو مثل تولستوي، يعالج الحرب كما هي في واقعها ونتائجها ودمائها وأمراضها وأغراضها العليا، إذا كانت حرب كفاح ضد العدوان. أو أغراضها السفلى، إذا كانت حرب استعمار وعدوان، وهو يسائل : ما هي القيمة الإنسانية في حرب ما؟
إني أحب، عندما يتحدث أحد عن عبقرية المتنبي، الذي وقف حياته على مدح سيف الدولة وسب كافور، أن أسأل: أما كنا نحب المتنبي، ونعجب به أكثر لو أنه ألف قصيدة في وصف حياة عبد، قد اشتراه سيده وهو في العاشرة من عمره، ثم خصاه كي يعيش مع الحريم طيلة عمره؟ وأحب شوقي أكثر لو أن شوقي، الذي وقف حياته على مدح عباس، كان قد ألف دراما عليا عن عرابي، الذي دافع عن استقلال مصر، وكافح استبداد الخائن توفيق؟
إن الواقعية هي الإنسانية، هذه الإنسانية التي كانت تطرق أذن المتنبي وشوقي، وتناديهما بشأن الرق الرسمي في أيام سيف الدولة الفعلي وفي أيام توفيق، ولكن هذه الآذان كانت في صمم عن هذا النداء الإنساني؛ لأن هذين الشاعرين لم يكونا يعيشان في المجتمع، وإنما كان يعيشان فوق المجتمع، ولا يزال الرق باقيا إلى عصرنا، إلى هذه السنة 1958، في بعض الأقطار العربية، ولم يصرخ أديب صرخة الشرف ضد السفلة من الأمراء والأثرياء الذين يمارسونه، وذلك لسبب واحد هو أن أدبنا التقليدي غير واقعي، ملوكي غير إنساني. «الإنسان» ليس موضوع الأدب العربي في أيامنا. «شئون المجتمع» المصري أو العربي ليست من شئون الأدب، مع كلماتي هذه بما تحتوي من لهجة التعميم، أحب أن أتحفظ وأن أقول: إن طائفة جديدة من الكتاب، جديدة في الوجود؛ لأن أفرادها لا يزالون صغارا، بالمقارنة في السن إلى غيرهم، قد وجدت الطريق إلى الإنسانية والمجتمع فأنشأت الأسلوب الواقعي، وقد أمضى أفراد هذه الطائفة أو معظمهم بعض سني شبابهم في السجون لهذا السبب، وكانت هذه السجون مدارسهم التي أختمروا فيها، وبعد الاختمار الانفجار، أو بعد الاضطرام الاشتعال. ••• «الإنسان» هو كما قلت موضوع الواقعية.
الإنسان العادي في نظامنا الطبقي؛ العامل والعاملة، والزوج والزوجة، والطالب والمعلم، والأرملة واليتيم، والشاب والشيخ، كل هؤلاء وغيرهم يكدحون كي يعيشوا بعيدين عن خطر المرض والجوع والفقر والحرب، ولا يمكن أن يعرف الفنان في عصرنا مشكلات هؤلاء الأفراد العاديين إلا إذا درس الاقتصاد والاجتماع.
ألا يدخل الاقتصاد بيت الزوجة الأم عندما تشتري رغيف الخبز وطبق الفول في الصباح؟
ألا يدخل الاجتماع بيت الزوجة الأم عندما يرميها زوجها بالطلاق؟
ألا يدخل كلاهما السجن عندما يتعطلان عن العمل الكاسب ويسرقان؟ ألا يدخلان القبر عندما يجوعان هما وأبناؤهما حتى الموت؟
الأدب الواقعي هو الذي يدرس الاشتراكية، أصلها وفصلها وأسلوبها وهدفها، والأدب الاشتراكي هو لذلك الأدب الواقعي في صميمه؛ لأنه هو الأدب الذي بسطت له الدراسات الاشتراكية أحوال العيش وأساليب الارتزاق، وما تحوي من خير ومن عظمة وسفالة. •••
في 1848 ظهر «البيان» الذي ألفه ماركس ووضع به يد الرجل العادي على أصل المجتمع، وفى 1859 ألف داروين كتاب «أصل الأنواع» ووضع به يد الرجل على أصل الإنسان، وعرفنا من كلا الكتابين أننا تطورنا من الغابة، وما زلنا نتطور في المجتمع، وكانت كلمة «التطور» مفتاحا سحريا جديدا نعالج به مشكلاتنا ونبني به آمالنا، وحطمنا بهذه الكلمة خرافات العقائد، وتعلمنا كيف نكافح كي ننير الأدمغة المظلمة، ونخرج منها الأساطير وننفذ إلى خلاياها النور.
النظرة الواقعية للكون والطبيعة والإنسان هي نظرة التطور، لقد تعلمنا من التطور أننا والحيوانات أسرة واحدة، وكان إميل زولا يلحظ ذلك في قصصه الواقعية عندما تناول الحياة الجنسية في الإنسان، ولكن الواقعية ارتفعت على ذلك.
فإن هنريك أبسن ينظر إلى الأسرة حيال الوضع الذي نتفق عليه ونعمم الوهم به، زاعمين أن الزواج كله سعادة، وأن مكان المرأة الحقيقي في وجودنا هو البيت، حيث تجد الراحة والرفاهية، وننسى أن الزوجة تمسح الكنيف، وتقضي نهارها في الطبخ والكنس، وهى في كل هذه الأعمال التكرارية، لا تربي نفسها ولا تبني شخصيتها، بل لا تجد حتى الاعتراف بفضلها من زوجها أو من المجتمع.
وهنريك أبسن أبو الواقعية العصرية، يحثها لذلك على أن تخرج من البيت وتنهي شخصيتها، تتعلم وتتعرف إلى الدنيا والمجتمع، وتكسب، وترتزق، وتحيا حياتها، ولا تحيا تلك الحياة التي يطالبها بها زوجها والمجتمع.
أنا أعده أول الواقعيين في عصرنا أو أخطرهم قبل مئة سنة.
ولكن عصرنا يحوي أدباء واقعيين أعمق منه، وإنما صاروا أعمق منه لأن الاشتراكية فتحت الأبواب السرية للمجتمع، وأوقفتنا على ما فيه من خبث ولؤم، وأوهام وخرافات، وفقر وجهل، وعذاب وهوان، وأوقفتنا أيضا على أحلام جديدة، أكاد أقول إنها رومانسية جديدة، هي هذا المستقبل الزاهي الذي ينتظر الشعوب بتحقيق النظم الاشتراكية.
إن الوعي الاشتراكي قد أوجد وعيا للفقير والظالم، وبعث دراسات إنسانية جديدة تهدف إلى البر والخير للإنسان، وتحضه على الكفاح من أجل مجتمع جديد يطمح إلى تحقيقه، كما أن هذه الدراسات قد جعلتنا نفهم الأسس الاقتصادية للحرب والاستعمار، بل للتعصب الديني والتعصب اللوني.
ونحن كما قلت، حين نفكر في المستقبل الاشتراكي للإنسان، ونحاول أن نضع لبنة فوق لبنة في بنائه، إنما نعالج رومانسية جديدة تهدف إلى المستقبل وتخالف الرومانسيات القديمة التي كانت تجد السعادة في الماضي بل أحيانا في إنسان الغابة.
الرومانسية الجديدة هي رومانسية برنارد شو مثلا، حين يرسم لنا خيالا عن «السبرمان» أي الإنسان الأعلى الذي يكون منا كما نحن من القردة العليا، أو حين يهدف إلى مطامع إنسانية جليلة، كأن نعيش نحو ألف سنة فنجد المجال والفرصة للتربية الشخصية، ولو أنه عاش إلى زماننا لألف دراما عقب القمرين السوفيتيين عن السفر إلى المريخ.
إن العلم قد علمنا، ولا يزال يعلمنا رومانسية جديدة، ولكن هذه الرومانسية لن تنسينا واقعنا المظلم الذي يحفل بالقبح والفقر والمرض والجهل، فموضوعنا الآن يجب أن يكون هذه الواقعية.
ثلاثة عمالقة
عاش في روسيا ثلاثة من الأدباء تقاربت حيواتهم حتى عاصر بعضهم بعضا فترة قصيرة أو طويلة هم:
دستوفسكي الذي مات في 1881.
وتولستوي الذي مات في 1911.
وجوركي الذي مات في 1936.
وليس هناك أديب عصري، بل حتى قارئ عصري مستنير، في أي بقعة في العالم، يجهل أحد هؤلاء الثلاثة، فهم الذين عينوا طراز القصة الروسية، واستنبطوا القيم الأدبية الجديدة التي تعلمت عنها أوروبا، وهم مع ذلك يختلفون، بل إن اختلافهم أكثر من اتفاقهم.
هم يتفقون في أن الأدب ليس ترفا ذهنيا، وإنما هو عذاب ذهني في بذل المجهود، في البحث عن القيم. ويتفقون في أن الجمال ليس هدف الفن، وإنما الهدف هو الحياة، ويتفقون في أن حياة الأديب جزء من أدبه، وحياته هي مؤلفه الأول، ويتفقون في أن الإنسانية هي الهدف الأول للأديب قبل الغني.إأنهم جميعا احترفوا الإنسانية.
إن الذي يقرأ دستوفسكي يحس أن المؤلف لم يكن يستمتع بتأليف قصصه، وإنما كان يتعذب به، بل إن العذاب ينتقل إلينا ونحن نقرأ الصراع القائم بين أبطال قصصه، هؤلاء الأبطال الذين كانوا يجمعون في نفوسهم ضميرين: ضمير القديس المتوجع، وضمير المجرم المتوثب، ضمير الإنسان وشهوة الحيوان.
وقريب من دستوفسكي تولستوي، فإن كليهما مسيحي إلى نخاع عظامه، ولكن دستوفسكي يحب المسيح بقلبه وإحساسه، أما تولستوي فيحبه بعقله، ولذلك انتهى دستوفسكي إلى جملة نطق بها كلها هوس هي قوله: «لو كان المسيح في جانب، وكانت الحقيقة في جانب آخر، لآثرت أن أكون في جانب المسيح على أن أكون في جانب الحقيقة». جملة رعناء نطق بها القلب المفتتن بحب المسيح.
ولكن تولستوي طرد من الكنيسة لأنه قال عن المسيح: إنه لا يجد فيه غير رجل إنسانى عظيم لا أكثر، وإن السلوك المسيحي هو السلوك العملي. نظر بعقله وطردته الكنيسة الروسية من حظيرتها؛ لأنه استعمل عقله.
أما ثالثهم جوركي، الذي يشترك معهما في النزعة الإنسانية، فإنه يفترق منهما بأنه أديب الثورة، وهذا اختلاف كبير بل خطير.
فإن دستوفسكي يكاد يتمرغ في الألم ويلتذ ألمه، وتولستوي لا يجد للإصلاح غير المسيحية، نطبقها على كل شئوننا الاجتماعية، ولكن جوركي يثور ثورتين: على المجتمع وعلى الحكومة.
وهو لا يؤمن بالمسيحية أو بأي دين آخر، ولكنه يؤمن بالإنسانية، بالإنسان، بالشعب، بالعلم، الفضائل عنده هي من صنع الإنسان، والمخترعات والمكتشفات هي من صنع الشعب، وهو اشتراكي شعبي في سياسته وأدبه، يكتب بلغة الشعب، وتنطوي كل قصة له على مسألة اجتماعية.
وروسيا إلى سنة 1917 كانت مدوسة مسحوقة بالقيصر والنبلاء، بل حتى بالكنيسة، وكلنا يذكر راسبوتين، وفي هذه الظروف لم يكن مفر لكاتب إنسانى، شعبي أن تكون رسالته ثورية. هو ثائر على ما يقيد حرية الفكر من كتب العقائد المضللة، وهو ثائر على الجهل والتواكل والاستسلام، وهو ثائر على التجاريين والصناعيين الذين يجمعون الثروات بعرق العمال ويحرمونهم العيش اللائق، وهو يدعو إلى العلم وإلى الاشتراكية، ولكنه قبل هذا وفوق هذا، يدعو إلى أن يحيا الإنسان حياته كما يرسمها لنفسه مستقلا أبيا شجاعا.
الحياة عند جوركي هي أجمل ما في الكون، والحياة الحية الناهضة هي لباب الجمال، ويجب ألا ننسحب من الحياة في نسك أو عزلة، ويجب ألا نقنع بالكفاف، ونجبن عن الإقدام ونلجأ إلى الكهوف ونختبئ.
وأبطال جوركي هم العمال الذين نهضوا، فغسلوا رءوسهم من الجهل والخرافات، وتعلموا وقرأوا، وأصبحوا ثائرين، أبطال قصصه يمثل كل منهم فترة من فترات الحياة عند جوركي نفسه، بل إن حياته تختلط بمؤلفاته، ومن هنا ما فيها من صدق وكفاح. •••
حياة جوركي هي مؤلفاته، ومؤلفاته هي حياته.
فقد ألف كتابا في ثلاث مجلدات، عن تاريخ حياته، نقرأه ونحس في كثير من صفحاته أننا نقرأ إحدى قصصه الواقعية، وجميع قصصه واقعية منتزعة من اختباراته، ولكنها أيضا خيالية يجري فيها الواقع بكل فظائعه ومآسيه، كما يسري فيها الخيال والحلم عن المستقبل الناضر والسعادة المنتظرة.
فإنه يروي السفالة والخسة والفظاظة في حياة الدهماء، ولكنه إلى ذلك يرسم لنا خطوط الآمال في قدرة الإنسان على التعقل والتطور والسيطرة على الطبيعة والآلة.
عرف جوركي في طفولته الفقر والذل، ورأى السفالات تحيط به، واحترف عددا من الحرف الوضيعة، كانت له بعد ذلك ذخيرة لشرح حيوات الناس والتعرف إلى أهوائهم الدنيا وآمالهم العظمى، فقد عمل خادما، ومشردا يلتقط الخرق ويصيد الطيور، ثم رساما معماريا، ثم بائعا للأيقونات المسيحية، ثم خبازا، ثم خفيرا للسكك الحديدية، ثم وقادا للقاطرة، وأخيرا عمل كاتبا عظيما ليس لروسيا وحدها بل للدنيا كلها.
من أين جاءته هذه القدرة على الكتابة؟
إن هذه الاختبارات العديدة التي مرت به علمته، فعرف منها واقع الناس في معايشهم، ولكن من أين جاءت أحلامه؟ وكيف مهر في الكتابة؟ وما الذي بعثه على الدرس وشوق إليه الثقافة؟
كيف يمكن ملتقط الخرق، وبائع التفاح الجوال في الشارع، أن يدرس أفلاطون ويناقش إسبينوزا ويتفهم الأدب الروسي أو الألماني ... ثم يبني من دراساته هذه آماله وأحلامه في تغيير الواقع المؤلم؟
الجواب: أنه وصل إلى ذلك باتصاله بالمنظمات الثورية في روسيا.
فإن الثوريين، الذين شرعوا منذ السنين الأخيرة في القرن التاسع عشر يفكرون في تغيير الحكومة القيصرية إلى جمهورية اشتراكية، كانوا يؤلفون الجمعيات ويؤلفون الكتب، الكتب للتنوير والجمعيات للعمل.
وقرأ جوركي هذه الكتب، وتعب ودرس، وكافح أميته التي نشأ عليها، وهو يحدثنا في المجلد الثالث عن الجامعات التي تعلم فيها والتي خرجته أستاذا عظيما في الأدب، وهو يسمي هذا المجلد «جامعاتي».
ونقرأ هذا المجلد فلا نجد فيه اسما واحدا لإحدى الجامعات، وكيف يمكن بائع التفاح، وملتقط الخرق أن يدخل إحدى الجامعات؟
لا، إنما كانت جامعاته منهج الثورة الذي طالبته ببرنامج بل ببرامج، لقد اتصل بالمنظمات الثورية السرية، وعرف منها ضرورة التغيير، أي: التغيير لوسائل العيش في المجتمع، ونقلها من المبدأ الانفرادي إلى المبدأ الاشتراكي، مع تغيير حكومة القيصر الاتوقراطية إلى حكومة ديموقراطية اشتراكية، هذا هو المنهج.
ولكن هذا المنهج بعث فيه الرغبة بل الشوق إلى الدراسة، فكانت هنا جامعاته في الكتب، فدرس الاقتصاد، والأدب، والعلم، والتاريخ، الدين، والفلسفة.
جامعاته هي الكتب، وأعظم ما أثر فيه كما سنرى، هو العلم.
العلم هو الذي جعله يحلم ويبني الآمال، فيجعل قصصه لذلك واقعية خيالية، إن جوركي أحيانا يشمئز من حياة العمال، من قذارتهم، وسكرهم، وضربهم لزوجاتهم وجهلهم، واستسلامهم للعقائد الخرافية، وخضوعهم، ولكنه مع كل ذلك يرى آفاق المستقبل المشرقة فيحلم ويتخيل، ويبني أحلامه وخيالاته على العلم الذي سيغير الدنيا.
وتمتاز «الجامعات» التي تعلم فيها جوركي بأنها لم تفصله عن الشعب في غرف دراسية تلقى فيها المحاضرات بعيدا عن السوق والمتجر والمصنع؛ إذ كان وهو خباز، يحمل ويخبئ في صدره رسالة صغيرة عن علاقة الأجور برأس المال أو كتابا لكوربتكين عن زيادة الإنتاج حتى يصير الفقير غنيا.
ثم كانت هذه «الجامعات» أيضا تمتاز بأنها لم تحمله على إضاعة وقته في دراسات ومناقشات موروثة عن القرون الوسطى أو في التعليقات والتفسيرات لأشعار شكسبير أو درامات الإغريق.
كان جوركي يقرأ، ويدرس، ويختار، وفق حاجاته الذهنية، ولذلك كان يهضم ويمثل ولا يقيء ما قرأ ودرس، كان إحساسه بجاهلية شبابه يجعله يحس الظمأ للمعرفة. •••
ولكن تقلبه في الأعمال الوضيعة، أو ما نسميها وضيعة في نظامنا الاجتماعي، جعله يحس إحساس الشعب، وكانت لقمة العيش الجافة التي كان يحصل عليها بالعرق والتعب تحمله على التفكير في غيره ممن يأكلون مثل هذه اللقمة، ولا يكادون يسيغونها.
وحين يكون الشعب الأساس أو الهدف للأديب، يزدهر الأدب، وتزخر الثقافة؛ وذلك لأن أحوال الأفراد في الشعب، وأهدافهم، وألوان البؤس أو السعادة فيهم لا تنتهي؛ ولذلك نحن نجد في أبطال القصص التي ألفها جوركي شخصيات تتعدد وتتنوع، نجد الراهب في صومعته، والمشرد السفاح، والصبي المترف المدلل، والثائر، والجاهل الذي يحاول أن يتعلم، والصحفي البائس، والثري المستبد والرجل الناهض، وجوركي يحب اثنين من الرجال ويكره اثنين:
يحب الرجل الناهض الذي أفاق من نومه وشرع يستطلع الدنيا ويدرس، ويكبر، حتى ولو كان رأسماليا، أي: الرجل الذي ينفض نفسه من الكسل أو يرتفع من الوهدة التي أراده فيها المجتمع، أو الثائر الذي يحاول التغيير لهذا المجتمع.
ثم هو لحبه للحرية والاستقلال والاستطلاع يحب شخصا آخر هو ما نسميه «المتشرد»، فإنه يؤثره على الثرى الناعم الذي لا يكاد يعرف من الاستمتاعات في هذه الدنيا غير الطعام والشراب، كما يؤثره على التاجر الجشع الذي يجمع المال لمحض جمع المال، ويتعس الآلاف في سبيل ذلك بإفقارهم وحرمانهم.
وواضح أن جوركي لا يدعونا إلى أن نكون «متشردين» ولكنه يهدف إلى المقارنة بين من يسميهم السادة الممتازين بالمال، المستمتعين بالكسل والطعام والشراب، وبين المشردين العاطلين الذين يحملون في صدورهم عواطف فجة بدائية للثورة، فيهيمون، كما يهيم هو عندما استقر فترة من حياته على صيد الطيور، وكأن هذا العمل حرفة.
وهو في هذه المقارنة يكاد يقول لنا: إن في هذه الدنيا ما هو أهم من جمع المال، إن في الدنيا حقولا وطيورا، ولذة الاستيقاظ في الصباح لرؤية الشمس في شروقها، ومتعة الحب الخارج على القواعد، والائتناس بالحديث إلى الرجال والنساء في الحانات أو عبر الطرق، بل كذلك التشرد بالتقلب في الحرف.
ثم يكره اثنين من الرجال؛ هذا العصامى الذي لا يهدف من حياته إلا إلى جمع المال، أي: الرجل الذي كان يمدحه صمويل سمييلز ويقول: إننا يجب أن نكون مثله. هذا الرجل هو الثمرة المرة للمباراة الاقتصادية في الشعوب التي تحيا على المبادئ الانفرادية، وليست المبادئ التعاونية الاشتراكية. ومثل هذا العصامي لا ينجح إلا بسقوط العشرات ممن كانوا يبارونه ويحاسدونه، وآلام المئات من العمال الذين كانوا يخدمونه.
والشخص الثاني الذي يكرهه هو الرجل الذي لا ينهض، الجاهل الذي يرضى عن جهله، والذليل الذي يرضى ذله، والحيوان الذي يمارس اللذات الحيوانية ولا يعرف ما هو أعلى منه. •••
حين يموت أديب ونجد الحرية لنقده وتقييمه دون أن نجرح كرامته نسأل هذا السؤال: هل كانت المشكلات التي شغلته وألف عنها كتبه مشكلات حقيقية تنبع من وجود الإنسان، ونظام المجتمع، واستقلال الروح، وارتقاء الشعوب، والحرية، والمساواة، والإنسانية، أم كانت مشكلات تافهة جوفاء كنا نلتفت إليها في حياته؛ لأنه كان يصيح ويصرخ في آذاننا حتى إذا مات نسيناها لتفاهتها؟
ومثل هذا السؤال يمكن أن يسأله الناس في كل عصر وفي كل قطر، ويمكن أن يسأله الناس الآن وبعد الآن في مصر.
أنت رجل أيها الأديب، أنت إنسان، تطلب الخير للشعب الذي تعيش فيه، أنت تفهم معنى التطور، وقيمة الحرية، حرية النفس في أن تسلك السلوك الذي تهواه، وحرية العقل في أن يفكر في استقلال، تؤمن ببينة العلم بدلا من الإيمان بالعقائد الموروثة، وأنت من الشعب، فهل خدمت الشعب والإنسانية والحرية والتطور والعلم؟
إن جوركي فعل ذلك، خدم الشعب والإنسانية والحرية والتطور والعلم. •••
البطل الأول في جميع قصص جوركي هو الرجل الناهض، بل المرأة الناهضة أيضا، هو الرجل الذي يقف لحظة في حياته ينظر إلى الخلف وإلى الأمام، إلى ماضيه وإلى مستقبله، فيقول: كنت جاهلا فيجب أن أتعلم. كنت في غيبوبة فيجب أن أتنبه. كنت عبدا للخرفات والاصطلاحات فيجب أن أتحرر. كنت أنانيا فيجب أن أكون إنسانيا. كنت إحيا بلا قصد، بلا وعي فيجب أن أحيا عن قصد ووعي.
نحيا عن قصد ووعي في هذه الدنيا! هذا شيء خطير.
وقصة «الأم» التي ألفها عقب فشل الثورة الروسية ضد القيصر في 1905، هذه القصة تدلنا على اهتمامات جوركي في أدبه وحياته.
كلاهما يندغم في الآخر، أجل، إن اهتماماته هي: انهض. تعلم. اخدم الشعب. اعمل للمساواة والحرية. ارتفع من شئونك الشخصية الصغيرة إلى الشأن الإنساني العظيم. امتلئ بنهوض الشعب ولا تيأس، فإن الحق والعدل سينتصران على الباطل والظلم.
لما فشلت ثورة 1905 وذبحت حكومة القيصر آلاف الآباء والآمهات والأبناء من الشعب سادت فترة من اليأس والغم، قابلها جوركي بقصة «الأم» كي يبعث الأمل والشجاعة ويحيي الثورة التي خمدت، ونحتاج إلى القليل من النظرة في هذه القصة.
إن القصة تبدأ بعامل تقدمت به السن، يعمل كثيرا في المصنع ويتعب كثيرا، فإذا ترك المصنع وقصد إلى بيته لم يجد شيئا ينسيه تعبه ويأسه وفقره سوى الخمر، يشربها حتى يغيب عن وعيه، هذا الوعي الذي لا يطيقه.
ويموت الأب، ويخلفه ابنه، ويقتدي به، يعمل في المصنع ثم يعب الخمر في المساء، وكأن الدنيا بحضارتها وثقافتها، وهمومها الإنسانية، واهتماماتها الاجتماعية، أشياء بعيدة عن ذهنه لا يعرفها، وتتأمل الأم ابنها فترى فيه صورة أبيه ومصيره، أي: الموت بعد الفقر والبؤس، فتناشد فيه مع البكاء، رجولته وشرفه، وتدعوه إلى ترك الخمر. ولكلمات الأم أكبر الأثر في التوجيه.
ويكف الابن «بافيل فلاسوف» عن الخمر، ويصحو نهاره وبعض ليله.
وعندما يصحو يفكر، وعندما يفكر يسخط، ثم يدفعه السخط إلى التفكير مرة أخرى، ويعرف زملاء له من المفكرين الذين يحملون في قلوبهم الهموم الوطنية، والهموم الإنسانية ويقرأ كما يقرأون، الكتب البذرية التي يؤلفها الحالمون، الذين عرفوا الواقع ولم ييأسوا، بل أملوا في مستقبل زاهر تنهدم فيه منظمات الظلم والاستغلال والامتياز، فيجتمع مع هؤلاء الحالمين من العمال والأساتذة والطلبة يتذاكرون السوء الذي يعيشون فيه، وينظمون الدنيا المشرقة القادمة، وهو يجد بهذا الارتباط بهؤلاء الثائرين الحالمين، قوة تنويرية عظيمة لذهنه الخام، فيقرأ ويدرس ويصنع من نفسه رجلا جديدا، فلا يفكر في الخمر يشربها كي ينسى بها بؤسه، وإنما يفكر فيما يزيد يقظته من هذه الكتب.
وأمه الجاهلة، التي لم تعرف أيام زوجها غير الطبخ، وتحمل الضرب، وشراء الخمر، هذه الأم تتأمل في استطلاع ابنها وهو يعب ويقرأ، ويخبئ الكتب المحرمة، ثم تحدس بعقلها البدائي وترى من الاجتماعات السرية التي يعقدها مع زملائه ثم شيئا جديدا تكاد تفهم خطورته وخطره.
تفهم أن ابنها وزملاءه يخشون الشرطة، وأنهم يقومون بحركات قد تنتهي بهم إلى السجن، فتمتلئ خوفا على ابنها، ولكنها مع ذلك كانت تنظر إلى هؤلاء الزملاء وتقشفهم في العيش واستقامتهم في السلوك وكياستهم في المعاملة، فتمتلئ إعجابا بابنها الذي لم ينشأ مثل أبيه سكيرا قذرا لا يعرف من الأصدقاء غير رفقاء الحانة، ولا يفتح كتابا ولا يطيق اليقظة، إن ابنها يعرف الطلبة والأساتذة المهذبين ولا يشرب الخمر.
ويدفعها حبها لابنها إلى السؤال عن معنى الثورة بل معانيها، وإلى الأهداف الإنسانية الكبرى التي يحتضنها ابنها وزملاؤه، وإلى البرامج التي يتبعونها، وتتسلل الكلمات والأفكار إلى قلبها، ويدخل شعاع بعد شعاع من النور إلى عقلها المظلم، فيستضئ، وتشرع وهي في العقد الخامس أو السادس من عمرها في تعلم القراءة.
لقد أحالتها أفكار الثورة إلى إنسان ناهض بعد نصف قرن من الظلام، وتلقي حكومة القيصر القبض على ابنها؛ لأنه يخطب ويوزع المنشورات الثورية ضد القيصر، وتطرحه في السجن.
ولكن الأم التي كانت جديرة قبل ذلك بأن تصرخ وتولول؛ إذ لم يكن لها في هذه الدنيا من آمال سوى هذا الابن، تتغلب على الصدمة، وتنهض، وتتابع في جد الدعوة إلى الثورة، لقد تغيرت هذه المرأة وعرفت قصدا جديدا في الحياة.
كانت أما لابنها، فأصبحت بمبادئ الثورة التي تعلمتها أما لجميع الشباب في العالم، وكانت تقصر اهتماماتها على شئون بيتها فأصبحت تهتم بالإنسانية كلها، لقد أخذ القصد العام في حياتها مكان القصد الخاص.
إنها توزع المنشورات التي تشرح للناس سوء حياتهم، وعبء مظالمهم، وعبث القيصر وأعوانه بمصائرهم، وتقرأ، وتفهم.
وهذه هي السعادة الراقية، السعادة التي تجدها في زيادة الوعي بأن نتألم، بل نتعذب، حتى نعرف ونوجه ونصلح الدنيا، بل الواقع أن ما نعانيه من ألم وعذاب يعود لذة سامية لإحساسنا بأننا نؤدي واجبا إنسانيا على المستوى العالي في حياتنا.
ويقبض على الأم، بعد القبض على الابن، ويستمر القيصر وحكومته في متابعة خطط الإذلال للشعب، ولكن إلى حين.
هذه هي القصة التي تشرح لنا كيف كان الثائرون في روسيا يعملون قبل أن تصل الثورة إلى انفجارها الأخير في 1917. •••
قصة الأم هي الطراز الذي يمكن أن نقول: إن سائر مؤلفات جوركي قد بني على غراره، فإننا حين ننهض بالثورة على المظالم الاجتماعية والحكومية إنما تنهضنا أيضا هذه الثورة.
الثائر ناهض يقظ بعد ركود ونوم.
الثائر يجد القصد في حياته بعد استسلام للقدر.
الثائر يفكر ويتعلم ويتطور.
الثائر يجد الدنيا والمجتمع والإنسان والعلم موضوع اهتمامه بدلا من تلك الاهتمامات الصغيرة، التي تمتلئ بها النفوس الصغيرة من السعي وراء الثراء والتفوق والجاه. •••
إن جوركي واقعي، يصف لنا أحيانا الظلام الحالك في النفوس المريضة التي أفسدتها مظالم المجتمع، وهو مع أنه يضيف إلى هذه الواقعية في أغلب الأحوال أملا مشرقا في المستقبل، فإنه لا يتعامى عن المصير المحزن، واليأس الشامل اللذان يسودان الناس في بعض الأحوال.
وقصته «مخلوقات كانت رجالا» هي قصة الانهيار النفسي أو الجسدي فيمن صدمتهم الحياة وحطمتهم، فهم ليسوا أناسا وإنما هم حطام من الناس، يرتكبون الجريمة، ويجرأون على الفضيحة، ويفرون من الزوجة والأبناء، ويهيموا لصوصا أو مشردين، ويعالجون بؤسهم بالخمر، ويحيون حياتهم في ظلام لا يتخلله بصيص من النور أو شعاع من الأمل.
إن العلاج يقتضي أن يولد هؤلاء الساقطون ميلادا جديدا كما ولد «بافيل فلاسوف» على أيدي الشبان الثائرين الذين علموه قصدا جديدا في الحياة أعم وأكبر من الأهداف الشخصية الصغيرة ، وحين لا يوجد هذا القصد، الأعم الأكبر، يكون الموت أو الجنون، ونحن نجد الموت بالخمر قبل الدفن الرسمي، في هذه المخلوقات التي كانت رجالا، ونجد الجنون في قصة «فوما جوردييف»، فان هذه القصة أيضا لا تنتهي بالنور يشرق على الظلام، وإنما نهايتها جنون يطبق على العقل العاجز.
ولكن في كلتا القصتين نحس وطأة المجتمع، التي تدفع بهذه «المخلوقات» إلى الخمر، تدفع «بفوما جوردييف» إلى الجنون.
نشأ «فوما» في عائلة يرأسها أبوه التاجر الذي لم يكن يفهم من معاني الصلاح والخير والاستقامة في هذه الدنيا سوى تحقيق النجاح، والنجاح عنده هو جمع المال، أليس هو خيرا؟
ويموت الأب، ويرثه الابن في ثروته المؤلفة من بخاريات تنقل البضائع في نهر الفولجا، ثم يشرع الشاب في التعرف إلى الدنيا، فقد أهمل أبوه تعليمه، ولم يلتفت إلى تربيته، وكيف كان يمكنه أن يربيه مع أنه هو لم يحصل على تعليم أو تربية؟ كما أن أمه كانت قد ماتت وهي في ميلاده، وهو يتعرف إلى الدنيا من أسفل، فيشرب الخمر وينزق نزق الشباب محروما من الصديق الناصح أو الكتاب المنير، كانت كل ميزاته أنه ثري، بل كان له صديق هو شبينه، وكان للشبين مقام كبير في روسيا القيصرية.
ولكن هذا الشبين كان أيضا تاجرا، ينظر إلى الدنيا ويتخير منها كل ما له قيمة تجارية، والنجاح عنده هو الثراء.
والتاجر هو أكره ما يكره جوركي، هذا التاجر الذي كثيرا ما يفخر بأنه عصامي، مجد، مثابر في أي شيء؟ في جمع المال، يجمع المال لمحض جمع المال، وهو يحتقر كل من لا يثرى مثله، ويتهمهم بأنهم كسالى خائرون لا نفع منهم.
وفوما يتعرف إلى صحفي منهار وعلى دراية بالبؤس الاجتماعي، وهو ينهار ويدمن الشراب؛ لأنه يعجز عن الإصلاح.
والقليل الذي تعلمه فوما من هذا الصحفي يحمله على التأمل فيمن حوله من أمثاله الأثرياء، فيجد الخسة والسفالة والغدر تعلو إلى المكانة الاجتماعية المرموقة، وينفجر في إحدى الحفلات عقب الشراب الذي يحمله على أن يبوح بما في صدره، ولكن ثورته صبيانية غير ناضجة، طارئة مفاجئة ليس لها تدبير؛ ولذلك يتألب عليه الأثرياء، وبما لهم من حظوة في المجتمع والحكومة يبعثونه إلى مستشفى للأمراض العقلية، ثم يفرج عنه مجنونا يتسكع في الشوارع.
إن جوركي في قصة «المخلوقات التي كانت رجالا» ثم في قصة «فوما جوردييف» لا يجد مجالا للتفاؤل، وهو هنا واقعي لا أكثر. •••
إن إيمان جوركي بالإنسانية لا ينطوي على قدرة الإنسان على الثورة على المظالم فقط؛ إذ هو يبني آماله في الثورة على أنها تعمل بالعلم، العلم الذي يحرر الإنسان من خرافات القرون المظلمة، العلم الذي يضع البيئة والتجربة مكان العقيدة والتسليم، العلم الذي حين نعرفه ونتحقق من ممكناته، نقول: كنا عبيدا فصرنا أحرارا، العلم الذي نأمل به أن نرفع دخل العائلة المصرية في المتوسط من أربعين جنيها في العام إلى ألف جنيه، وإلى ألفي جنيه في العام، العلم الذي يبصرنا بأصل الكون ونهايته، بلا خرافات موروثة.
في سنة 1929 كتب جوركيى مقالا ذكر فيه قصة وقعت في 1917 يقول فيها: إن أحد الجنود الذين اشتركوا في الثورة كان يتحدث إلى أحد أعدائها، أعداء الثورة، وكان يصف له ما سوف يقوم به النظام الجديد ويشرح الآمال ويبني القصور، فكان عدو الثورة يتهكم به ويقول: «إنكم ستجعلون العالم كرويا كالبطيخة».
فيقول الجندي «أجل، سنجعله كذلك».
فيقول العدو: «ستجعلون الجبال وديانا».
فيقول الجندي «أجل، بلا شك، إذا ما كانت هذه الجبال ستقف في طريقنا».
ويقول العدو: «وستعكسون مجرى الأنهار حتى تعود مياهها القهقرى».
فيجيب الجندي «أجل،هذا سوف نفعله،سنوجه مياهها إلى حيث نريد،ماذا يضحكك في هذا؟».
ويزيد الجندي عى ذلك فيقول: «لا نحتاج إا إلى الوقت الذي يعيد إلى الناس عقولهم، وعندئذ ستنجون وتشكروننا».
ما الذي كان يقصده الجندي هذه الإجابات؟ كان يقصد أن الدنيا ستتغير بقدرة الإنسان، بالعلم.
إيمان جوركي بالعلم كبير، كتب في 1912 يقول:
إن العلم قد أصبح المركز العصبي للأرض.
وفي 1935 كتب يقول عن استخدام العلم في روسيا:
إن الشعب يوجد علاقات جديدة بين الأنواع المختلفة من المادة، وبذلك تتغير الدنيا. •••
في إحدى الدرامات التي ألفها برناردشو يقف أحد الأشخاص ويندفع في نقاش يبدي فيه غضبه من أولئك المؤلفين الذين تباع مؤلفاتهم، فإذا فتحت الكتاب وشرعت تقرأ وجدت ما يتعسك من هموم ومشكلات ومآس يعرضها عليك المؤلف، فتحزن وتبتئس أو تسخط وتلعن.
ويقول هذا الشخص: إن المؤلف لهذا الكتاب تجب مقاضاته واسترداد ثمن الكتاب منه؛ لأنه باع سلعة مغشوشة؛ إذ هو يفهم من اقتناء كتاب ما أن مؤلفه يرفه عنه، ويلهيه معه، ويسليه، ويتيح له أن يقضي ساعة سعيدة يقرأ فيها عن الحوادث الطريفة في الأسلوب العذب، أما إن فعل العكس، وعرض عليه المشكلات الاجتماعية التي تحزنه، فإنه يعد غشاشا أخذ ثمن الكتاب بغير حق.
وكثير من قراء الصحف والكتب يطلبون اللهو والتسلية فيما يقرأون، ويجدون من يزودونهم بما يطلبون، وهم يبقون على هذه العادة طيلة حياتهم، ضمائرهم منومة في غيبوبة كما أن عقولهم مقفلة لا تستنير.
ولكن هناك نوعا آخر من الكتب المرة، يؤلفها الكاتب المر، الذي لا يختار لك ما يحلو وينوم ويخدر، ولا يستهدف العبارة الأنيقة أو الأسلوب العذب؛ لأنه إنما يعالج شأنا أعظم في حلاوة التعبير، أو لذة النادرة، أو طرافة النكتة.
إنه يعالج المشكلات الخطيرة للمجتمع والضمير، ولا ينفك يثير الغبار، ويحفر عن العفن المختبئ، ويفضح السرقة والغدر، ويحض على الثورة على المظالم، بل أحيانا يتعسك؛ لأنه يجعلك تقف على ما فيك أنت من تفاهة أو تراخ أو استهتار، وأنت تخرج بعد قراءتك له ونفسك مرة قد ازدادت الدنيا مشاكل في وجهك بدلا من أن تنقص، وقد ازددت أنت إحساسا بنقصك وأحمالك، فأنت تغضب وتسخط أو تحزن وتبتئس، أجل، ولكنك تستنير وتستيقظ، ولعل يقظتك هذه تكون وسيلة لأن تتغير وتتطور وترتقي في تقويم نفسك وزيادة إنسانيتك وإصلاح مجتمعك.
وليس هناك كاتب عظيم إلا وتحس المرارة فيما يكتب، وهذا هو الشأن في برناردشو على الرغم من نكاته التي يضحكنا حتى لنبكي، وهذا هو الشأن أيضا في تولستوي ودستوفسكي وفولتير ورينان، وذلك لأنهم يعرفوننا بالأحزان والمآسي والمشكلات التي تحيط بنا، والتي نغفل عنها ذاهلين في لهونا.
كان مكسيم جوركي يسمى في ورقة ميلاده إليكزاي بيشكوف، ونشأ على هذا الاسم إلى أن وجد أن له قلما يشرع ما كان يعانيه أبناء وطنه من مآس ومظالم وقذر وعفن، فشرعه يشرحها ويبسطها في قصص مرة مؤلمة، واتخذ لذلك اسم مكسيم جوركي، وكلمة «جوركي» تعني في لغته «المر».
لقد عرف رسالته في هذا الدنيا وعرف أنه كاتب مر، يعلم قراءه، ويقسوا عليهم، حتى يستيقظوا، ونحن نقرأه لا لنلهو ولكن لنتألم ونتنبه ونزداد ذكاء ورجولة. •••
الفن هو شكل ومضمون.
فأما المضمون عند جوركي فقد ذكرته، وهو يتلخص في الإيمان بعظمة الإنسان، والأمل في مستقبله العظيم باستخدام العلم، وليست الفضائل عنده من صنع الحكومات أو الأديان أو الحكماء، وإنما هي من صنع الشعب.
وهو مثل جميع الأدباء العظماء في التاريخ يجد أن الإنسان في صميمه نبيل، جميل، طيب، وإنما يفسده الفقر والظلم والجهل، وأن الاعوجاج يعود إلى مظالم المجتمع وليس إلى فساد أصيل في فطرة الإنسان.
هذا هو مضمون الفن عند جوركي، والآن ما هو الشكل؟
وأنا أجيب عن هذا السؤال بسؤال آخر، هو: هل لنا الحق بعد أن عرفنا المضمون أن نسأل عن الشكل؟
أنا لا أسأل هذا السؤال؛ لأن المضمون عند جوركي يستغرق كل ذهني.
بين البراعة والإنسانية
جميع الذين عرفوا الأدب الروسي، وقرأوا قصص العمالقة من تولستوي إلى جوركي، ومن دستوفسكي إلى أهرنبورج، يذكرون الأثر العميق الذي تركته في نفوسهم القراءة الأولى في هذا الأدب؛ ذلك أن القارئ لهذا الأدب يجد هواء جديدا وحنانا جديدا وإنسانية جديدة.
إن هناك من يزعمون أن في القصة الروسية، سواء أكانت قصة أم أقصوصة، براعة أو مهارة، أما أنا فلا أجد ذلك، وإنما أجد إنسانية وحنانا يشيعان بين أشخاص القصة مهما اختلفت اتجاهاتهم أو تفاوتت درجات ذكائهم.
بل أزيد على ذلك وأقول: إنه حين يعمد المؤلف الروسي إلى البراعة، كما يفعل دستوفسكي أحيانا، تنقص قيمة القصة، ولكنه حين يتناول أشخاصه كما هم، في سيرة الحياة وسرد الحوادث، على الطبيعة والأصل والنزعة، بلا أي مبالاة بالبراعة، هنا فقط نجد الفن العالي ... وبكلمة أخرى أقول: إنما نجد الفن العالي في الإنسانية والحنان.
بل كثيرا ما أجد الفوضى في القصة الروسية، مع ازدحام الأشخاص واضطراب المواقف واختلاف النزعات، بالمقارنة إلى القصص الأوربية المرتبة المتزنة المدبرة، فأوثر الأولى على الثانية للميزتين المذكورتين: الإنسانية والحنان.
وحسبنا أن نذكر قصة «السبعة المشنوقين» لأندرييف. فليس في هذه القصة غرام، وليس لها هدف واضح، وكل ما نجد فيها سبعة أشخاص قد حكم عليهم بالإعدام؛ لأن خمسة منهم كانوا يدبرون مؤامرة ثورية، ثم ضبطوا، واثنان من السفاحين العاديين ضموا إليهم.
وقصارى ما يفعل المؤلف أنه يكتب لنا، وكأنه صحفي، وصفا لإنفاذ عقوبة الإعدام في كل منهم واحدا بعد آخر، ومن هؤلاء الشباب الذي يكاد يكون صبيا لا يطيق انتظار الموت الذي سينفذ فيه بعد ربع ساعة بحبل المشنقة، ومنهم المرأة الهادفة التي أرصدت حياتها للثورة، والتي تستقبل الموت في رزانة وتفكير وإحساس بالانتصار؛ لأنها تعرف أنها خدمت ووضعت لبنة في بناء الثورة، وهي تتقدم بإحساس الأم إلى هذا الصبي الشاب فتشجعه وتبتسم له وتشد في يده.
ونحن نقرأ في تنهدات هذا الوصف حتى نصل إلى نهاية المأساة، وتتمثل أمامنا المشنقة والحبل الذي يجدده الجلاد بمسحه بالصابون الجاف لاستقبال شخص آخر، وتموت الحياة أمامنا سبع موتات، يتسلق الشاب أو الفتاة أو السيدة أو الرجل الكهل سلم المشنقة، وهم أحياء يجري الدم الأحمر في شرايينهم، ثم نتخيلهم مخنوقين معلقين يتأرجحون في الهواء، قد خرج الرغاء من أفواههم، ثم يفك الحبل عن واحد بعد آخر، وتنتقل كأنها حجرا أو غرارة من التراب إلى مكان آخر، وتكدس الجثث الواحدة فوق الأخرى.
إنسانية معذبة تنشد الاشتراكية والسعادة والخير، ولكنها تنتهي بالمشنقة، ويشرف على هذه المشنقة قيصر تؤيده كنيسة وكهنة يقولون للشعب: إن الفقر فضيلة، وإن الله قد حكم عليهم بالطاعة للقيصر، وإن جزاءهم بعد الموت نعيم مقيم، وإن الطمع في الدنيا خطيئة.
والمؤلف لا يقول شيئا من هذا، ولكننا نجدنا نفكر فيه، فيملؤنا الغضب والحزن معا، ويخرج كل منا من هذه القصة وقد زاد إنسانية وحزنا، بل زاد شجاعة وإصرارا على إنقاذ الدنيا من الوحوش الحاكمين والكهنة المضللين.
هذه قصة لأندرييف، وليس أندرييف مع ذلك من الطبقة الأولى بين الكتاب الروس، واعتقادي أن العمالقة في الأدب الروسي من كتاب القصص ثلاثة، هم: دستوفسكي وتولستوي وجوركي.
أما دستوفسكي فيمكن أن نسميه الكاتب الصوفي الذي يجد في تاريخ الإنسانية، ماضيها ومستقبلها، خيرا من المسيحية، فهي صخرة الأمان عنده إذا ادلهمت الكوارث، وأشخاص قصصه نفوس أكثر مما هي أشخاص، يجري النقاش بينهم بشأن كوارثهم التي تختلف ألوانها وتتفاوت مقاديرها على مستوى الإيمان الفلسفي والاستكانة والرضا بما هو قائم، وهو إلى حد كبير، شرقي يكره الغرب الذي ينزع إلى المادية، ونحن الشرقيين نحبه؛ لأننا نجد في اختبارات أبطاله وعواطفهم أصداء لما نحسه من اضطرابات وقلاقل نفسية، هي ثمرة الحرمان والفقر والجهل وسائر الرذائل التي تولدت من الاستعمار والاستبداد، وقد كانت روسيا حين ألف دستوفسكي قصصه، في استعمار واستبداد بحكم القياصرة والنبلاء والشركات الأجنبية.
وأعظم ما يمتاز به دستوفسكي أنه يفكر بإحساساته، وهي إحساسات ذكية تتعمق المشكلات وتستنبط منها الإنسانية، ومشكلاته هي البؤس والحرمان والإجرام، ولكنها تنبع من صميم شعب جائع غاضب حزين، وقل أن نجد في أوروبا الغربية الثرية من يحبه؛ لأنه لا يجد نفسه صدى لأفكاره أو إحساساته، وإنما نحن الشرقيين نجد هذا الصدى ونحبه ونفتتن به. •••
لقد مرت بحياتي فترة شغفت فيها بمؤلفات هذا الكاتب شغفا عظيما جدا حتى إني ترجمت جزءا من قصة «الجريمة والعقاب» في 1912 وطبعته على نفقتي، ولكن فوضى النشر، ولصوصية الاتجار بالكتب في ذلك الوقت، حملاني على أن أكف عن نشر باقي القصة.
ودستوفسكي قصصي من الطراز الأول، بل لا يعلو عليه في العالم قصصي آخر، وعندما نقرأه لأول مرة نسحر به، ولكن هذا السحر يدل على حالنا النفسية المريضة؛ ذلك أن أبطاله يمثلون الشك المؤلم والحيرة المضنية في الأزمات النفسية، وهذه الحيرة تصيب كلا منا في فترات من حياته: الحيرة بين العلم والدين، والحيرة بين الثورة والاستسلام، والحيرة بين الموضوعية والذاتية إلخ ...
ومثل هذه الحيرة تصيب المستنيرين الذين لا يزالون في موقف الشك، وجميع أبطاله من هذا الصنف، فإن بطل «الجريمة والعقاب» طالب يقتل عجوز بدوافع فلسفية، و«الإخوة كارمازوف» كلهم فلاسفة حائرون، وأحدهم حمار عظيم يقتل أباه بحافز من العلم المادي.
وكان دستوفسكي يكره العلم ويؤثر العقيدة على الحقيقة، بل إن له كلمة أخجل من ذكرها هنا قالها عن المسيح، وكان يستحق عليها المارستان مدى حياته، لولا أنه قالها عن إحساس إنساني عميق نكاد نذوب عندما نتأمل معانيها.
ونحن حين نعجز عن معالجة المظالم الاجتماعية، وحين نقف أمام القدر مهزومين، وحين يجابهنا المرض وعليه علامة الحكم بالإعدام، وحين نواجه هوان الفقر والمرض والجوع، في هذه الحالات جميعا نخضع ونستسلم، بل نمدح هذا الواقع ونجد فيه «نظاما» ينطوي على عدل لا نفهمه، وعندئذ تبدو كل هذه الحالات حسنة تجد التبرير في منطق تعاستنا، هذا هو موقف دستوفسكي الذي أحبه القيصر، وكان يزوره رئيس الكنيسة الروسية، بل إن دستوفسكي هذا نفسه قد وقف يخطب وينعي على الحضارة الأوروبية ماديتها، ويطالب بمقاطعتها وبقاء روسيا في روحيتها، أجل هذه الروحية التي أثمرت راسبوتين ...
ولكن هناك من يرون أن المظالم الاجتماعية يمكن علاجها، وإننا نستطيع أن نلغي الفقر والمرض والجهل من الدنيا بقوة العلم، وهؤلاء يكرهون دستوفسكي؛ ولذلك وصف مكسيم جوركي أفكاره بأنها «سامة».
لقد كنت في أول شبابي وفجاجة ثقافتي أجد في دستوفسكي لذة التحسر، أي: لذة الألم، لذة العجز والاستسلام لكوارث الحياة؛ إذ كانت هذه الكوارث لكثرتها وفداحتها لا تطاق إلا بالاستسلام، أما الآن فإني مع مكسيم جوركي أجد أن أفكار دستوفسكي تسم العقول، وأن الثورة، لا الاستسلام، هي العلاج لكوارث المجتمع بل لكوارث القدر. •••
وقد كان دستوفسكي من الشعب وكتب للشعب، الشعب الحزين أيام القياصرة، أما تولستوي فكان من الارستقراطية، وكان يتمتع عند أشخاصها بلقب «كونت» ولكنه، مثل الأمير كوربتكين، ترك هذه الارستقراطية ونزل إلى الشعب، فاعتنق بؤسه وفكر في كوارثه، وانتهى كما انتهى دستوفسكي إلى أن السعادة لا يمكن أن تتحقق إلا بتعميم المبادئ المسيحية.
وليس شك أن الديانة المسيحية هي ديانة الشعب الثائر على معاني الاستبداد والاستعمار والنهب والاستغلال، التي قاساها اليهود أيام الحكم الروماني، ومع الأسف لا تزال هذه المعاني قائمة في الاستعمار الأجنبي كما هي قائمة أيضا في الاستبداد الداخلي، بل حتى مع الاستقلال، كما كان الشأن في روسيا أيام القيصر.
والالتجاء إلى المسيحية في كل من دستوفسكي وتولستوي هو صوفية عاطفية تقوم مقام التدبير العقلي للإصلاح، ولكن هذا التدبير كان بعيدا عن اعتقاد هذين الكاتبين وهما يعيشان في وسط استبدادي مؤيد راسخ لا يمكن أن يزعزع.
وعلى الدوام لا تغشو الصوفية الدينية إلا عند العجز عن التغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، أما حيث يمكن هذا التغيير، بثورة أو بتطور، فإن التفكير الصوفي يتقهقر؛ لأنه يسخف.
وهذا هو ما نجد في جوركي، فإنه يعزف عن الصوفية الدينية وينشد التغيير بالثورة، وكانت الظروف الجديدة تواتيه على هذا الاتجاه، فإن ثورة 1905 التي كان يراد بها قلب نظام الحكم في روسيا كانت قد فشلت، وعندئذ في 1908، ألف جوركي قصته «الأم»؛ كي يبعث في النفوس الآمال الميتة، ويثير من جديد عواطف الثورة المهزومة، وهذه القصة هي برنامج علمي للثورة على المستبدين، تحس الأمل الحي وهو هنا الأم، فإننا نحس أن آلافا من الأمهات الأخريات سينهجن نهجا في تغذية الثورة، بل إن حياة هذه «الأم» تعد طرازا ساميا للارتقاء الإنساني، وكيف تتغير حياة المرأة من الغيبوبة والاستكانة إلى يقظة الوعي والثورة.
وحين أفاضل بين هؤلاء الكتاب الثلاثة أراني أحب تولستوي ودستوفسكي الحب الغامر العميق، ولكن إعجابي الأعظم يذهب إلى جوركي؛ لأني أجد هنا أملا وثورة وكفاحا، أجد دعوة إلى التغيير.
مكسيم جوركي هو أديب الثورة، قبل الثورة، لا يعزى النفوس المظلومة، ولا يثيرها وينخسها ويهيب بها إلى النهوض ومحاربة الظلام بحمل السلاح، وهو يؤمن بالإنسان، أي: يؤمن بقوة عقله على التدبير والتغيير، وهذا هو الفرق بين القصة الروسية قبل الثورة، والقصة الروسية بعد الثورة، ولكن هناك ما هو أوضح من هذا الاستنتاج.
فإن كثيرا من أشخاص القصة قبل الثورة كانوا كما قلت يستسلمون للقدر، أو ما نسميه القدر من مظالم قاسية. أما بعد الثورة فإن أبطال القصة يتميزون بإحساس جديد، هو تربية جديدة وهدف جديد.
اعتبر مثلا إليكزاي تولستوي (وهو غير ليو تولستوي العظيم الذي مات في 1910)، فقد عاش هذا الأديب قبل الثورة وبعدها، وهو يصف لنا في أشخاص قصصه الحياة قبل الثورة وبعدها، وهو يصف لنا في أشخاص قصصه الحياة قبل الثورة، وهي حياة بلا قصد، يحيا أفرادها من الطبقة العالية في استهتار وفسق وفساد، حتى إذا جاءت الثورة شرعوا يتنبهون إلى شرف الحياة العاملة التي يحيونها عن قصد للتعمير والبناء.
وهو، أى: إليكزاي تولستوي، يمثل لنا حياة روسيا قبل الثورة وبعدها، كما عالجها عامة الأدباء من الروس.
إنسانية العلم
تطفح أخبار الصحف بما يحزن كل عربي، ففي آسيا وإفريقيا عامة، وفي الأقطار العربية خاصة، نجد الاستغلال والاستعمار، كما نجد ضرب الأحرار، ومطاردة الوطنيين، وقتل الجماهير، كما لو كانت هناك حرب عنصرية بين العرب وغير العرب.
ولكن هنا وهناك نجد في هذه الصحف أخبارا سارة، يسر بها المهتمون بل المهمومون بوطنهم، وأولئك الذين يعرفون الحاضر السيئ، ويحاولون أن يهيئوا المستقبل الحسن، وأولئك الذين ينشدون الإنسانية في النظم الاجتماعية، ويخططون الخطط الارتقائية لبلادهم، ويبعثون الحركات الانتهاضية بين المضغوطين والمدوسين، وهذه الأخبار السارة يجب أن ننشرها ونوضحها ونكرر الإشارة إليها؛ لأنها تبعث الأمل وتحث على العمل.
فهناك مثلا حادث خلع محمد بن يوسف سلطان مراكش، فإن هذا الخبر في ظاهره يحزن ويوهم بالهزيمة للحركات الانتهاضية للشعوب العربية، ولكني أجد نقيض هذا؛ ولذلك أفرح بدلالته، فإن ملكا يرفض العرش؛ لأنه مع الشعب ضد الاستعمار، لهو رجل عظيم سوف يخلد التاريخ اسمه، ويكفي كي نعرف دلالة هذا الموقف أن نفرض أن الحيوان فاروق كان في مكانه، فإنه كان عندئذ يقبل جميع ما شرط عليه، كي يبقى على العرش ، وكان يقبل ضرب الشعب المراكشي بالمدافع والدبابات، فضلا عن البنادق والمسدسات.
إن المثل اليوناني يقول: إن الفساد في السمكة يبدأ في الرأس. وكان رأسنا في مصر فاسدا فقطعناه، أما الرأس في مراكش فكان سليم؛ ولذلك لم يطقه الاستعمار الذي يحتاج كي يحيا إلى الفساد، وعندنا الكثير من الأخبار السارة. مثل:
اتحاد الشعبين المصري والسوداني، ونعني اتحاد شعبين وليس اتحاد حكومتين.
وإنشاء الجمهورية في مصر، والوجدان القومي بين الشعوب العربية، وتحطيم الروح الإقطاعية في مصر، ثم هذا الوجدان الجديد بشأن التطور الاقتصادي، والاتجاه نحو فهم التطور في الحضارة، بأنه تطور في الصناعة، وأخيرا هذا المؤتمر العلمي العربي الذي عقد في الإسكندرية. •••
هذا المؤتمر هو خطوة نحو الرخاء والديمقراطية، كما هو مغامرة كاسبة في مستقبل الشعوب العربية.
كان فؤاد وهو ملك، يقيل الوزارات، ويزيف الدستور، ويقرب إليه الفاسدين، ولو أن أحدا كان قد عرض عليه تأليف «مجمع للتقدم العلمي» لرفض العرض هازئا ساخرا، ولكنه قبل تأليف «مجمع فؤاد للغة العربية»؛ لأنه كان واثقا أن مثل هذا المجمع لن يغير عرشه في شيء، وأنه ربما يجد في أعضائه من يؤلفون القصائد في مدحه والإشادة بعدله وشخصه وأسرته وابنه إلخ ...
وقد أنفقنا في العشرين سنة الماضية نحو نصف مليون جنيه على أعضاء هذا المجمع دون أن نجد منه أية حركة انتهاضية أو ارتقائية لبلادنا، وهذا هو ما كان ينتظره فؤاد الذي أسسه.
ولكن هذا المؤتمر «العلمي» الذي عقد في الإسكندرية، هو تنبيه للشعوب العربية، بأن القوة الجديدة التي تغير الشعوب وتنقلها من الفاقة إلى الثراء، ومن النظام الإقطاعي إلى النظام الديمقراطي، هي قوة العلم الذي يعتمد على المعارف الممحصة دون العقائد الموروثة. •••
وإطرائى للعلم لا يعني احتقاري للأدب، ولكن أدبنا في مصر قد بقي إلى الآن، باستثناءات صغيرة، يغتذي بدمه ويجتر نفسه، ولذلك لم تكن له قوة التوجيه والإنهاض للشعوب العربية، بل كثيرا ما أيد هذا الأدب سلطان المستبدين واتجاهات الرجعيين، ووقف متعاليا على سواد الشعب يكاد ينفصل عن المجتمع ويتجاهل مشكلاته، ومن هنا هذه الظاهرة الواضحة فيه، وهي خلوة من النزعة الإنسانية.
ذلك أن الكاتب لا يكون إنسانا إلا إذا اشتغل بعواطفه بمشكلات المجتمع، حتى يحس بعواطفه، وينطق بألسنة أفراده، مع الإحساس الصادق بآلامهم وآمالهم، وهو هنا يحتاج إلى أن يدرس طرق الاستعمار والاستغلال ويتابع أخبار الصحف، ما يكتب فيها وما لا يكتب، ويعرف أمراض الفقر، وهندسة المدن، ونفقات العلاج، وإحصاءات الطلاق، وهو لهذا يحتاج إلى دراسة العلوم؛ لأنها هي التي تزيد الإنتاج وتغير المجتمعات، وتلغي الفاقة، وتعمم السعادة.
والأديب المصري الحق يعرف أن العلم يستخدم في القصر الأحمر، أو القصر الأزرق، أو غيرهما مما يملكه الأثرياء في مصر؛ فيثمر نظافة ناصعة، وإضاءة مشرقة، ودفئا وبردا، وفنا وبهجة، ولكنه، أي: العلم، لا يدخل ولم يدخل إلى الآن بيوت الفقراء.
العلم هو الذي يجعلنا إنسانيين في الأدب؛ لأنه يحملنا على التأمل ثم التفكير، كما يحملنا على المقارنة، فيكون الغضب، ويكون الإلحاح في المطالبة بالإصلاح، وأديب بلا علم هو أديب بلا إنسانية. •••
والحركات الأمامية في الأمم الأوروبية والأمريكية يتزعمها أو يوحي بها العلم، وما من أديب تحس الحيوية في أدبه إلا كان علميا.
أذكر برنارد شو الذي نقرأ مؤلفاته فنجد رجلا علمي الذهن يتحدث عن التطور، وعن الإنسان بعد مئة ألف سنة، وعن ضبط التناسل، وعن بناء المنازل، وهو يتحدث عن هذه الشئون كما يتحدث عن دنشواي في مصر، وهو إنساني لأنه يعرف مقدار الهناء بالعلم ومقدار التعاسة التي نعانيها نحن وغيرنا لأننا حرمناه.
وقد يقال: إن الأديب يمكن أن يكون إنسانا ولو جهل العلوم، وهذا حق، ولكن إنسانيته عندئذ تكون عقيمة، قصارها عاطفة دامعة فيها تحسر وتندم، ثم أسف وعجز، ثم رثاء واستسلام.
ولكن الأديب العلمي يعرف العلاج؛ ولذلك هو إنساني، وإنسانيته كفاح وليست استسلاما أو أسفا.
وقد يقال أيضا: إن العلم يستخدم للشر، وهذا صحيح، ولكن الأديب الإنساني يكافح هذا الشر ولا يكافح العلم؛ لأن العلم هو أعظم قوى التطور في عصرنا؛ إذ هو الذي يغير المجتمعات، بل إنه ليوشك أن يغير طبيعة الإنسان، أجل، إن طبيعة الإنسان ستتغير بالعلم؛ إذ ما هو التطور إن لم يكن التغير في الطبيعة، طبيعة الكون، وطبيعة الدنيا، وطبيعة النبات والحيوان والإنسان؟ •••
لذلك أنا أرجو أدباءنا ألا يتكبروا على العلم؛ لأنهم لن يستطيعوا خدمة بلادهم إلا بمقدار ما يعرفون من القوى العلمية التي تستطيع أن تعمم الهناء والخير والثقافة والصحة لأبنائنا، بل هم لا يستطيعون أن يكونوا إنسانيين منتجين إلا بالعلم، وهذا المؤتمر العلمي العربي الذي عقد بالإسكندرية يجب أن ينبه الأدباء كما ينبه الحكومات والشعوب. •••
إن كل ما يزيد وجداننا؛ أي: إحساسنا بالوجود، أي: كل ما يجعل وجودنا أوجد، تعمقا وتوسعا، هو زيادة في السعادة وفهم للفلسفة، والعلم يزيد وجداننا وينقلنا إلى آفاق لم نكن نعرفها.
ثم هو، أي: العلم، يزيد حرياتنا؛ لأنه يقشع عن عقولنا ظلام الجهل، ويفك قيود الخرافات، بل هو يعد في عصرنا أعظم القوى المحررة من الخوف والفقر والمرض والجهل.
ولو أن أديبا عظيما مثل الجاحظ كان يعيش في عصرنا لكان قد كرس حياته لدرس العلم؛ لأنه يفطن إلى ما فيه من القوى التحريرية للعقل البشري، بل هو عرف قيمة العلم في الأمداء التي كان قد بلغها في أيامه.
ومع ذلك إذا كان الأديب الذي عاش قبل ألف سنة يعذر في تجاهله العلم، فأن الأديب العصري لا يمكن أن يعذر في هذا التجاهل الذي قد يجعل منه غاويا بدلا من أن يكون مرشدا.
العرب والعلم والصناعة
كان علاء الدين ابن النفيس طبيبا عربيا عاش فيما بين 1208 و1288 وكان من أعظم ما كتبه الكلمات التالية:
لو خلط بالدم ... وهذا التجويف هو التجويف هو التجويف الأيمن من تجويفي القلب ... وإذا لطف الدم في هذا التجويف الأيسر، حيث تتولد الروح، ولكن ليس بينهما منفذ، فإن جرم القلب هناك مصمت ليس فيه منفذ ظاهر كما ظنه جماعة، ولا منفذ غير ظاهر كما ظنه جالينوس، فإن مسام القلب هناك مستحصفة (متينة)، وجرمه غليظ، فلا بد أن يكون هذا الدم إذا لطف، نفذ في الوريد الشرياني إلى الرئة لينبث في جرمها ويخالط الهواء ويتصفى ألطف ما فيه إلى الشريان الوريدي ليوصله إلى التجويف الأيسر من تجويفى القلب ...
ونرى من هذه الكلمات أن ابن النفيس قد فهم قيمة الدورة الدموية في الرئتين، وأنه كان على وشك أن يفهم الدورة الدموية العامة في الجسم، كما فعل هارفي بعد ذلك حوالي 1650 ميلادية.
والكتاب الذي نقلت منه هذه الكلمات هو مخطوط بدار الكتب بالقاهرة، رقم 123 طب، باسم فصول مختارة من شرح وتشريح ابن سينا، تأليف: علاء الدين المعروف بابن النفيس.
والقارئ إذا كان على شيء من الفهم البيولوجي أو الطبي، يدرك خطورة هذا الكلام الذي سطره ابن النفيس، وهو كلام علمي، وتفكير علمي، يقومان على المشاهدة، ولكن أي مشاهدة؟
أكبر ظني أن ابن النفيس قام بمشاهدته بالفحص عن قلوب الحيونات من خراف إلى بقر إلى إبل؛ إذ لم يكن ليستطيع أن يشرح جسم إنسان.
وليست مشاهدة ابن النفيس «مصادفة»؛ إذ هي تحتاج إلى تنقيب وفحص، ولذلك فإن قيمتها كبيرة جدا، وهناك مصادفات أدت إلى كشوف علمية، مثل معرفة القدماء لمادة الأمونيا (النوشادر) من معابد آمون في مصر، ومثل بعض الكشوف الكيماوية التي عرفت عن طريق البحث عن حجر الفلاسفة، وإحالة المعادن الخسيسة إلى معادن كريمة في الأندلس على أيدي العرب، والعبرة في العلم بمنهج البحث، وليس بالمصادفة.
ويعزى تأخر العلم عند العرب إلى عقبات نشأت في الحضارة الإسلامية، وعاقت التجربة العلمية، من ذلك مثلا تحريم الرسم وتحريم التشريح للجسم البشري، فإن الطب لا يمكنه أن يكون علما بغير الرسم والتشريح.
وقد حرم الخلفاء التشريح حتى إن أحد الأطباء في بغداد روى عن نفسه أنه تأهل لحرفة الطب بأن شرح جسم قرد، وقال في ذلك: إنه أقرب الأجسام إلى جسم الإنسان، وأنه ما دام الخليفة يحرم تشريح الجسم البشري فإن ما يستطيعه من الفهم لتركيب الأعضاء لن يكون إلا بتشريح جسم القرد، ولكن تحريم الرسم أدى إلى عرقلة العلوم جميعها ...
وتحريم الرسم كان في الأصل مقصورا على رسم البشر، ولكن الرسم باعتباره فنا ، كل لا يتجزأ، فإذا حرمنا رسم البشر حرمنا أيضا رسم أعضاء الجسم للحيونات أو النبات، ومن هنا العرقلة للعلم، ومن هنا الأسف العظيم على أن أمثال ابن النفيس لم يجدوا ما يعنيهم من الوسط الثقافي العربي، على أن ينشطوا أو يتمهروا ويعرفوا.
ثم كان الغزالي وأمثال الغزالي، فقد كتب هذا الرجل يحرم على المسلمين دراسة الجغرافيا، لا لأنها كاذبة، ولكن لأنها تنهض على العقل والمنطق، ومن هنا وصف ابن رشد الغزالي بكلمتي: «الجاهل الشرير».
ولكن الغزالي انتصر على ابن رشد، بل أكاد أقول: إنه لا يزال منتصرا في بيئات عربية كثيرة، وهنا الخطر.
إن بقاء العرب مرهون بالعقل والمنطق، وليس بعيدا أن ينقرضوا كما انقرض الديناصور إذا رفضوا العقل والمنطق والتزموا العقائد، أي: إذا اتبعوا الغزالي وأنكروا ابن رشد. (إن كتاب ألف ليلة وليلة يذكرنا في إحدى قصصه أن بعض المتعصبين كانوا يطوفون حول بغداد ويبحثون عن الكتب لإحراقها، وسؤالي هو: هل كان هؤلاء من أتباع الغزالى؟) •••
أعظم ما أخر العلم عند العرب هو الرق؛ ذلك أننا لا نشتغل بالعلم للمعرفة فقط، وإنما نحن نحاول أن نخترع أو نكتشف كي نصل إلى طريقة للإنتاج، في الزراعة، والصناعة، نقتصد بها في النفقات، ولكن ما دام عندنا عمال أرقاء يعملون بلا أجر فإننا لا نحتاج إلى الاقتصاد؛ ولذلك لا نخترع ولا نكتشف، وهذا الرق هو الذي وقف بالحضارة الإغريقية، ثم الحضارتين الرومانية والعربية. وجمدها جميعا.
والقرون الوسطى هي قرون التجميد في الحضارة، ومرجع هذا التجميد أو معظمه هو الرق الزراعي، أي ما يسميه الأوروبيون «سيرف». وبعث النهضة في أوروبا كان بإلغاء الرق الزراعي، حين أصبح العامل مأجورا يكلف عمله مقدارا من المال، فكان اختراع الآلة للاستغناء عنه.
وكلاهما، الرق بالنخاسة، والرق الإقطاعي في الزراعة، قد عما الشعوب العربية أكثر من ألف سنة فجمدها، كما جمد من قبلها الإغريق والرومان، وذلك على الرغم من أن الفرص التي أتيحت للعرب كي يرتفعوا في العلوم كانت كبيرة جدا، فإنهم استوردوا الحرير والورق والخزف من الصين ، والأرقام الهندية من الهند، ولكن النظام الإقطاعي الذي كان يسودهم، وكذلك الرق بالنخاسة، حالا دون أي ارتقاء علمي.
وكل ما نجد من كشوف علمية عند العرب يرجع إلى تلك الفنون التي تتصل بالطبقة الحاكمة، مثل الخزف والحرير والورق، فإن مصانعها أنشئت في العالم العربي، ولكن للطبقة الحاكمة، فصنعت الزهرية للزينة ولم يصنع الطبق للطعام. •••
هل تغيرت الظروف التي حالت في الماضي دون ارتقاء العلم بين العرب؟ أجل تغيرت، ولكن هذا التغيير ضئيل.
نحن نرسم الآن ونشرح جسم الإنسان، ونحن نتعلم العلوم في المدارس والجامعات، ونحن لا نحرق الكتب (كما أحرقت كتب ابن رشد). ثم إننا ألغينا الرق.
ولكن لا يزال باقيا عندنا شيء غير صغير من الرق الزراعي الذي يجعل أجور العمال الزراعيين منخفضة، وما دام أجر العامل منخفضا فإنا لا نجد الحافز إلى استخدام العلم وإلى الاكتشاف والاختراع، أي: لا نجد الحافز لأن نقتصد في نفقات الإنتاج بالاعتماد على الآلات بدلا من الاعتماد على العمال.
وقد حرم الاستعمار علينا إنشاء المصانع، ثم بعد ذلك استولى على وقود المصانع، البترول، وبذلك قطع علينا الطريق في الارتقاء الصناعي، والارتقاء الصناعي هو الارتقاء العلمي، وهنا يجب أن نقف للتأمل، العلم لا يولد في الجامعات والمدارس، وإنما يولد في المصانع. العلم أداة للتفكير بالدماغ واليد، وإذا قصرنا العلم على الدماغ، كما هو الأمر في معظم الجامعات، عقم العلم، وإذا أشركنا الدماغ مع اليد أخصب العلم، فيكون الاختراع والاكتشاف، وخير من أن ينشئ العرب الجامعات والمدارس، خير لهم ألف مرة أن ينشئوا المصانع، ومتى أنشئت المصانع فإنها ستضطرهم إلى إنشاء المدارس والجامعات. العلم ينشأ في الورشة والمصنع، ثم بعد ذلك تنتفع به الورشة والمصنع.
يجب أن يهدف العرب إلى أن يكون دخل كل أسرة عربية ألف جنيه في السنة، وهذا ممكن بالصناعة، وغير ممكن بالزراعة، ومتى وجدت الصناعة وجد العلم والاكتشاف والاختراع والثراء.
والفلسفة للشعب أيضا
مما يجهله كثيرون أن التفكير البشري ظاهرة اجتماعية، وأقرب ما يدل على ذلك أنه غير مستطاع إلا بالكلمات ، أي : باللغة؛ لأن اللغة هي الآلة التليفونية بين أفراد المجتمع، وإذا نحن تصورنا إنسانا يعيش في صحراء، وقد نشأ فيها منذ الطفولة، فإننا نقطع بأنه لا يستطيع التفكير إلا بمقدار ما يفكر الذئب أو الأسد؛ إذ ليست له لغة، ولكن نظام المجتمع، زيادة على كلمات اللغة، يعين تفكير الأديب والفيلسوف والفنان.
وهذا واضح في الأديب العربي القديم كما هو واضح في الآداب القديمة للأمم الأخرى.
فقد كان الأديب يكتب للملوك الذين يعتمد في عيشه على بقائهم وبقاء حواشيهم من أمراء وأثرياء مثل وفقهاء، ولذلك كانت كتب الأدب صنفين: أحدهما لتسلية الملوك مثل الأغانى للأصفهانى. والآخر لدراسة الآداب التقليدية مثل الكامل للمبرد.
والملوك تعيش بالتقاليد، فكان مثل المبرد يجد العيش والحافز في تأليفه مثل هذا الكتاب؛ لأن مناخه الذي ينمو فيه هو المناخ الملوكي، وكان هذا شأن الفلسفة أيضا؛ لأن الذين كانوا يدرسونها كانوا من الفقهاء في الدين، فكانوا لهذا السبب يحرصون على أن تخدم الفلسفة التقاليد والعقائد، وليس المعنى هنا أنه لم يكن هناك شاذون مثل ابن رشد أو محيي الدين بن عربي؛ لأن في كل مجتمع طوائف شاذة أو ساخطة.
لذلك كان اهتمام الفلاسفة مقصورا على بحث القيم العقيدية وليس القيم الاجتماعية، أو كان الاهتمام يتجه في الأكثر نحو استخدام الفلسفة لتأييد العقائد، وفى الأقل لبحث الأسلوب الصالح للعيش في هذه الدنيا.
ولم يكن هذا شأن المسلمين أو اليهود فقط، بل كان شأن المسيحيين أيضا في أوروبا، ولم يكن من الممكن أن يكون غير ذلك في أوروبا؛ إذ كان الفلاسفة السالفون من رجال الدين أو الرهبان فكانت القيم الفلسفية فيها دينية عقيدية على الدوام. •••
كانت الفلسفة قديما تحطم نفسها على صخرة الغيبيات، فتسأل: ماذا بعد الموت؟ وماذا وراء المادة؟ ونحو ذلك.
ولم يستطيع «فيلسوف» واحد أن يقنعنا برأي حاسم في هذه الموضوعات؛ إذ كان يخرج من تيه كي يدخل، أي: تيه آخر، وكان بذلك أشبه بالأعمى يبحث عن قطة سوداء في غرفة مظلمة، والقطة مع ذلك ليست في الغرفة .
وقد انتهى ابن رشد إلى القول المأثور: لا أدري. كما كان يقول الإسكندريون القدامى.
وهذا ما انتهى إليه هربرت سبنسر الذي وصف هذه الأشياء بأنها: «ما لا يمكن معرفته».
وانتهت الفلسفة في عصرنا إلى ترك هذه الأشياء بتاتا، وقنعت بأن يكون موضوعها الحياة.
كيف نعيش أحسن العيش؟
كيف نفهم الفهم الصحيح؟
وما هي السعادة؟
هل السعادة تحقيق الشهوات، أم زيادة الوجدان؟
كيف ننتج أكبر الإنتاج وأحسنه؟
كيف نحكم أحسن الحكم؟
ما هي القيم الفردية والاجتماعية التي تزيدنا صحة في الجسم، وذكاء في العقل، وطيبة في النفس؟
هذا وغيره مما يتصل بالحياة قد أصبح مهمة الفلسفة وشغل الفلاسفة.
ويمكن أن نقول: إن الفلسفة القديمة كانت «تفكيرا من أجل التفكير». كما كان الأدب في وقت ما «فنا من أجل الفن». أما الآن فإن كلا منهما يجعل الحياة البشرية بجميع ملابساتها موضوعه، ونحن أسعد حالا، وأعرف بمكاننا فيهما مما كنا حين كان لكل منهما «غيبيات» نعجز عن فهمها.
لما انحصر سلطان الملوك، وسلطان الرهبان بعد الإطلاق، ولما ظهرت الشعوب على مسرح الحياة تغمر الملوك والرهبان، ظهرت قيم جديدة في الفلسفة والأدب، هي أن الفلسفة والأدب للحياة؛ ولذلك نجد «ليثتنبرج» يسأل: ما هي الفلسفة؟
فيجيب أنها هذه الأسئلة الثلاثة والإجابة عليها: (1)
من أنا؟ (2)
ماذا يجب أن أفعل؟ (3)
ماذا أءمل، وماذا أعتقد؟
وبهذه الأسئلة ينكر الحلول القديمة ويحاول أن يستقل ويصل إلى حلول جديدة.
وهناك من ينكرون أن هناك علما يمكن أن يسمى فلسفة. وقصارى ما يقال عن الفلسفة عندهم: إنها التحقيق اللغوي والمنطق للمعارف والأهداف البشرية. هل هي صحيحة أم مخطئة؟ وإذن فقيمة الفلسفة هي التفتيش والتحقيق والإشراف على جميع العلوم والفنون، تبحث قيمتها واتجاهاتها وصحتها.
ولكن السيكلوجية العصرية التي دخلت الأدب، وتخللت أفكار الأدباء وتعابيرهم، قد دخلت أيضا الفلسفة، وأيما أديب أو فيلسوف يجهل السيكلوجية العصرية إنما يتخلف عن عصرنا بنحو مئة سنة على الأقل.
وتطل السيكلوجية على الفلسفة وهي تقول: لماذا هذا الجهد؟ إنما الوجدان هو غاية الحياة، وإذن هو غاية الفلسفة .
الوجدان هو:
كيف أجد نفسي في المجتمع والدنيا والكون؟
كيف أجد نفسي في العلوم والفنون؟
كيف أجد نفسي في منطقي وعقائدي وأسلوب عيشي وأهداف حياتي؟
كيف أجد نفسي في معاني السعادة والشقاء والثراء والفاقة؟
كيف أجد نفسي في معاني الخير والشر؟ •••
الوجدان هو التعقل.
اعتبر الكلب الذي يعيش معي في منزلي أن له وجدانا، أي أنه يجد نفسه ويزن مركزه، بحيث يعرف أنه لا يجوز له أن يتناول الطعام إذا كان في طبق آخر، ومكان آخر غير الطبق الذي يأكل منه والمكان المعين له، وهو يعرف أعضاء الأسرة وجغرافيا المنزل، ويهب على الغريب نابحا إلى أن نطمئنه عنه، وهو يستطيع أن يخرج ويجول في ثلاثة أو أربعة شوارع حول المنزل، وهذا هو كل وجدانه، أي: إنه يجد نفسه في هذه الحدود، ولكن وجداني أنا أكبر.
أعظم ما يزيد وجداني هو كلمات اللغة؛ لأن الكلمات أفكار، أنا «أجد» أني لست ساكنا في منزلي فقط، بل في مصر، وفي إفريقيا، وعلى هذه الكرة التي تدور حول الشمس، ويزيد وجداني أكثر لأني أعرف مركز الشمس في هذا الكون.
ثم إن لي وجدانا بالأخلاق أكثر من الكلب، وكذلك أنا على يقظة بالسياسة المصرية والعالمية، وعلى إحساس بالأخطار البشرية من الذرة، وعلى معان مختلفة من العقائد والعلوم والآداب.
وتطور الأحياء، منذ نبض طين السواحل بالحياة إلى ظهور الإنسان، إنما هو ارتقاء نحو الزيادة في الوجدان، أي التوسع الوجداني، وغايتي من الحياة هي زيادة الوجدان بزيادة معارفي واختباراتي وتعقلها.
ولم أعد أهتم بتلك الأسئلة القديمة التي كان يسألها الرهبان: ماذا وراء المادة؟ ماذا وراء الموت؟ ماذا وراء الكون؟
وأنا أجيب عليها جميعا بكلمتي ابن رشد: لا أدري.
وعندي أن الكاتب العظيم في الفلسفة أو الأدب هو الذي يزيد وجدان قرائه، فيحفزهم إلى التفكير في تجديد القيم الاجتماعية والإنسانية والسياسية.
وهنا نعود إلى ما بدأنا به؛ ذلك أننا إلى أن نقول: إن الأدب للشعب، أي: للحياة. أي: للإنسانية. ولم يعد الأدب تسلية للملوك، ولا كتابا يؤلفه الرهبان عن كتب سابقة، ويخاطبون به الرهبان عن غيبيات يقول عنها ابن رشد: لا أدري.
وكذلك الشأن في الفلسفة، فإن بروز الشعب إلى وجدان المفكرين قد جعل للفرد الذي كان يهمل سابقا، مكانا جديدا وخطيرا.
اذكر الجندي المجهول.
ونحن الآن نكتب الأدب أو الفلسفة لهذا الفرد الذي كان يهمل في الماضي، ونحن نطالب هذا الفرد بأن يحس هذا الوجدان الجديد، كما أننا نساعده على أن يجده، أي: يجد نفسه في هذا الكون.
ووصولنا إلى هذا الموقف من الأدب والفلسفة يرجع، كما قلنا، إلى أن المجتمعات قد تغيرت، وأنها بدلا من أن تكون مجتمعات الملوك والرهبان أصبحت مجتمعات الشعب. فأصبح الأديب والفيلسوف، كلاهما يهتمان بهموم الشعب، أي: بهموم أفراده.
أجل، يجب ألا نكتب لفاروق، ولكن للجندي المجهول من الشعب.
ابن خلدون والعرب
عد المؤرخون - بحق - ابن خلدون أول من وضع علم الاجتماع ولا تزال «المقدمة» بين أيدينا تخبر عن عقل كبير في التحليل والتأليف؛ والإحاطة، والتفصيل، وقد أنستنا هذه المقدمة ما وضعت من أجله، وهو درس التاريخ الكبير الذي وضعه بعدها، وكانت المقدمة بمثابة التهيئة والتنبيه لدرس هذا التاريخ؛ إذ اتضح للقراء أنها أثمن من التاريخ.
وقد تناول المؤلف بحوثا كثيرة، حاول أن يفهم المادية ثم يشرح فيها معنى «التمدن». وكيف ترتقي الأمم وكيف تنحط.
وكان أول مؤرخ يعلل التاريخ وينظر إليه النظرة المادية، ويجد أن حوادثه ليست طوارئ ومصادفات، وإنما هي نتائج لأسباب وأسباب لنتائج، وهي تطورات وثورات تقتضيها ظروف الطبيعة أو ظرف الاجتماع.
وقد كانت حياته حافلة، بل مزدحمة، بالأحداث العظام، مثل الطاعون الجارف الذي عم القارات الثلاث، ومثل هجوم التتار بقيادة الوحش تيمور لنك وتدميره حضارة الشرق الإسلامى في آسيا، وهذان الحادثان جديران بأن ينبها الذهن العادي فضلا عن الذهن الفذ الذي كان يمتاز به ابن خلدون، وهما بمثابة هاتين الحربين العالميتين اللتين وقعتا في عصرنا من 1914 إلى 1945، فإنهما أيضا قد نبهتا الغافلين قبل المتنبهين وعممتا بيننا وجدانا بالبشرية وضرورة الحكومة العالمية، وقد نشأ من الحرب الأولى «عصبة الأمم »، ونشأ من الحرب الثانية «هيئة الأمم المتحدة».
وكانت حياة ابن خلدون نفسها كثيرة الأحداث، فإنه ولد في تونس، وشغل المناصب السياسية في مراكش وإسبانيا، وعاد إلى تونس حيث ألف كتابه العظيم «المقدمة والتاريخ» ثم رحل إلى مصر حيث بقي بها نحو 23 عاما استخدم في أثنائها في السفارة إلى تيمور لنك الذي قابله عند دمشق.
والذي يقرأ «المقدمة» يجد عبارات جديدة لم يكن يعرفها الكتاب من قبل، هي ما ابتكره هو من الأفكار، مثل «العمران البشري» و«الاجتماع الإنساني» و«تأثير الهواء في ألوان البشر» و«العمران البدوي والأمم الوحشية» و«إن للدولة أعمارا طبيعية كما للأشخاص» و«إن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم» إلخ ...
وقد يكون مخطئا في كثير من أبحاثه، ولكن جدتها كانت تبعث على التفكير والمناقشة، وكان يمكن أن تخصب هذه «المقدمة» لو أنها وجدت من المتعلمين في مصر وسائر الأقطار العربية من يوالونها بالنقد والشرح والتعليق، وهذا ما لم يحدث لأسباب ما زلنا نجهلها.
وظني أن بعض ما حال دون ذلك هو كراهة ابن خلدون للعرب وعدوانه على ثقافتهم في المعنى العصري لهذه الكلمة، وقد كنت أنا أول من استعمل كلمة «الثقافة» بمعناها العصري، وكان ابن خلدون هو الموحي إلي به.
ومن العجيب في ابن خلدون أنه يذكر «العصبية» كثيرا، ولكنه لا يذكر الأسرة، وهو لا يكاد يكون في غيبوبة تامة عن مكانة المرأة في المجتمع، ولا عبرة بأن يقال: إنه نشأ في وسط اجتماعي يعوق بصيرته، فإن ابن رشد قد سبقه بسنوات إلى هذا الموضوع، وتحدث عن ضرورة ارتقاء المرأة، وأنها يجب أن تخالط المجتمع وتؤدي وظائف الدولة.
ثم إنه كان يعرف المجتمع الأوربي؛ إذ عاش فيه بضعة أشهر في سفارته إلى ملك إشبيلية، ولكنه لم يقارن بين المجتمعين الأوربي والعربي، مع أنه قارن بين أساليب الحرب الأوربية والأساليب العربية، وآثر الأولى على الثانية.
والخطأ البارز في ابن خلدون هو تنقصه حضارة العرب، فإنه هنا أعمى كامل العمى لا يرى بصيصا من نور، وأنا لا أعزو هذا العمى إلى أنه بربري يكره العرب، فإن هذا القول ليس تفسيرا، وما أظن أنه كان يخدع نفسه فيرى فضائل العرب نقائص، ويكتب هذا في «مقدمة» أخلص فيها التفكير وأراد أن يصل فيها إلى استنتاجات منطقية. هذا مع أني أحتفظ له بخيانات شخصية وثقافية، فإنه مثلا خان معظم الأمراء والملوك الذين خدمهم، ثم إنه سرق كل ما كتبه إخوان الصفاء وعزاه إلى نفسه.
ولكن حملة ابن خلدون ترجع إلى جهله لا أكثر، فإنه رأى الإعراب، ولم ير العرب.
يقول ابن خلدون في «المقدمة» عن العرب: «إنهم بطبيعة التوحش الذي فيهم أهل انتهاب وعبث، ينتهبون ما قدروا عليه من غير مغالبة ولا ركوب خطر ويفرون إلى منتجعهم بالفقر».
ويقول أيضا في فصل عنوانه: «إن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب»: «والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم، فصار لهم جبلة وخلقا، وكان عندهم ملذوذا لما فيه من الخروج عن ريقة الحكم وعدم الانقياد للسياسة، وهذه الطبيعة منافية للعمران ومناقضة له».
والمتأمل لهذا الكلام يعود فيقول: أهؤلاء عرب أم أعراب؟
وقد استطاع الدكتور مشرفة أن ينبهنا إلى القيمة التاريخية والمهمة الاجتماعية التي أداها العرب في التطور البشري، فإن الجزء الثاني من كتابه الإنكليزي: «نظرة ثقافية عامة لمصر الحديثة» قد بحث هذا الموضوع لأول مرة في التاريخ العربي أو الغربي.
والدكتور مشرفة يبحث التغييرات أو الانقلابات التاريخية من حيث إنها النتائج المترتبة عن الوضع الاقتصادي، وهي نتائج محتومة بحتمية الجغرافيا التي تعيش فيها الأمة، ووسائل العيش، وطرق الإنتاج، التي تتبعها.
فالأمم البدوية القديمة مثل الهكسوس واليهود العرب كانت تقتني الماشية وتنتجع المراعي البعيدة، أي: إنها كانت دائمة التنقل، بل دائمة الهجرة، وقصة يوسف بن يعقوب تدلنا على الاجتماع والهجرة، فإن قافلة سورية كانت تنوي السفر فوجدته وحملته، وهي إنما أرادت السفر؛ لأنها كانت ترغب في التبادل التجاري، تعطي مصر بعض ماشيتها وتأخذ بدلا منها حبوبا تعود للاتجار بها في سوريا أو فلسطين، وكانت مصر في تلك العصور زراعية صناعية تستكفي بإنتاجها، ولكنها كانت تتبادل بعض محصولاتها بمحصولات الأمم المجاورة عن طريق هذه القوافل.
هذه القوافل العربية أو اليهودية أو الهكسوسية، وهذه هي مهمة العرب الأولى في التاريخ، فإن العرب ربطوا الأمم البعيدة برباط التبادل التجاري، فكانت قوافلهم وأحيانا سفنهم، تتصل بالصين والهند والعراق وإيران ومصر وإفريقيا الشمالية؛ وذلك لأنهم كانوا لا يزرعون ولا يصنعون، وإنما كانوا ينقلون ما تزرعه الأمم وما تصنعه، وكانوا يؤدون أثمان المصنوعات والمحصولات بماشيتهم أو بما يحصلون عليه من ذهب وفضة من الأقطار البعيدة.
كان المجتمع القديم في مصر زراعيا، بل زراعيا متقدما، وكانت الصناعة بدائية محلية، وكان كثير منها مثل البناء بالحجر للقبور والأهرمات، وكذلك استخراج الذهب وصناعة الورق من احتكار الدولة، وما زالت أوروبا تستعمل كلمة «بيبر»، أي: الورق، وهي محرفة عن كلمة فرعون «بيبرون»؛ لأن الورق كان من محتكرات الدولة، والدولة هي فرعون.
وقد كان موسى بن ميمون، الفيلسوف اليهودي الذي عاش في القاهرة قبل ابن خلدون، أيام صلاح الدين له أقارب وأبناء يتجرون في الهند وإسبانيا، أي: الأندلس، وما بينهما، ولم يكن الأوروبيون يعرفون هذه التجارة «العالمية» في وقته، ولو أن ابن خلدون كان قد تنبه إلى هذه المقارنة، أي: انحباس الأوروبيين في أوروبا على حضارة متخلفة، وانفساح العرب في إفريقيا وآسيا على حضارة متقدمة، وفكر فيها، لما وقع في هذا الخطأ بل الخطل حين زعم أن العرب متوحشون.
ذلك أن العرب كانوا على حضارة راقية بسبب اتصالهم بأقطار آسيا وإفريقيا، في حين أن أوروبا كانت تعيش على حضارة قروية تعتمد على صناعات القرية البدائية، وهذا هو معنى «القرون المظلمة» في أوروبا التي ركدت فيها بين 500 و1000م.
وكان العرب أنفسهم عاملا في ركود أوروبا؛ هذا لأنهم منعوا الأوربيين من الملاحة في البحر المتوسط وما وراء البحار، وقد أشار ابن خلدون إلى ذلك، ولكنه لم يتنبه إلى دلالته.
وينبهنا الدكتور مشرفة إلى أن قصة السندباد هي قصة تاجر، وهي التخيل الأدبي الذي يبعثه الطموح لأمة تعيش بالتجارة، وهي تجارة على أبعاد عالمية، بل كذلك الكثير من قصص ألف ليلة وليلة.
وعندما نتأمل صعود الدول العربية وسقوطها نجد أنها كانت على الدوام بسبب الاحتكارات، أو الغزوات التجارية، أو التي تعود إلى حوافز تجارية، وقد كانت الدولة الفاطمية في مصر تمثل طبقة التجار الصغار، بل إن أحد الخلفاء لهذه الدولة كان يملك نصف المنازل والمتاجر في القاهرة ... كان تاجرا قبل أن يكون ملكا.
ولست أريد الاستقصاء في هذا المقال، ولكني أحب فقط أن أنبه القراء إلى هذا النظر الجديد للمهمة التاريخية التي قام بها العرب، بل قام بها أيضا البدو من الهكسوس والعبرانيين قبل العرب، فإن الأمم القديمة عرفت الزراعة واستقرت عليها مع القليل من الصناعة، وكانت في استقرارها تركد وتأسن، وليست القرية التي تعيش بالزراعة منبعا للحضارة؛ لأن استكفاءها بالمحصولات التي حولها لا يتيح لها الحاجة إلى الاتجار مع الأقطار النائية، بل هذا هو معنى القرون المظلمة في أوروبا، فإنها قرون الاستكفاء القروي وانتفاء التجارة العالمية، تلك التجارة التي كانت تجعل الرومان متمدنين وتصل بينهم وبين آسيا وإفريقيا.
وكثرة المؤلفين الجغرافيين في العرب برهان على هذا النظر العالمي في الثقافة العربية، ورحلة ابن بطوطة من طنجة إلى بحر اليابان، برهان رائع على هذه الثقافة العربية التي كانت تعود إلى التجارة، بل إن كلمة «تاج» الصينية، بمعنى تاجر، هي كلمة عربية، وقد حذفت الراء؛ لأنها ليست من الأبجدية الصينية أو بالأحرى لا ينطق الصينيون هذا الحرف، وتفسير ذلك أن أول التجار الذين قصدوا إلى الصين للتبادل التجاري كانوا من العرب.
وإذن نحن نستبين الحقائق التاريخية كما كانت في الواقع بالترتيب التالي: (1)
نشأت الأمم الزراعية باقتصاديات استكفائية، وتألفت الدولة، فكانت الحضارة قروية محدودة. (2)
نشأت الصناعات الكبيرة باعتبار أنها من احتكارات الدولة. (3)
نشأ التبادل التجاري على أيدي الأمم البدوية التي كانت ترتحل وتتجمع، الهكسوس، والعبرانيين، والعرب.
وفضل العرب، ومهمتهم التاريخية، أنهم ربطوا العالم بقاراته الثلاث أكثر من ألف سنة بالتجارة، وبهذا الرباط اتسع الوجدان البشري، وظهرت ثقافة جديدة تتجاوز حدود الأقطار، إلى القارات، وإلى العالم كله، وهذا هو ما جهله ابن خلدون.
شاعران من مصر
أبو نواس والمتنبي شاعران عظيمان، بل ربما كانا أعظم شعراء العرب الذين زاروا مصر، قدم أولهما إلى مصر أيام ولاية الخصيب، وجاء الثاني بعده بنحو مئة وخمسين سنة أيام ولاية كافور الإخشيدي.
وليس بين الاثنين سوى صلة النظم للشعر، أما من حيث المزاج والاتجاه واللغة والخيال فإن ما بينهما أبعد مما بين القطبين، بل إني أعتقد أن الذي يحب أبا نواس لا يمكنه أن يحب المتنبي، وكذلك العكس؛ لأنهما يتناقضان في كل شيء تقريبا.
كان أبو نواس يحب الخمر والمجون، وكان المتنبي يأنف منهما، وكان أبو نواس مجددا في الشعر لا يبالي بقديمه أسلوبا أو لغة، ولكن المتنبي على الرغم من أنه جاء بعده بقرن ونصف قرن كان أسلوبيا في خياله ولغته، ينحو نحو القدماء، وكان أبو نواس راضيا بمقامه وهو مقام الشاعر الأديب، ولكن المتنبي لم يكن راضيا بهذا المقام؛ إذ كان يطمع في أن يكون واليا، وكان أبو نواس متواضعا، يكاد يكون سوقيا، يختلط بالعامة ويحب نكاتها ونوادرها، أما المتنبي فكان عزوفا عن العامة، يتكبر ويشمخ ولا يجالس غير الأمراء ولا يكاد يفطن إلى نكتة.
وعندما نقرأ أشعارهما نحس أننا نحب أبا نواس ولكننا لا نحترمه، في حين أننا نحترم المتنبي ولكننا لا نحبه.
يقول الأوروبيون: إن الخمر التي سماها يعقوب وهو يبارك أولاده، دماء الأعناب، يقولون: إنها بعض تقاليد حضارتهم. ولا يمكن أن يقال مثل هذا القول عن العرب، ولكن الذي يمكن قوله بلا خطأ هو: إن الخمر بعض تقاليد الأدب العربي. وما قيل من الأشعار في الخمر أيام الجاهلية، ثم في عصور الإسلام، يملأ المجلدات الضخمة ويحمل من مختلف المعاني ما يرتفع إلى أسمى درجات البلاغة والخيال، وقد كان أبو نواس شاعر الخمر، كما كان شاعر الظروف والنكتة، وقد ذكرت الخمر كثيرا في أشعار الجاهلية، ولكن في معرض الحرب التي تسعرها والشجاعة التي تبعثها، وأبو نواس بعيد عن الحرب والشجاعة، ولذلك لا يذكرها إلا لذاتها ؛ أو لأنها تبعث إحساسات الحب والغرام، أو لأنها تنسي الهموم وتمحو القلق والأرق، ومن هنا حب العامة له، فإنه باستهتاره قد أزاح عنها هموم العيش، وإن كان هذا بالخيال فقط؛ ولذلك ألفت عنه الكتب العامية باللغة الدارجة، وهذه الكتب لا تحوي من أشعاره بمقدار ما تحوي من نكات ونوادر عزيت إليه، والأصح أنها مخترعة تمثل العقل الكامن في العامة وتعبر عن عواطفها وشهواتها بالسخرية من العظماء وفتح الآمال للفقراء والضعفاء.
ويكاد تكون عندنا شخصيتان لأبي نواس إحداهما تلك الشخصية الأدبية العالية التي يعرفها الأدباء في أشعار تبلغ الذروة في الخيال والإحساس، والأخرى تلك الشخصية التي تعرفها العامة في مجونه ونكاته ونوادره، ولكن يجمع بين الشخصيتين الاعتقاد بأن أبا نواس شاعر وظريف معا.
جاء أبو نواس مصر كي يرى النيل، ويتقرب إلى الخصيب بن عبد الحميد الوالي الكريم، ويستطلع دنيا جديدة غير الدنيا التي عرفها في العراق، وكان ذلك أيام الرشيد، وفي الخصيب يقول أبو نواس:
أنت الخصيب وهذه مصر
فتدفقا فكلاكما بحر
لا تقعدا بي عن مدى أملي
شيئا فما لكما به عذر
ويحق لي إذ صرت بينكما
ألا يحل بساحتي ضر
ويقول أيضا عن الخصيب:
يا ابنتي أبشري بحيرة مصر
وتمني وأسرفي في الأماني
أنا في ذمة الخصيب مقيم
حيث لا تهتدي حروف الزمان
قد علقنا من الخصيب حبالا
أمنتنا طوارق الحدثان
لا تخافي على غول الليالي
فمكاني من الخصيب مكاني
ولا نعرف كثيرا عن مقام أبي نواس في مصر، والظن الأكبر أنه لم يجد ترحيبا من كتابها وأدبائها، وإن وجد الكرم الذي انتظره من الخصيب، فإن استهتاره عندما كان يتحدث عن الخمر كان أكبر مما يتسع له صدر المصريين وقتئذ؛ إذ لم تكن مصر مركز الخلفاء مثل بغداد، ولم يكن الترف قد أدى فيها إلى استرخاص الفضائل الدينية، فقد كان أبو نواس يقول في الخمر:
ألا فاسقني الخمر وقل لي هي الخمر
ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر
وقد رويت عنه قصة يمكن أن تكون مكذوبة ، هي أنه كان يشرب الخمر والمطر يتساقط، فوضع قدحا وجمع فيه قطرات من المطر ثم شربه، وقال: «يزعمون أن مع كل قطرة ملكا، فكم تراني قد شربت من الملائكة».
هذا أبو نواس المستهتر الذي زار مصر أيام الخصيب، فلننظر في شاعر آخر زارها أيضا أيام كافور، وهو المتنبي.
كان المتنبي شاعر سيف الدولة في حلب، وكانت أيامه قلقة بالحروب بين سيف الدولة والدولة الرومانية الشرقية، فلم تكن هناك فضيلة أعلى من الشجاعة ولا أنفع منها، ومن هنا غلبت الحماسة الحربية على قصائد المتنبي، بل من هنا هذا الاستعلاء الذي نحسه من المتنبي نحو العامة، فإنه كان يختلط بالقادة والزعماء والرؤساء ويتغنى بالحرب كما لو كانت هي الشىء المألوف في الحياة الذي يستحق الاهتمام دون ما عداه من أي شأن آخر.
وكانت قدرته اللغوية هائلة، ولكن لا أظن أنها كانت تزيد على قدرة أبي نواس، ولكن الفرق بينهما أن الأول كان يتعاسر ويتعاظل في حين أن الثاني كان يتياسر ويتسامح، وهذا يتفق مع المنطق الاجتماعي لكل منهما، فإن المتنبي كان يحيا في مجتمع حربي قوامه الشجاعة والقتال، ومن هنا معاظلته وجده، فقد كان يقصف بالأبيات كما لو كانت قنابل، وكان أبو نواس يحيا في مجتمع بغداد الطروب بخمره وغنائه ويسره، ومن هنا اختياره السهل البسيط في الكلمات والأساليب حتى لننشد أبياته وكأنه كئوس الخمر المسكرة.
وجاء المتنبي إلى مصر وهو على إحساس بأنه سوف يكرم من كافور الخصي الإخشيدي، وتطلع إلى ولاية يتولاها ويعيش أميرا كالأمراء، ولعله حلم بأنه سوف يكون له شعراء يمدحونه كما كان هو يمدح سيف الدولة في حلب، ولعله كان يفكر في تلك الأيام السعيدة المستقبلة حين يستطيع أن يصف فيها سيف الدولة بأنه زميله وليس أميره؛ وخاصة لأنه تركه عقب نبوة وإزورار منه، وشرع يمدح كافور بقصائد أسرف فيها، ولكن كافور كان يقرأ ما خفي خلف هذه القصائد فكان يداري الشاعر ثم يصرفه باسما هازئا بأطماعه أو مسوفا مرجيا حتى لا ينقلب عليه المتنبي بعد المدح .
ولكن المتنبي بذكائه الخارق عرف أن كافور يلعب به وأنه لن يوليه الولاية المرموقة، فانقلب هاجيا مسرفا في الهجاء بعد إسرافه في الثناء.
ونحن نضحك من كافور الذي يمدح ويهجى، ونضحك من المتنبي الذي سخر منه كافور، نضحك حين نقرأ للمتنبي في كافور الأسود الخصي قصيدة يفتحها بقوله:
غالب فيك الشوق والشوق أغلب
وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب
ويقول فيها:
وأخلا كافور إذا شئت مدحه
وإن لم أشأ تملي علي وأكتب
إذا ترك الإنسان أهلا وراءه
ويمم كافورا فما يتغرب
ثم يستجدي كافورا الولاية فيقول:
أبا المسك هل في الكأس فضل أناله
فإني أغني منذ حين وتشرب
ولكن كل هذا ذهب مع الريح فعاد يصف كافورا بقوله:
وإنك لا تدري ألونك أسود
من الجهل أم قد صار أبيض صافيا؟
وقوله:
ومثلك يؤتى من بلاد بعيدة
ليضحك ربات الحداد البواكيا
وهذا انتهت مهزلة كافور المتنبي، وترك الشاعر مصر يلعن الأرض والناس وواليهم الخصي الأسود.
صلاح الدين ومقامه في التاريخ
ليس هناك اسم يتلألأ عند العرب والأوروبيين معا مثل صلاح الدين فاتح القدس، وقد نسجت حول اسمه أساطير إن لم تكن صحيحة فإن تأليفها يدل على مقامه عند الذين ألفوها.
ونحن نعرف من القواعد الأساسية في التاريخ أن الإشاعة لا تقل مكانتها عن الحقيقة؛ إذ هي تعكس حالة الرأي العام. •••
ظهر الأتراك في تاريخ العرب منذ القرن الأول للدولة العباسية ثم تكاثروا وتفاقموا، حتى صارت السلطة الفعلية في أيديهم، ثم بعد قرون انتقلت إليهم السلطة الشرعية أيضا، فصار منهم ملوك وأمراء وقواد.
وكلمة «الأتراك» تعميمية وليست تخصيصية، فهي لا تعني العنصر التركي وحده، وإنما تعني أيضا الأكراد، ثم الشركس، ثم التتار والمغول، فإن كل هؤلاء قد اعتنقوا الإسلام وتولوا الأحكام ولم تمنعهم أجنبيتهم عن حكم الشعوب العربية، ومن هؤلاء صلاح الدين.
فإنه كردي نشأ في دمشق حين كان أبوه حاكما على دمشق، وكانت الحروب الصليبية في فلسطين وسوريا على أشدها بين المسلمين العرب وبين الأوروبيين المسيحيين، وكانت «أورشليم» أي: القدس إمارة مسيحية، وكانت هذه المدينة شوكة في جنب العرب، وبقيت كذلك نحو مئة سنة حتى افتتحها صلاح الدين في سنة 1187 ميلادية، وذاع هذا الخبر في أنحاء العالمين العربي والأوربي، ومن ذلك الوقت إلى الآن واسم صلاح الدين يجري على الألسنة والأقلام باعتبار أنه جعل التاريخ ينعطف من قوة الغرب إلى قوة الشرق.
والحوادث هي التي تخلق الرجال، ولكن شخصية الرجل العظيم تستطيع أن توجه الحوادث وتغير مجاريها.
ومعنى ذلك أن الكفاح بين المسلمين والأوروبيين في القرن الثاني عشر كان يتطلب رجالا، وكانت الكوارث تخرجهم كي يكونوا أكفاء لمواجهتها، ونحن نجد في هذا القرن رجلين عظيمين هما صلاح الدين المسلم، وقلب الأسد المسيحي.
كان كل منهما عظيما يبدي من الشهامة ما يدل على أنه ممتلئ بالرجولة، يعلو على الصغائر ويهدف إلى العظمة.
ولم تكن الحروب الصليبية التي اشترك فيها هذان العظيمان خالية من الخسة والخيانة، فإن بعض الملوك من الإفرنج كان يحارب بعضا منهم، كما أن بعض الأمراء المسلمين كان يحالف أو يمالئ بعض الملوك المسيحيين.
وعرف صلاح الدين هذه الممالآت أو المحالفات، فقدم إلى مصر وجعل يعمل في السياسة وفي الحرب معا، وكانت مصر تعاني انهيارا في كلا الفنين، وذلك لأن العرش الفاطمي كان قد وصل إلى آخر أنفاسه من حظه من الحياة، ولم يكن للخليفة الفاطمي أية سلطة إزاء رجال قصره، ورأى صلاح الدين عرشا فارغا فاعتلاه وملأه.
ولكن صلاح الدين أحس أن له رسالة، ليست هي أن يملأ العرش ويتولى الحكم، وإنما هي مقاتلة الصليبيين حتى يخرجهم من فلسطين، ولم يعرف وهو ملك، ملذات القصور ودعة السلطان الذي يؤدي عنه وزراؤه الثقيل من الوجبات المدنية، وجعل يقاتل الصليبيين في كل مكان، ووجد في ريتشارد قلب الأسد قريعا، وكان القتال ينقطع من سنة إلى أخرى ولكنه كان يعود أحر مما كان.
ولم تكن العلاقات التجارية بين المسيحيين والمسلمين مقطوعة؛ ذلك لأن كلا من الفريقين رأى من الحسن لهما كليهما، أن يبقى شيء من الصلات قائما، ولذلك عندما نقرأ كتاب الاعتبار لأسامة بن منقذ، الذي عاش في الحروب الصليبية، نجد أن الاختلاط بين المدنيين لم يكن منقطعا.
ويذكر الأوروبيون قصصا وأساطير عن صلاح الدين، كلها برهان الشهامة والترفع والإنسانية، من ذلك مثلا أن امرأة رأته فصارت تضرع وتولول وتنادي باسمه فاستدعاها وسألها عما تشكوه، فأخبرته بأن ابنها قد أسر، أي: أنها كانت مسيحية وأن ابنها كان يقاتل المسلمين، وتضرعت إليه كي يفك إسار ابنها وخاصة لأنه وحيدها، فلما تأمل صلاح الدين حالها، وهي حال الأم التي تفقد وحيدها، رق لها وأسلم إليها ابنها، وعندما نتأمل هذه القصة يجب ألا نقيم الشبه بينها وبين أسرى الحرب في أيامنا، فإن لهؤلاء حقوقا تعترف بها الدول، أما في أيام صلاح الدين فكان الأسير يقتل أو يباع.
ويذكر الأوروبيون أيضا أن ريتشارد قلب الأسد لزم فراشه لمرض ألم به فلما سمع صلاح الدين ذلك أرسل إليه أطباءه لمعالجته.
هذا شيء من أخلاق صلاح الدين التي جعلت الأوروبيين يقدرونه ويحترمونه، وهو يبدو من مؤلفاتهم، وكذلك من مؤلفات المؤرخين العرب، أنه كان شخصية فذة.
وحسبنا أن نذكر حادثة أثرت عنه، فإنه لما أحس باقتراب الموت، وهو في فراشه، أمر بتهيئة الكفن، وهو قطعة من القماش لا تزيد على ثلاثة أمتار طولا في متر ونصف متر عرضا، ثم أمر أحد الخدم بأن يحمل هذا الكفن ويخرج به إلى شوارع دمشق ويسير فيها مناديا، هذا هو كل ما سيأخذه صلاح الدين إلى قبره حين يموت، ومات بعد أيام ووسد التراب.
ما أعجب هذه العظة، ليس للملوك وحدهم، بل لكل إنسان على هذا الكوكب. •••
الحرب قطيعة وإحنة وشر، وليس من شك في أن الحروب الصليبية حوت كثيرا من الشرور والآثام، ولكنها مع ذلك أوجدت كثيرا من التعارف بين الشرق والغرب وهدمت السور الذي كان يفصل بينهما.
والذي يقرأ كتاب أسامة بن منقذ، الذي عاش هذه الحروب وروى الكثير من حوادث حياته الاجتماعية والسياسية فيها، يحس بأن ما يتوهمه من قطيعة فاصلة بين العرب والأوروبيين لم يكن حقيقيا؛ إذ كان هناك الكثير أيضا من الاتصالات التجارية بل الإنسانية.
وفي القاهرة، إلى وقتنا، أثران يدلان على أن التعارف لم يكن أقل من التناكر، فإن القلعة التي بناها صلاح الدين هي حصن أوروبي لا يختلف عن تلك الحصون التي لا تزال توجد آثارها في فرنسا وتعرف باسم «شاتو»، وكلمة «برج» هي كلمة أوروبية، والأبراج هي أخص خواص هذه الحصون؛ إذ هي أمكنة الدفاع المستتر في تلك السنين التي لم تكن تعرف البنادق أو المدافع، ولا بد أن الذين بنوا هذه القلعة قد نقلوا تخطيطها عن القلاع التي بناها الصليبيون في سوريا.
ثم في القاهرة أثر آخر هو هذه القناطر، أو الأقباء، التي ما زلنا نجدها مقامة في مصر القديمة بين النيل والقلعة. وكانت المياه ترفع من النيل عند شاطئه ثم تجرى فوق القناطر إلى أن تبلغ القلعة، وهذا الأسلوب في نقل المياه هو أسلوب روماني قديم بقي إلى القرون الوسطى التي اتسمت بهذه الحروب الصليبية، وهي، أي: هذه القناطر، منقولة عن الأوروبيين.
ثم يجب ألا ننسى أن تقلبات الحرب بين العرب والأوروبيين جعلت الفريقين يحترمان القواعد الإنسانية، فالبلدة التي يفتحها الصليبيون كانت تحتوي من المسلمين على ما يبلغ النصف أو الثلثين. ولم يكن الأمير أو الملك المسيحي يجرؤ على أن يسيء إليهم؛ لأنه كان يعرف من ناحية أخرى أن هناك آلاف المسيحيين في المدن الأخرى التي يحكمها المسلمون، وكذلك العكس.
فكان الأمير المسيحي، مثل الأمير المسلم، يعامل كل منهما أبناء الدين الآخر بالاحترام ويحميهم من الظلم أو الأذى، ثم كان التبادل التجاري؛ إذ لم يكن من الممكن أن يعيش السكان حتى مع الحرب التي لا تنقطع بلا تجارة، والتجارة تؤدي إلى التعارف ثم إلى التبادل الثقافي.
كان صلاح الدين نبأ في تاريخ الشرق العربي، وما زلنا نستعيد ذكرياتنا عن حروبه فنحس الفخر والعزة والشرف.
نابليون في مصر
كانت مصر، قبل دخول الأتراك في سنة 1517، أعظم دولة في البحر المتوسط، فقد كانت موانيها، الإسكندرية ودمياط والسويس، أسواق التبادل التجاري بين آسيا وأوروبا، وفيما بين سنة 1300 و1450 كانت مصر أغنى دولة بما كانت تحصل عليه من المكوس على بضائع آسيا وأوروبا التي كانت تمر على موانيها وتقطع طرقها.
ولكن هذا الثراء تزعزع عندما اكتشف كولومبوس القارة الأمريكية في سنة 1492، ثم انهار تماما عندما دخل الأتراك مصر في سنة 1517.
ومنذ 1517 إلى 1798 كانت مصر في فوضى، يحكمها ولاة من إستانبول، يشترون الولاية على مصر بالرشوة الغالية، فإذا وصلوا إلى القاهرة جمعوا أضعافها بالنهب والاغتصاب والسرقة، وكان أحدهم يبقى شهورا، ويعرف أن بقاءه في الولاية لن يزيد على سنة أو نحو ذلك، فكان ينحصر كل اهتمامه في جمع أكبر مقدار من المال؛ كي يسدد الرشوة أو الرشى التي أداها للحصول على الولاية وهو في إستانبول، ثم يجمع فوق ذلك مقدارا آخر يعيش به في الترف والبذخ.
وكانت الولاية للوالي التركي، ولكن الحكم الحقيقي كان للمماليك، أي: أولئك الأمراء من الشركس والترك الذين كانوا سلائل المماليك القدامى، أو كانوا من الرقيق الأبيض المجلوبين من القوقاز وغيره.
وهؤلاء المماليك كانوا في مباراة عامة لسرقة الشعب، وكانوا يحترفون الجندية، وذلك أن المملوك كان جنديا أولا وقبل كل شيء وعندما دخل نابليون مصر حاربوه في شجاعة نادرة.
ولكن هذه الشجاعة كانت فردية؛ لأن المملوك لم يكن يحس التضامن بينه وبين سائر المماليك، ولم يكن يحس كذلك التضامن بينه وبين الشعب المصري.
كان المملوك، قبيل دخول نابليون، في مباراة مع جميع المماليك الآخرين، يسطو عليهم ويسطون عليه، والغلبة للقادر، وكذلك كان لا يعرف عن مصر إلا أنها، أو بعضها، عزبته التي يستغلها كي يشتري القصور والأسلحة لجنوده، ولعلنا لا ننسى أن كلمة «عزبة» هي كلمة قوقازية جاءتنا من القوقاز، بلاد الشركس، وهي تعني البيت الريفي، وما زلنا نستعملها إلى الآن في مصر بمعنى الضيعة.
فلما جاء نابليون، وكان يقصد بالاستيلاء على مصر أن يستولي على البحر المتوسط كله وأن يقطع الطريق على الإنكليز في استعمارهم للهند، وجد الفوضى العامة والأخلاق المنهارة والفقر والجهل والمرض.
وقد لاحظ نابليون على المماليك ملاحظة سيكولوجية تستحق الالتفات ، هي أن المملوك الفرد يتغلب في القتال على الفرنسي الفرد، وجنديان من المماليك يتغلبان على ثلاثة جنود من الفرنسيين، ولكن مئة جندي فرنسي يتغلبون على مئتين من المماليك.
وعبرة هذه الملاحظة أنه لم يكن بين المماليك إحساس جماعي أو اتحاد للقتال، وإنما كان كل جندي يقاتل عن نفسه، ولا يقاتل عن مصر، ولا يقاتل عن هيئة المماليك، كان شعار المماليك: «أنا وحدي»، ومن هنا كانت شجاعته حين كان ينفرد، ومن هنا أيضا ضعفه حين كان يجتمع.
أما الجنود الفرنسيون فكانوا أبناء الثورة، تجمعهم أهدافها، ويتضامنون، ويضحون من أجل مبادئها، هذه المبادئ التي نشرها نابليون في مصر بهذه الكلمات: «الحرية والإخاء والمساواة». ولذلك كانوا ينتصرون في الحرب لاتحادهم.
ولم يكن الوجدان في مصر وقتئذ وطنيا، بل إن الوطنية في أوروبا نفسها لم تكن قد رسخت، وإنما كان الوجدان الغالب في مصر هو الوجدان الديني، وكانت حرب نابليون في مصر هي حرب المسيحية مع المسلمين لا أكثر.
ولكن أرجو ألا يؤخذ كلامي هذا على إطلاقه، فإن حركة العظيم عمر مكرم، قبل دخول نابليون مصر، ضد الوالي التركي، كانت تحتوي شيئا من الإحساس المصري الوطني فوق الإحساس الديني، ثم بعد حركة هذا العظيم نفسه ضد نابليون وتزعمه للمقاومة، بل كذلك اختياره لمحمد علي مع سائر العلماء الأزهريين، ثم بعد ذلك ثورته عليه، كل هذا كان يدل على بزوغ الإحساس المصري الوطني فوق الإحساس الديني.
ولما دخل نابليون مصر وجد عنصرين مختلفين، عنصرا سائدا من الشركس البيض يحكم ويتحكم ويملك الأرض، وعنصرا مسودا من المصريين السمر يخدمون ويذلون للعنصر السائد.
وتقرب نابليون إلى المصريين وحاول استمالتهم بأن وعدهم بأن يكونوا هم سادة وطنهم دون الشركس والترك، ولكن العنصر المصري لم يستجب إلى هذا النداء، أولا لأن نابليون كان مسيحيا، وثانيا لأن الإذلال الذي مارسه الشركس والترك كان قد أحدث ذلا بين الشعب المصري.
وشتت نابليون المماليك وبعثرهم في الصعيد وسوريا، وألف مجلسا نيابيا من المصريين في القاهرة كان بالطبع يريد أن يعتمد عليه للاستشارة فقط.
ولكن الشعب كان قد تخبط في فوضى نحو ثلاث مئة سنة، وكان قد هوى إلى حضيض من الذل والفقر والجهل بحيث لم يتفهم العبرة في هذا الإنسان الجديد، نابليون الذي كان ينظر إلى الدنيا بعينين قد رأتا الثورة، كما كان يحس بقلب قد عرف أن باريس قد قتلت ملكين لاستبدادهما.
والحق أن نابليون لم يكن جنديا عظيما فقط، بل كان إنسانا جديدا. كما نرى مثلا من جلبه للمعلمين إلى مصر، ومن تأليفه لجنة لسن القانون الذي يعزى إليه، وهذا القانون الذي أخذنا نحن به أيام إسماعيل، كان يعزى إليه في أكثر من معنى، فإنه كان يتدخل في أعمال اللجنة التي كانت تسنه، وكان يشير عليها بما يجب من حذف أو إثبات أو تنقيح.
وقد روى لنا الشيخ الجبرتي أشياء كثيرة عنه، فقد أطار بلونا يحمل بعض الجنود في سماء القاهرة، وأنشأ المطاعم التي كان الجبرتي يتعجب من نظافتها وسرعة الخدمة فيها، وأنشأ «مؤسسة مصر» التي لا تزال حية إلى الآن، وقد رأى الجبرتي فيها عجائب من الكيمياء، مواد تمتزج بمواد فتخرج منها مواد أخرى تختلف لونا وقواما عما كانت عليه قبل الامتزاج ...
وقد كان هذا بعض «العلم» الجديد الذي كانت أوروبا تدرسه بعد أن تفشت فيها الصناعات وتطلبت البحث والاستقراء للوقوف على الحقائق التي تزيد الإنتاج.
وللأسف لم يفهم الجبرتي ولا غيره من المصريين شيئا من هذا النور الجديد الذي تهيأت به أوروبا بعد ذلك لاقتحام المستقبل والاستيلاء على العالم، ولكنهم فهموا وعرفوا، أن هناك آفاقا رحبة من الأمم والأقطار التي لم يسبق لهم أن سمعوا عنها، وعرفوا فوق ذلك هذه الحقيقة الكبرى، وهي أن المماليك ليسوا من القوة والعظمة بحيث لا يمكن الانتصار عليهم، بل كذلك عرفوا أن الأتراك ليسوا هذه «الدولة العلية» التي لا يمكن التمرد على سلطانها.
وكان محمد علي من نتائج حملة نابليون، فإنه جاء لاسترداد سلطة الباب العالي، واختاره العلماء والأعيان بقيادة العظيم عمر مكرم، وكان محمد علي يتظاهر أمامهم بالأمانة والخضوع لهؤلاء الذين اختاروه ولكنه صار ينظر إليهم ويعاملهم معاملة الأسياد للعبيد، معاملة المماليك للمصريين، وهذا هو ما أسخط عليه عمر مكرم وجعله يندم على الأمانة التي وضعها في غير موضعها.
ولما استقر الحكم لمحمد علي أخذ يستعين برجال الحملة الفرنسية أنفسهم ويستخدمهم في تقوية الجيش المصري وتزويده بالذخائر والأسلحة، بل صار يستجلب المعلمين للتدريس في المدارس لخدمة الجيش، والجيش وحده، دون الشعب المصري.
ومع ذلك تجاوزت نهضة محمد علي الحربية إلى الشعب كما هو الشأن في مثل هذه النهضات، فبقيت بعض المدارس بعد وفاته، وتعلم فيها المصريون، كما أن شامبليون استطاع أن يهتدي إلى حجر رشيد ويرتفع به إلى كشف اللغة، أو بالأحرى الخط الهيروغليفي، وانفتح للعالم بذلك أوسع الأبواب للوقوف على أسرار الفراعنة.
وإذا كانت «نهضة» محمد علي هي صميمها نهضة فرنسية تغذوها الثقافة الفرنسية ويحمل أعباءها فرنسيون، فإن الفضل في ذلك يرجع إلى حملة نابليون الذي عقد الصلة بين فرنسا ومصر، صلة العداوات في الأصل ثم صلة الصداقة مع محمد علي بعد ذلك.
أدباء فرنسا في اللغة العربية
ليس غريبا أن يكون للغة الفرنسية شأن كبير بل خطير في مصر ولبنان وسائر الأقطار العربية، فإن حملة نابليون على مصر، ثم استعانة محمد علي بالمستشارين الفرنسيين في إدارة البلاد عامة والجيش خاصة، وأيضا البعثات التي أرسلها محمد علي وإسماعيل إلى باريس، ثم قناة السويس والعديد من الموظفين الفرنسيين فيها، ثم المدارس التي أنشأها الرهبان والراهبات في مصر ولبنان وسوريا، كل هذا قد جعل للغة الفرنسية مقاما كبيرا بين الساسة والمفكرين في كل من مصر ولبنان.
ولكن هذا الانتشار للغة الفرنسية قد حال دون نقل المؤلفات الفرنسية إلى اللغة العربية؛ إذ لماذا أنقل روسو وفكتور هيجو وفولتير؟
أليس المفكرون والساسة، وكبار المشتغلين بالتجارة والمال والتعليم، يقرأون هؤلاء المؤلفين في لغتهم الأصلية؟
ومع ذلك نجد أن موليير قد ترجمت إحدى ملاهيه قبل سبعين سنة، ونجد في أوائل هذا القرن ترجمة البؤساء، أو بالأحرى جزء منها، لحافظ إبراهيم.
ولكن الرجل الذي بسط الأفق الفرنسي للقراء العرب هو بلا شك فرح أنطون، وهو بهذا العمل غير وجه الأدب العربي، ونقل إلينا الكثير من أرنست رينان وجول سيمون وروسو وبرناردن سان بيير ودوماس وفكتور هيجو.
نقل إلينا الحركة الرومانتية في فرنسا، حركة الابتداع التي كانت مزاج جان جاك روسو، بدلا من حركة الابتداع التي كانت مزاج فولتير.
وكنا أحوج ما نكون إلى حركة الاتباع هذه التي نقلتنا من أدب الكتب القديمة إلى أدب الطبيعة، ومن حياة التقاليد والقواعد والقيود إلى حياة البساطة، وكان «الكوخ الهندي» من القصص التي ألفها برناردن سان بيير، والتي أعجب بها نابليون، أول المؤلفات التي نقلها فرح أنطون من الأدب الرومانتي الفرنسي، ثم شغف بعد ذلك بأرنست رينان فنقل عنه كثيرا، وخاصة كتابه عن المسيح الذي فصل من أجله من الكنيسة الكاثوليكية، وكانت علة الفصل أن رينان ترجم حياة المسيح باعتباره إنسانا عظيما حساسا لا أقل ولا أكثر، وهذا ما لا يتفق وعقيدة الكنيسة الكاثوليكية.
وكانت مجلة «الجامعة» التي كان يصدرها فرح أنطون في مصر لا تزيد عن أن تكون جميعا أدبا فرنسيا مترجما، أو أدبا عربيا ملهما بالروح الفرنسية.
وما زلت أذكر الواقع العميق الذي أحسسته أيام شبابي، أو بالأحرى في بدايته حوالي سنة 1905، حين كنت أقرأ هذه الأفكار الرائعة التي كان فرح أنطون ينقلها إلينا عن رينان وروسو وأمثالهما من أدباء فرنسا، قلت: «الأفكار الرائعة» ولكن ليس هذا التعبير صحيحا كل الصحة، وأجدر منه وأوضح أن أقول: «الإحساسات الرائعة» التي كنا نحسها عندما كنا نقرأ رينان وروسو ودوماس، ذلك أن رينان وروسو يمتازان بذكاء العقل قدر ما يمتازان بذكاء الإحساس، فإن روسو يكشف لنا عن جمال جديد في الزهر والشجر والبحر والجبل، ويتحدث عن الحب بإحساس الرجل الذي أحب، فيقول لنا: إن الحب جميل، ونحس صدق القول؛ لأنه يروي لنا ما رأى فيه من جمال.
وكذلك الشأن في رينان، فإنه لا يقول شيئا جديدا عن المسيح، ولكنه يروي لنا تاريخ حياته، إنه يقص علينا قصة صديق له قد أحبه وشغف بنبالة قصده وطيبة قلبه وروعة حياته.
واعتقادي أن الأدب العربي الحديث يبدأ من هذه الخميرة التي وضعها فرح أنطون فيه بما نقله إليه من الأدب الفرنسي، أدب روسو ورينان. وأن ما نسميه تجديدا إنما يعود إليه.
وفيما بين 1910 و1930 اتجهت الترجمة إلى المؤلفات الإنجليزية، وكان أعظم البواعث على ذلك كثرة المدارس الثانوية التي حملت الكثير من العارفين للغة الإنجليزية على ترجمة ديكنز وشكسبير وبيرون وشيلي.
ولكن الوجدان الثقافي والأدبي عاد منذ أكثر من عشرين سنة يبحث عن أندريه جيد وجان بول سارتر، وقد ترجم لكليهما بعض مؤلفاتهما، ولا يزال الاهتمام بهما كبيرا، وخاصة هذا الأخير الذي يمزج أدبه بالفلسفة وفلسفته بالأدب.
والاهتمام بأندريه جيد أدبي محض، فإن له في التفكير والتعبير أسلوبا يجذب القارئ ويتركنا نتملظ بكلماته عقب قراءة مؤلفاته، وهو في بعض قصصه حساس أكثر مما هو مفكر، وهنا فتنته الساحرة، ثم لا ننسى بعد ذلك أنه عاش في الجزائر، وأحب الجزائريين، ولهذا قيمته في قلوبنا.
أما سارتر فيجد الإقبال العظيم في مصر ولبنان وبعض الأقطار العربية لسبب واحد هو أننا جميعا في بلبلة فلسفية بشأن الحياة وأسلوب العيش وحكمة التصرف ومسئولية الفرد إزاء الجماعة، ثم هذه الكلمات التي نظن أننا نفهم معانيها مثل الديمقراطية والاشتراكية والفردية ونحوها.
إنه يجذبنا لأننا مبلبلون في جميع هذه الأشياء، وهو يعالجها بقدرة غير صغيرة، ولكننا عند التأمل نجد أنه هو أيضا مبلبل مثلنا؛ إذ هو يحاول أن يفهم نفسه إزاء المجتمع وإزاء الكون، ويحاول أن ينظر إلى الدنيا من موقف الحياة وأيضا من موقف الموت، وفي كل هذه المحاولات ينقدح منه شرر الذكاء والفهم، ولكنه سرعان ما ينطفئ؛ لأنه لا يستطيع أن يضيء هذه الجبال القاتمة القائمة أمام الإنسان من الشكوك والشبهات والمخاوف.
إن سارتر هو «الابن الشاطر» في الأدب العصري، أدب النضج والفلسفة والجد، الذي ينأى عن اللهو والتهريج، ولذلك أعتقد أن القراء العرب سينتفعون منه ويطلبون منه الكثير.
حيوية التفكير السياسي
كنت أجول في شوارع باريس يوم 21 فبراير (شباط) من عام 1952، وإذا بشاب لما يبلغ العشرين قد دس في يدي ورقة ثم هرول عاديا كي يوزع ما يحمل من سائر الأوراق التي يبدو أنه كلف بتوزيعها على المارة.
ونظرت في الورقة أقرأ في تمهل وتكاسل، ولشد ما كان عجبي وأسفي معا حين قرأت أن هذا اليوم هو ذكرى اصطدام طلبة الجامعة في القاهرة بالإنكليز المستعمرين، أولئك يطلبون حقهم في الحرية والاستقلال، وهؤلاء يضربونهم بالبنادق احتفاظا باستبدادهم واستعمارهم، وقد وقع هذا الاصطدام في 21 فبراير (شباط) سنة 1946 في ميدان إسماعيل بالقاهرة.
وأصابني دوار عقب القراءة، وتنهدت وتنحيت إلى قهوة، وقعدت أفكر في هذه الحيوية الباريسية، إنهم يحتفلون بذكرى كوارثنا التي كان إسماعيل صدقي يمنعنا من الاحتفال بها.
وعدت أقرأ الورقة سطرا سطرا وكلمة كلمة: حقوق الشعوب، الحرية، الطلبة الأحرار، الاستعمار الإنكليزي، الاستبداد، آلام مصر، شباب مصر.
قرأت، فأحسست الخجل، وعمني الأسف، وذكرت أن إسماعيل صدقي هذا هو الذي أمر باعتقالي في تلك السنة (1946) أنا ونحو مئة وسبعين مصريا آخر، واتهمنا بمحاولة قلب نظام الحكم، ولكن هذه التهمة الظاهرة كانت تخفي تهمة باطنة له هو، هي أنه كان ينوي عقد معاهدة مع الإنكليز. وكان يستعد لها باعتقال جميع الأحرار الذين كان يتوقع معارضتهم، ونجاحهم في منعه، من عقد معاهدة «صدقي - بيفن»، وفي فرنسا يحتفل الطلبة في باريس بهذا اليوم عطفا منهم على زملائهم الطلبة في مصر، وإحساسا بالتضامن البشري في بغض الاستعمار وضرورة مكافحته، سواء أكان في إفريقيا أم في آسيا أم في أميركا. يحتفل طلبة باريس بهذا اليوم، ولكن طلبة مصر لم يحتفلوا به.
لأن حيوية التفكير السياسي في فرنسا تغذوها صحف، وتسهر عليها أحزاب، وتحميها حكومة يأتمنها الشعب، كما تحرص هي على حريات هذا الشعب، وهي حكومة تنهض على مبادئ الدستور الذي ينص على: (1)
حق الانتخاب للمرأة. (2)
حق التأميم. (3)
حق الإضراب. (4)
الانتخاب بالقائمة.
هذا الدستور يقوم على فصل الدين عن الدولة وعلى تأميم أكثر من مئة صناعة فرنسية، ولا يكاد يمر يوم حتى نقرأ عن سياسي عظيم يلقي محاضرة أو خطبة في السياسة، وهي ليست سياسة فرنسا وحدها بل سياسة الأمم الأخرى.
والجرائد الفرنسية تعنى عناية كبيرة بدرس السياسة، بل إن بعض الأحزاب تعلق صحائف جرائدها على الجدران؛ كي يقرأها أولئك الذين لا يريدون شراءها، والقهوة هي قبل كل شيء سياسي، كثيرا ما يحمى فيه النقاش السياسي بين الحاضرين.
وكذلك الطلبة يؤلفون الجمعيات لدرس السياسة، ولا تخشاهم الحكومة؛ لأنها لا تحس فسادها كما تحس الأحزاب الفاسدة السابقة عندنا، وكذلك ليس عندهم استعمار يكره الحريات ويتوجس منها.
ولا يزال بعيدا ذلك اليوم الذي نجد فيه الطلبة المصريين يحتفلون بحريات الأمم الأخرى ويذكرون آلام الأمم المخضعة، ويجب أن يكون بعيدا؛ لأننا ما زلنا غارقين في همومنا يستبد بنا المستعمر، وإن كنا قد تخلصنا من المستبدين الوطنيين.
ولكن الإنسانية التي بعثت الطلبة في باريس إلى أن يذكروا آلامنا سوف تنفذ إلى قلوب طلبتنا في المستقبل أيضا، حين نتخلص من المستعمرين الإنكليز، وحين نشرع في درس سياستنا الداخلية بروح النزاهة والشرف.
باريس بعد 40 عاما
كنت في باريس قبل أربعين سنة طالبا، أو بالأحرى تلميذا، أتعلم اللغة الفرنسية في مدرسة داخلية في «موليري» وهي قرية تبعد عن باريس بنحو ثلاثين كيلو مترا، ولكني كنت أزور العاصمة مرة كل أسبوع، ثم قضيت فيها أكثر من شهر مدة الإجازة السنوية فيها، وكنت أنظر إليها بعين الشباب، أما الآن فإني في العقد السابع أنظر إليها بعين الشيخوخة، أو على الأقل الكهولة، وبين النظرتين بون شاسع.
ولذلك لا تليق المقارنة بين باريس في 1912 وباريس في 1952، وذلك لأنه إذا كانت باريس لم تتغير فإن الناظر إليها قد تغير، ومع ذلك لن أحاول أن أكون موضوعيا ولن أستطيع؛ لأن انطباعاتي عن باريس متأثرة من ذاتيتي.
وقبل أن أتحدث عن هذه الانطباعات يجب أن أقول: إنه على الرغم من التغييرات العديدة، فإن النفس، نفس باريس، لم تتغير، ولكل مدينة كبيرة قديمة نفسها التي نحسها من مبانيها القديمة ومن لهجة سكانها، ومن مدارسها، ومن أسواقها، وأخيرا من طراز العيش فيها.
وفي باريس معابد كثيرة للدين والفن والعلم، تجعل ماضيها حاضرها وحاضرها ماضيها، فيها كنيسة نوتردام، ومسرح الأوبرا، وجامعة السوربون.
وإذا قدر لمدن أوروبا أن تفنى بالقنبلة الذرية وبقيت السوربون سليمة فإن حضارة أوروبا يمكن أن تحيا بعد الموت وأن تنمو وتسبق.
عندما أقارن بين 1912 و1952 أجد كثيرا من التغيرات الظاهرية التي تدل على سيادة الروح العصري، فإني قبل أربعين سنة، لا أذكر أني رأيت امرأة تتخذ البنطلون وتسير به في مشية مألوفة كما تفعل الحسناء والشمطاء في باريس هذه الأيام، كذلك كنت في 1912 أركب عربة الأمنبوس التي كانت لا تزال تجرها الخيول، وقد انقرضت هذه انقراضا تاما، وكذلك انقرض الحنطور، والنقل كله يجري بالوسائل الموتورية، أجل لقد داس الأتومبيل الحصان في باريس وقتله.
وقبل أن أصل إلى باريس كنت أتوقع أن أجد اختلافات كثيرة بين المباني في 1912 وبين المباني الحاضرة، ولكني لم أجد هذا، فإن الروح الأميركي في بناء الشواهق التي تنطح السحاب لم يدخل باريس، ولست تجد مبنى يزيد على ست طبقات، والكثيرة الغالبة خمس طبقات.
ولكل شارع طرازه، تسير فيه العين فلا تجد مبنى يختلف عن آخر، كلها سكة واحدة، وهذا ما يكسب الشارع شخصية.
ولقد قلت: إن البنطلون قد فشا بين الفتيات والسيدات، ولكني أرجو ألا يظن أحد من ذلك أن الفرنسيات يستهترن في اتخاذ البنطلون، فإن كل ما فهمته من تفشي هذا الزي أنه يعين المرأة على العمل والحركة أكثر مما يعينها الفستان. •••
وفي باريس ثلاثة أشياء عرفتها في 1912 وما زلت أجدها فيها إلى الآن: الرشاقة والأنسة والفن.
فالرشاقة سمة فرنسية، ومن ليس رشيقا في الزي أو اللهجة أو الإيماءة فليس فرنسيا، ولقد رأيت سيدات وفتيات يسرن تحت وابل المطر وعلى رأس كل منهن طرطور، وعلى جسمها معطف يتسع لاثنين من حجمها، ومع ذلك كنت أتعجب من جمال الطرطور والمعطف، رشاقة في التفصيل، واختيار في الألوان، ورشاقة في المشية والنظرة والقوام.
وإني لأذكر هنا سيدة يونانية كنت أتحدث إليها، وكانت قدمت باريس للتنزه والاستجمام، فكان مما قالته: إن الباريسية ليست جميلة ولكنها تتجمل، فتعنى بهندامها وتنسيق شعرها، وتشتري المساحيق الغالية كي تكسب وجهها بهاء ونضرة، فقلت لها: إن هذا كله يدل على أن نفسها جميلة؛ إذ هي تنشد الجمال حين تفقده، وهي تتأنق؛ لأن نفسها أنيقة، وكل هذا يرفع منها ولا يخفض، وإنما نحن نستنكر الجمال أو التأنق حين نجدهما باهظين مسرفين قد زادا على الحد، وهذا ما لا تقع فيه الباريسية، أو حين نجدهما في غير مكانهما، وهذا ما لم أره في باريس.
أما الأنسة فهي ملكة فرنسية يتعلموها جميعا منذ الطفولة، فليس هناك ذلك الحياء المتردد الذي يشبه الجبن والخوف، فهم يجابهونك بلغة صريحة وابتسامة عريضة تسقطان جميع الحواجز وتحفزك على الحديث، بل أيضا على المصارحة.
وأخيرا هناك هذا الفن الذي لا يخلو منه البيت أو الشارع أو المتجر، وكثيرا ما وجدت تماثيل من المرمر أو الحجر كاسية بالذهب، أي: مطلية به في ميادين الشوارع، والتماثيل خاصة من خواص باريس، وظني أن بها ما لا يقل عن ألف تمثال في الكنائس والميادين.
وأخيرا لو سئلت: ما هي انطباعاتك التي ستذكرها بعد عودتك إلى القاهرة مما رأيت في باريس؟ لو سئلت هذا السؤال الصعب لقلت: إنه «الدينصور».
وهذه كلمة قد يغرب لفظها ومعناها. ولذلك أحتاج إلى بعض التفصيلات، ذلك أني عندما قدمت إلى باريس بحثت عن متاحف التاريخ الطبيعي، وزرت المتحف الذي يجاور حديقة النبات، وهناك في قاعته الكبرى وقفت جامدا أولا، متحمسا ثانيا، أمام هذا الكابوس الذي كان يجوس أرضنا قبل ثمانين مليون سنة. هذا الدينصور الذي كان يزيد على أربعة أضعاف الفيل، وكان مع ذلك يبيض ولا يلد، ولم يكن مخه يبلغ، بالمقارنة إلى جسمه، مخ الفأر أو الأرنب.
هذ الدينصور، الذي لم يكن تشريحه يختلف عن تشريح السحلية، قد انقرض، ولم أكن قد رأيته قبل ذلك، ولن أنساه، لن أنسى هذا التاريخ القديم الذي تجمد فيه، والذي عنيت الحكومة الفرنسية بإقامة عظامه وتركيب جسمه كي يستنير المظلم ويتعلم الجاهل.
وقبل أن أدخل المتحف وجدت تمثال «لامارك »، ونزعت قبعتي له وحييته، وبيني وبين هذا العظيم حب قد تجدد؛ لأنه هو الذي قال بأن الصفات المكتسبة في النبات والحيوان تورثت، وأنكر العلماء هذا القول أكثر من مئة وخمسين سنة، ثم عادوا إليه هذه الأيام.
وأرجو أن أعذر في ذكر الدينصور ولامارك، فإني مشغول منذ نصف قرن بنظرية التطور، ولهذين الاسمين رنين يتردد في ذهني كل عام.
أما سائر ما انطبع في ذهني عن باريس بعد إقامة أربعين يوما فكثير، ومن ذلك مثلا هذا الإحساس بأن باريس، المدينة الفنانة، هي عاصمة أوروبا كما هي عاصمة فرنسا، ففي كل شارع أغراب من القارات الخمس، وهم يجدون الترحيب واللطف من الباريسيين، وهنا آلاف من الزنوج والآسيويين الذين يتعلمون ويتجرون في حرية مطلقة، ولا يعرف الباريسيون ذلك الاستغراض اللوني أو العنصري الذي تعرفه أمم أخرى، وليس هنا مطعم أو فندق يمنع الزنجي من دخوله.
والغلاء فادح في فرنسا، ولكن الأجور عالية، ولا تقل أجرة الكناس الشهرية على ثلاثين أو أربعين جنيها، والعامل المتخصص يحصل بسهولة على ستين أو سبعين جنيها، ولكن مع كل هذا الغلاء لا تزال أثمان الخبز والبطاطس منخفضة. •••
وأكثر ما يلفت النظر في باريس هو هذه الحيوية بين الباريسيين، فإن النشاط عام، حتى العجوز التي تبلغ السبعين تثب إلى الترام كأنها في العشرين، والحديث يجري صريحا بكلمات لامعة ونكات متوالية تجعلك في شك من أنها تعلن الحقائق أو تخفي التشأؤم، وكلمات المجاملة كثيرة، وتكاد تكون إجبارية، فإن القبعة ترفع عند السلام بحركة آلية، وكلمة «مرسي» تعقب الإجابة كأنها صوت فنوغرافي.
واحترام الجمهور عادة أصيلة، فإن السائقين للأوتوبيسات والأتومبيلات يقتربون منك وأنت تعبر الشارع في تؤدة وعناية دون أن يطلقوا البوق، واحترام المرأة هو أقرب إلى الشعائر الدينية منه إلى العادات الاجتماعية، فحيثما توجد امرأة يكون كل من حولها من الرجال خدما لها، لا يحدثها أحد إلا وهو يبتسم كأنه يسترضي، ولا تحتاج هي إلى شيء حتى تمتد الأيدي العديدة لمناولتها إياه.
والقهوة في باريس ليست للقهوة فقط؛ إذ هي حانة وناد ومطعم أيضا، وجميع الفرنسيين يشربون الخمور منذ السنة الأولى من العمر إلى يوم يدفنون، ولكن ليس بينهم من ينغمس فيها إلا القليلين، بل القليلين جدا، فإنك حين تسير في شوارع باريس بعد منتصف الليل لا تقع عينك على سكران.
وعندما يحتدم الحديث في القهوة، النادى، وتدور كئوس الخمر، تعم حماسة، ثم تتكرر الكئوس، فتستحيل الألسنة وتنفرج الكظوم ويصعد الدم إلى الوجنات، ويأخذ العين بريق، ويعم الجو سرور خيالي واستهتار وقتي لذيذ، وتجترئ وقتئذ الألسنة على ما لا يجترئ عليه وقت الصحو، فتخرج الآراء صريحة. وينفذ إلى الجميع شعاع من الذكاء الذي يتجمل بالتحذر والمساهلة ونية الخير.
وفي باريس كظوم كثيرة، من الغلاء، ومن توقع الحرب. وهي كظوم كانت تكفي لأن تحيل انتفاضة السخط إلى انتهاض الثورة لولا الخمور التي تهدئ وتخدر.
قعدت إلى سيدة في العقد الرابع من العمر فحدثتني عن الفراعنة حديثا مثقفا لم أجد مثله قط عند سيدة مصرية، وجرت على لسانها كلمات الهكسوس وهيرودتس والبطالسة وأبيس وزواج الأخت، وكانت تظن أن هذا الزواج اسمي فقط لكني أوضحت لها أنه كان فعليا، وسألت: هل أدى هذا الزواج الأخوي إلى انحطاط؟ فأخبرتها بأن رمسيس الثاني الفاتح العظيم كان ثمرة خمسة عشر زواجا أخويا من جدوده، ولم يبد عليه أي انحطاط، وطربت عندما قالت: إن النحت في مصر الفرعونية هو أعظم ما عرفته البشرية من هذا الفن، وأخبرتها أن عندنا فنانين عصريين ينزعون إلى الفن الفرعوني.
وشربت قهوة، وشربت هي كأسا من الكونياك تلتها كأس أخرى، فانفرجت، وانطلق لسانها، ووصفت بول سارتر بأنه يهذي ويسمي هذيانه «الوجودية» فلسفة. ثم انتقل الحديث إلى أدب التوراة، وتذاكرنا قصة الحب في «نشيد الأنشاد» حيث تؤثر الفتاة زواج حبيبها الراعي الساذج على زواجها من سليمان الحكيم، فقالت وحمرة وجنتيها تنطق بنشوة الكأسين: ألا يمكن أن تكون هذه القصة مصرية، وخاصة لأن الحبيب يذكر حبيبته بكلمة «أختي»؟
فاستوقفتني كلماتها وجعلتني أتأمل، فإن زواج الأخت في مصر كان يجيز للحبيب أن يصف حبيبته بهذا الوصف، وفي التوراة عديد من الحكم والأمثال منقولة عن مصر، وانفصلنا على ميعاد، ونهضت منتعشا من هذا الحديث، وقصدت إلى نهر السين حيث تباع الكتب القديمة الرخيصة، وهي تصفف على مسافة مديدة على كورنيش هذا النهر، وتشبه تلك الكتب التي تباع على سور حديقة الأزبكية، مع فرق أصيل، هو أن البوليس في القاهرة يعاكس الباعة، أما في باريس فلا يلقى باعة الكتب على السين أية معاكسة.
واشتريت خمسة مجلدات، منها واحد للشاعر الملعون كبلنج، واشتريته بخمسة وعشرين مليما فقط مع أن ثمنه الأصلي أربعون قرشا، وكان جديدا مغلفا بالصمغ لم يفتح، وأحسست بالشماتة لكساد هذا الشاعر الإمبراطوري الذي كان يحرض الجنود الإنكليز على بقر بطون السودانيين والمصريين وضربهم بالسياط حتى يعترفوا بالنقود التي يخفونها.
وباريس ليست عاصمة فرنسا فقط؛ إذ هي عاصمة أوروبا بل عاصمة العالم، فإن فيها أكثر من نصف مليون أجنبي، من الإيطاليين، ومن الروس البيض والحمر، ومن السنغاليين والفيتناميين، وبها نحو خمس مئة مصري إلى آلاف من الآسيويين والإفريقيين والأمريكيين ... وهم جميعا يلقون كرم الضيافة ومميزات التمدن ووجدان الثقافة.
والمدارس والجامعات هي «كالماء والهواء» في فرنسا، ولا تفرض على الصبيان والشبان ضريبة للالتحاق بها، ويستطيع الجمهور أن يحضر المحاضرات دون أي اعتراض، وقد حضرت أنا بعض المحاضرات في الأسبوع الماضي.
وباريس هي بابل اللغات والعناصر، تسمع فيها جميع اللغات وترى جميع الوجوه البشرية: من الأسود إلى الأصفر إلى الأسمر إلى الأبيض إلى الأحمر، وهي وجوه ولغات تكسبك النزعة البشرية والاتجاه العالمي.
أجل، نحن بشر قبل أن نكون مصريين أو فرنسيين أو هنود أو صينيين، وهذه الدنيا واسعة تتسع لنا جميعا، وهي دنيا حافلة بالخير، والزهور والأثمار، وبالقمح والذرة، وبالنهر والجبل، بل هي حافلة بالحب والإخاء، بالشبان يحبون الفتيات، وبالآباء يحبون الأبناء.
وهي أيضا حافلة أو حاملة لهذا المستقبل الذي يعد وعود الورد والسعادة بتسلط الإنسان على الطبيعة، على الزمن، على الماء والهواء، على الذرة.
وهي دنيا الخير والأمل، ولكن دعاة الحرب يحاولون أن يجعلوها دنيا النار والدمار ، دنيا الجنيه والقرش، دنيا الكسب والخسارة، دنيا المقامرة بالحياة والمال.
فوق باريس هم يخيم عليها؛ لأنها تحس أنها وهي عاصمة العالم تستعد للحرب، حرب التعصب المذهبي، حرب السيادة، حرب الاستعمار.
وهي تخفف هذا الهم، أو تحاول أن تنساه بالخمر، وحين تسهر باريس، فإنها لا تسهر عن يقظة؛ لأن يقظتها هذه هي أرق اليأس.
دماء الأعناب في فرنسا
يذكر الذين قرأوا التوراة وعنوا بما فيها من القيم الأدبية والأخلاقية، فضلا عن الدينية، أن يعقوب قبيل وفاته بارك أولاده ودعا الله أن يكثر لم من «دماء الأعناب».
وهذا الوصف للخمر، من نبي عظيم، يدعو إلى التأويل الكثير، فإن الخمور لم تكن مكروهة في العصور القديمة عند المصريين والعبرانيين، وإن كان حكماؤهم قد حضوا، على الدوام، على تجنب الانغماس.
وقد ذكرت هذا الوصف، كما ذكرت الدعاء، وأنا في فرنسا هذه الأيام، فإن الشعب كله يشرب الخمور، وهي ليست من دماء الأعناب فقط بل من أرواحها؛ لأن قدماء المصريين والعبرانيين كانوا يخمرون الأعناب فقط، أما فرنسا فتزيد على ذلك بالاستقطار، أي استخراج الكحول صافيا أو كالصافي من الأعناب عن طريق النار والأمبيق.
وكثيرا ما أطلب القهوة فيتطوع النادل بتقديم زجاجة صغيرة من الروم كي أمزجه بالقهوة، ونحن نقنع في تحية الضيوف بالقهوة، ولكنهم في فرنسا يؤثرون عليها كأسا من الخمر تفرج عن كظومهم بالحديث الحر.
وقد أصبحت للخمور في أوروبا ثقافة لا تكاد تدري آفاقها، فقد قرأت هذا الأسبوع مقالا عن كتاب عنوانه «بلاد النبيذ» لمؤلفه «هيلجارتين» وثمنه ألفا ومئة فرنك، أي: أكثر من جنيه مصري، كما قرأت عن كتاب آخر بعنوان «الدليل الشعبي إلى النبيذ» لمؤلفه بوستجيت وثمنه واحد وأربعون قرشا، وظهور كتابين في شهر واحد عن النبيذ بمثل هذا الثمن العالي يوضح لنا قيمة الأنبذة في أوروبا عامة وفرنسا خاصة، أجل إن الخمور في فرنسا جزء من التقاليد والآداب.
فإن النبيذ هو الشراب الفرنسي غير المدافع، أما في ألمانيا، وسائر الأمم الشمالية الغربية في أوروبا بما فيها بريطانيا، فإن البيرة، التي لا يخجل بعضنا من تسميتها بالاسم الفظيع «جعة» تأخذ مكان النبيذ، وليس في أوروبا كلها هذا الاستنكار الذي نجده في مصر نحو الخمور، بل إن كثيرا من الأنبذة العالمية يصنعه الرهبان المسيحيون في الديور، ونحن في مصر نأكل الأعناب، ولكنهم في فرنسا يشربونها دما وروحا، والفرنسي الذي يملك عشرين أو ثلاثين فدانا قد يزرع نصفها بالكروم، ولكنه لا يبيع أعنابها، كما نفعل حين نشتري عناقيد تتلألأ على عربات الباعة الجائلين أو عند الفاكهاني؛ إذ هو يجد أن ربحه يعظم كثيرا حين يحيل أعنابه إلى أنبذة يبيعها في براميل أو زجاجات، وصناعة النبيذ في فرنسا مألوفة لا تجهلها امرأة فرنسية في الريف، ويبدو أنها لا تحتاج إلى معارف فنية، وحين لا يزرع الفلاح الكروم في أرضه فإنه يخرج أيام الموسم ويشتري نحو ثلاث مئة أقة من الأعناب المختلفة، ويعود بها إلى منزله حيث تتولى زوجته أو أمه استخراج النبيذ منها بما يكفي الاستهلاك للعام كله، بل إنهم يصنعون النبيذ من التفاح أيضا ويبيعونه باسم «السيدر»، والأصناف الجيدة منه هي شيء بين الماء والهواء عطرا وطعما ونشوة.
والكل يشرب الخمور: الخادم والسيد، الطفل والكهل، المرأة والرجل. وقد ضحكت كثيرا حين ناقشت أحد الفرنسيين عن ضرر الخمر، وتجاهل الشعب للماء، كأنه لا يوجد في فرنسا، فجعل يصف لي ميزاتها وينشد أو يتغنى ببعض الأبيات التي قيلت فيها، وكان آخر ما ذكره لي عن ميزاتها أنها تصالح الزوجين المتشاجرين، ولولاها لزاد الطلاق في فرنسا، ثم ختم حديثه بأنه لا يجوز لي أن أعيب الخمر وقد بارك عليها المسيح نفسه، ودعا يعقوب الله بأن يوفرها لأبنائه.
المسلمون في الصين
يذكر «ولز» الأديب المؤرخ الإنكليزي في تاريخه الكبير، أن أول المساجد في الإسلام بني في الصين.
ولست أعتقد أن هناك ما يثبت هذا القول، ولكن يبدو المؤلف أنه كان يعتقد أن العرب كانوا قبل الإسلام، متصلين بالصين، يتجرون مع سكانها، ولهم سفن تمخر البحار الهائجة التي تقع شرقي الهند، وتنقل المتاجر من شرق آسيا إلى غربها وإلى أوروبا وإفريقيا.
وهذا هو ما لا شك فيه، فإن العرب أو بالأحرى المسلمين، يستوطنون في عصرنا الجزر الكبرى التي تقع في الجنوب الشرقي من آسيا مثل جاوة وسومطرة، بل هم قد وصلوا إلى جزر الفيليبين التي تقع جنوب اليابان.
وهم في انسياحهم هذا، وتوسعهم بالهجرة إلى هذه الأقطار البعيدة إنما كانوا ينبعثون بالتجارة.
كانوا قبل الإسلام يقومون بالتجارة بين أمم آسيا الشرقية والجنوبية بما في ذلك الهند وإيران عن طريق البحر، ثم زادوا على هذه الطريق بعد الإسلام، طريق البر في وسط آسيا عندما امتد التوسع الإسلامي بالفتوحات الأموية والعباسية إلى حدود الصين.
وفى أيامنا هذه نجد المسلمين في الصين وفي التيبت، بل نجدهم في شرق الصين وجنوبها من الجزر التي ذكرناها.
وعندما نقرأ الكتب العربية القديمة في تاريخ الفتوحات الإسلامية مثل الطبري، نجد الالتفات الكبير إلى زحف الجيوش العربية إلى آسيا الوسطى، فإنه يشرح هذا الزحف في عشرات الصفحات الحافلة بالتفاصيل، فهناك كفاح وقتال، وهناك مساومات للصلح ونحو ذلك، إلى أن نصل إلى حدود الصين حيث يروي لنا الطبري قصة تشبه المسرحية، هي أن العرب عندما بلغوا حدود الصين بعث إليهم ملك الصين يسألهم عن أغراضهم ويستطلع أحوالهم ويقدر قوتهم، فعمد القائد العربي إلى عرض لفروسيتهم، فخرج الفرسان على خيولهم، وأبدوا من الخفة والمهارة في ركوب الخيل وركضها ومعالجة القتال ثابتون على صهواتها ما دهش له المبعوثون الصينيون.
وقد تكون القصة خيالية، ولكنها تدل على الاتصال بين العرب الزاحفين، وبين الصينيين في أيام النهضة الأموية، كما تدل على العناية الكبرى بالقوة الحربية أيام هذه الدولة التي كانت تدين بالعروبة وتنشرها في أنحاء العالم، وقد نجحت في أن تؤسس إمبراطورية عربية إسلامية من حدود الصين شرقا إلى حدود المحيط الأطلنطي غربا.
ونحن نعرف أن الصينين هم الذين اخترعوا الورق، وقد انتقلت صناعته إلى سمرقند، ونقلها المسلمون بعد ذلك إلى بغداد والقاهرة والأندلس، ومن الأندلس انتقل إلى أوروبا، فكان من أعظم الحوافز لنشر الثقافة، وكذلك دودة القز، أو الخز، فإن العرب نقلوا هذه اليرقة وحفظوا اسمها الصيني «سز» بعد أن حرفوه بعض الشيء حتى تقبله آذانهم.
ومما زاد في حركة الانتقال للثقافة العربية الإسلامية نحو الشرق، نحو الصين، هجوم المغول ثم التتار، فإن تيمور لنك، الذي احتل بغداد ووصل إلى دمشق، حمل معه إلى سمرقند عددا كبيرا من العرب، فكانوا بذرة للثقافة العربية في آسيا الوسطى، ثم في آسيا الشرقية والجنوبية بما في ذلك الصين والتيبت وغيرهما، وقد وجدت في القاهرة زهريات صينية كبيرة تدل على الاتصال الذي وقع بين العرب وبين الصين منذ الفتوحات الأموية الأولى.
وفي القرن الثالث عشر زار ابن بطوطة المراكشي الصين، وتنقل في مدنها، ورأى هناك بعض المسلمين الذين كانوا يمارسون شعائر الإسلام دون عائق؛ لأن أباطرة الصين كانوا على الدوام متسامحين لا يعرفون التعصب ضد من يخالفهم في الدين، وكان الغالب عليهم البوذية، وهو دين غير إلهي، وقد حدثنا ابن بطوطة عن اشمئزازه من السكان الذين يأكلون لحم الخنزير ولا يذبحون الحيوان، ولكن القارئ يحس بأنه كان إزاء حضارة راقية، بل تكاد تكون عصرية، من حيث استعمال النقود الورقية مثلا، وهو نفسه يذكر العناية الفائقة في المحافظة على شخصه والسهر على راحته، حتى ليقول لنا: إنه حين كان ينتقل من مدينة إلى أخرى كان يرافقه حارس طوال الطريق، حتى إذا بلغ المدينة المقصودة تسلمه حارس آخر بعد أن يكتب للحارس السابق وثيقة بالتسليم.
وكان أكثر انتشار الإسلام في الأقاليم الشمالية الغربية من الصين، وهذا يدل على الطريق التي اتخذته قوافل العرب في اتجاهها نحو الشرق، فإنها خرجت من خراسان واتجهت شرقا نحو أقاليم التركمان فالخزخيز فالأفغان فالتبت، وكل هذا تم تقريبا أيام الدولة الأموية، وكانت الفتوحات هنا حربية.
أما بعد ذلك فقد انتشر العرب، أو بالأحرى المسلمون من العرب وغير العرب، نحو الشمال فالشرق، ودخل بعضهم بلاد منغوليا وبلاد الصين.
ثم زادت حركة الانتقال بالفتوحات التتارية والمغولية على يدي جنكيزخان ثم تيمور لنك، وكانت تنبع من الشرق وتتجه نحو الغرب، فاتجه التتار نحو روسيا حتى بلغوا ألمانيا، واتجه المغول نحو الشرق العربي، وقد دمروا الحضارة العربية، ولكن في عودتهم لبلادهم نقلوا مئات وآلافا من المسلمين من الأسرى والسبايا إلى حدود الصين الغربية الشمالية، فلما انحسرت موجة الفتح تولت التجارة أيام السلم مهمة نقل الثقافة العربية والدين الإسلامي، فكان التسلل السلمي إلى شمال الصين وغربها حيث نجد الآن ملايين المسلمين.
ومع أن المسلمين الصينيين عاشوا في وسط وثني من البوذية والكنفوشية، فإنهم احتفظوا بنقاء إيمانهم، فلم يعرفوا التماثيل، ولم يتعودوا تقديس الآباء، الذي يعد أصلا من الأصول الوطنية الدينية في الصين.
وفي السنين الأخيرة عمد كثرة من الأسر الإسلامية في الصين إلى إرسال أبنائهم للتعليم في الأزهر، بل إن بعضهم قد التحق بالمعاهد الأخرى غير الدينية في القاهرة، ولكن لا يعرف مركز المسلمين في الصين الجديدة، بعد الانقلاب الأخير، كما لا يعرف عددهم، فقد يبلغون عشرين أو ثلاثين مليونا.
المرأة العربية الجديدة
عندما نتأمل الشعوب العربية التي تخلصت من الاستعمار البريطاني أو الفرنسي، نجد أنها تنزع في نهضتها إلى تحقيق عدة أهداف: أولها التعليم العام، وثانيها التصنيع، وثالثها تحرير المرأة.
وهذه النهضات الثلاث تبرز في جميع الشعوب العربية من السودان إلى سوريا، ومن العراق إلى مصر.
وحركة التعليم العام تجري فيما يشبه العجلة أو الهرولة؛ لأن إحساس الكرامة الوطنية يدفع هذه الشعوب العربية إلى مكافحة الأمية والسخاء في الإنفاق على إنشاء المدارس، أما التصنيع فيسير ببطء، وهذا هو المنتظر؛ لأن نفقاته أكبر، كما أنه يحتاج إلى خبرة أجنبية ومرانة بين العمال، كما يحتاج إلى التدريج، بطبيعة ما يحتاج إليه إنشاء المصانع من الدرس والاستعداد، وما تتطلبه المصنوعات من ترتيب وتنظيم في البيع واختيار الأسواق.
أما النهضة الثالثة فهي تحرير المرأة، وهذه النهضة حبيبة إلى قلب كل عربي مستنير؛ لأن أبرز ما يفصل بين الشعوب العربية والغربية هو حال المرأة بينهما، وعبارة «تحرير المرأة» تتحمل طائفة من المعاني.
فهي تعني تحريرها من الجهل بالتعليم، وتحريرها من التقاليد بإلغاء الحجاب، ثم مساواتها بالرجال في الحقوق الدستورية والمدنية.
وقد نظن من النظرة الأولى لهذا الموضوع أن الاستعمار أبعد ما يكون عن التدخل في شئون المرأة العربية، ولكن هذا خطأ كبير فإننا نعرف من تاريخ بلادنا مدة الاحتلال الإنجليزي أن السلطات الإنجليزية أقفلت مدارس البنات عقب استيلائهم على شئون الدولة في سنة 1882 بدعوى الاقتصاد، ولم يبقوا في القطر المصري كله إلا على مدرسة ابتدائية بالقاهرة، وبقيت المرأة المصرية محرومة من التعليم الثانوي 43 سنة؛ لأن أول مدرسة ثانوية أنشأتها الحكومة كان افتتاحها في سنة 1925 عقب ثورة 1919، وما أثارت من استقلال جزئي في إدارة التعليم.
بل أكثر من هذا: كانت «المدرسة السنية» في القاهرة، وهي المدرسة الابتدائية الوحيدة للبنات، ترأسها ناظرة إنجليزية، وكانت هناك حركات اجتماعية بين الشعب تنبعث من صميمه وتدعو إلى إلغاء الحجاب، أي: تدعو إلى إلغاء الفصل بين الجنسين، وعدم إبقاء المرأة في البيت لا تنشط لأي عمل غير العمل المنزلي، كما تدعو إلى نزع البرقع عن وجهها إذا خرجت من المنزل.
كانت هناك حركة تدعو إلى تحرير المرأة من هذه التقاليد السيئة، وكانت هناك محاولات موفقة من المرأة في تحقيق هذا التحرير، كما كان الرأي العام والصحف قد شرعا كلاهما يؤيدان «السفور»، ولكن الناظرة الإنجليزية «للمدرسة السنية» كانت تصر على أن تتقنع التلميذات بالبراقع، وهن لم يكدن يبلغن الحادية عشرة أو الثانية عشرة من العمر، وكانت حجتها في ذلك أن مصر يجب أن تحافظ على تقاليدها ولا تقلد الغربيات.
كان الاستعمار يخشى أن يؤدي تقليدنا الغربيين إلى السير نحو الحضارة الغربية ثم إلى الأخذ بقيمها، فيكون من ذلك صناعة وتعليم وحرية، ولا يمكن الاستعمار أن يعيش مع كل ذلك، إنما يعيش الاستعمار في الشعوب الشرقية، أو كان يعيش فيها، بمخالفته القوات الرجعية التي كانت تعمل لركود هذه الشعوب، بدعوى المحافظة على التقاليد مهما وضحت لأبنائها الشرور والمفاسد التي كانت تنطوي عليها هذه التقاليد؛ ولذلك عندما تخلصنا بعض الشيء من النفوذ الإنجليزي، شرعنا ننشر التعليم، وتعليم المرأة خاصة، فأنشأت الحكومة المصرية أولى مدارسها الثانوية للبنات في سنة 1925، ولما أنشئت جامعة القاهرة حرص المؤسسون على أن يجعلوا التحاق المصرية مباحا.
واستجاب الشعب لهذه الحركة، فأقبلت الأسر على إدخال بناتها في المدارس التي أنشئت لهن، كما أقبلت الحاصلات على شهادة البكالوريا على الالتحاق بالجامعات، وكان تبريز البنت أو الفتاة في المدرسة والجامعة لا يقل عن تبريز الصبي أو الشباب.
ونسينا الحجاب، أي بقاء المرأة في البيت، ونسينا البرقع، أي: قناع الوجه، وصارت المرأة المصرية تختلط بالرجل وتقابل الدنيا بوجهها المكشوف.
ولنا الآن في مصر أكثر من ثمانية آلاف طالبة في جامعاتنا الأربع، أما التلميذات في المدارس فيبلغن عشرات الألوف، والوعي التعليمي النسوي كبير بين الأسر الفقيرة، فقد كانت الفتاة قبل ثلاثين أو أربعين سنة تمضي حياتها إلى سن العشرين محجبة في البيت، سواء حصلت على شيء من التعليم الابتدائي أم لم تحصل، ثم تنشد الزواج في أقرب وقت.
أما الآن فهي تنشد التعليم الجامعي، وأسرتها تحثها على ذلك؛ لأنها عقب تخرجها من الجامعة تنال وظيفة حكومية أو عملا حرا تجني منه مرتبا شهريا محترما تعول به عائلتها، وأيضا تجد به الحرية في اختيار الزوج القادم الذي لا يكون اعتبار المال وحده هو كل شيء عنده.
وعندنا في مصر آلاف المعلمات والطبيبات والممرضات، كما أن عندنا أيضا عددا غير صغير من المحاميات والصحفيات، وكان ظهور المصانع، التي كان محرما إنشاؤها أيام الاحتلال الإنجليزي، قد جذب عشرات الألوف من الفتيات العاملات.
وهذه الحال الجديدة أكسبت المرأة كرامة، فألفت الجمعيات النسوية للمطالبة بحقوق جديدة دستورية ومدنية، فالدستور الجديد قد نص على حقها في الانتخاب والترشيح، وقد عاونت الحكومة هذه النهضة بأن فتحت أبواب وظائفها الحكومية لها، أو على الأقل بعض هذه الأبواب.
ولكننا مع ذلك ما زلنا بعيدين عن المساواة التامة بين الجنسين، فإن التفكير في تعيين المرأة كوزيرة أو سفيرة لا يزال بعيدا عنا، كما أن إطلاق حرية الزوج في الطلاق، وأيضا في تعدد الزوجات، وأيضا في بيت الطاعة، كل هذا مما تشكو منه المرأة الجديدة، ومما لا يزال بعيدا عن التفكير الشعبي العام.
ولكن قافلة الارتقاء تسير ، وهي تسير بقوة المرأة الجديدة التي تقرأ وتستنير، والوعي النسوي يكاد يكون عاما بين نساء المدن ولا يتخلف عن ذلك سوى المرأة الريفية التي لم يصل إليها التعليم نهائيا، ولا تزال محجبة إلا حين تعمل مع زوجها في الحقل، والتعليم وحده هو الكفيل بتغييرها وتطورها.
ولو سئلت: ما هي العوامل التي عملت على تحرير المرأة لكان جوابي: (1)
إن العامل الأول هو الاحتكاك بالحضارة الأوروبية في أشحاص الجاليات الغربية التي تقيم، أو كانت تقيم، منذ أكثر من سبعين سنة في مدننا الكبرى مثل القاهرة والإسكندرية وبورسعيد، فإنها بعيشتها، وأزياء نسائها، ونشاطهن في الأعمال الحرة، أوجدت قيما وأهدافا جديدة أخذ بها المجتمع المصري. (2)
إن النهضة الاستقلالية منذ ثورة 1919 إلى الآن قد أحدثت، في غضونها ووفق اتجاهها، نهضة نسوية؛ لأن الوعي بالاستقلال السياسي أوجد وعيا بحرية المرأة وكراهة تخلفها. (3)
إن تعميم التعليم قد أدى إلى إيجاد مئات المدارس للبنات، وهؤلاء بتعلمهن صرن يتكسبن بالعمل خارج المنزل، وهذا التكسب ساعد كثيرا على استقلال المرأة.
وما قلته عن مصر يمكن أن يقال عن الأقطار العربية الأخرى، مثل العراق ولبنان ومراكش وسوريا والسودان، ففي كل هذه الأقطار نهضة نسوية كبيرة أو صغيرة تسير بالمرأة نحو المساواة بين الجنسين، ونحو الاهتمام بتعليمها وعملها في مصالح الدولة والأعمال الحرة.
ومما يلاحظ وهو لا يخالف منطقنا هنا، أن الأقطار التي عذبها الاستعمار الأجنبي هي التي ظهرت فيها نهضات نسوية، أما حيث لم يكن استعمار أجنبي فليست هناك أي نهضة نسوية، بل هناك المحافظة على التقاليد مهما كان فيها من رجعية. •••
لا أظن أن التاريخ العربي القديم عرف رجلا دعا إلى المساواة بين الجنسين سوى ابن رشد الذي مات في 1198 للميلاد، فإنه قال: إن المرأة كفء لأن تمارس أعمال الحرب وأعمال السلم معا، وأنها قادرة على دراسة الفلسفة، وأن الكلبة الأنثى تحرس القطيع كما يحرس الكلب الذكر، وأن المجتمع العربي لن يرقى إلا إذا كف الرجل عن استعمال المرأة لمتعته وقصر نشاطها على البيت.
أما في العصور الحديثة فقد عرفنا في القاهرة قاسم أمين الذي ألف كتابيه «حرية المرأة» و«المرأة الجديدة» حوالي 1895 وكان لهما رجة وقتئذ.
ولكن أثر ابن رشد إذا كان له أي أثر، وكذلك أثر قاسم أمين، كان عظيما بين المثقفين، ولكنه لم يتجاوزهم إلى الشعوب العربية التي إنما تنبهت إلى قيمة ارتقاء المرأة بسير الحوادث والاحتكاك بالحضارة الغربية.
ختان البنات
كلنا يذكر أن إحدى اللجان في هيئة الأمم قد أوصت بسن قوانين تمنع ختان البنات، وذلك لوثوق هذه اللجنة بأن هذا الختان ليس سوى تعذيب وتمزيق للبنات، ثم بعد ذلك، عندما يبلغن سن الشباب، يكون من أثر هذه العملية الضرر الكبير وقت الزواج حين تجد الفتاة أنها لا تتجاوب مع زوجها في التعارف الجنسي، وهذا إلى أمراض تصيب المبيضين.
وكلنا يذكر أيضا أن حكومة السودان منعت ذلك الختان الذي كان مألوفا عند إخواننا السودانيين، وهو عملية كان ينزع بها جزء كبير من عضو التناسل في البنات، وهذا بعد آلام عظيمة.
وكانوا يصفون هذه العملية بأنها «فرعونية»، ولا أدري من أين جاءوا بهذا الوصف الذي لم أجد له تبريرا في العادات الفرعونية التي نعرفها، ولو كانت فرعونية حقا لكنا نحن أبناء الفراعنة أولى بممارستها من السودانيين.
والأصل البدائي للختان في الصبي الذكر معروف، وله ما يبرره في العقلية التي كانت تكبر من شأن التعارف الجنسي، وكان العذر واضحا في ذلك؛ إذ لم تكن للإنسان البدائي لذة أخرى، ثم يمكن أن نجد في الطب الحديث تبريرا، أو ما يقارب التبرير، لهذه العملية في الصبي، أما عملية الختان للفتاة فليس لها أي تبرير في الطب كما ليس لها أقل سند في الدين.
وقد بحث الأستاذ «محمد الغزالي حرب» في كثير من كتب الشريعة الإسلامية فلم يجد لهذه العادة البغيضة أصلا في الدين، وعلى هذا الأساس استطاع إخواننا السودانيون أن يلغوا ختان الفتاة دون أي حرج في الدين.
لا ليس ختان الفتاة من الدين، وإنما هو من ذلك المجتمع الذي حط من قدر المرأة عن طريق التسري وشراء الإماء؛ لأننا في تصور المقتنيين للإماء، نأتمن الفتاة المختونة من حيث ضعف شهواتها الجنسية بقطع الجزء الانتصابي في عضوها التناسلي، ونخشى بقاء هذا العضو لئلا تخون ممتلكها، ثم نحن لا نبالي أن تستمتع الأمة بالجنس.
ولكننا في عصرنا لم نعد نتسرى، ولم نعد نشتري الإماء، فليس هناك ما نخشاه إلا إذا كنا لا نثق بأمانة الزوجة وولائها لزوجها، وذلك الذي لا يثق بالمرأة خير له أن يحجم عن الزواج، ولا يقدم عليه بتاتا، حتى تتغير عقيدته هذه.
وكل ما نجني في عصرنا من ختان الفتاة هو البرود الجنسي فيها وقت الزواج، فهي لا تتجاوب مع زوجها في أثناء التعارف، ولو أن البرود كان تاما لا تحس شيئا معه، لكان كل ما هنالك من أثر هو الأسف لحرماننا إياها لذة طبيعية من حقها ألا تحرمها، ولكن الواقع أنها تحس ولكن في ضعف وبرود.
وهما ضعف وبرود يحملان الزوج على أن يتخذ من المخدرات ما يعتقد أنه يطيل به مدة التعارف كي تتجاوب زوجته معه، ومن هنا تفشى الحشيش وسائر المخدرات، فإن الغاية منها جنسية في أغلب الحالات، وقد سمعت ممن يكافحون المخدرات أن الزوجات هن اللائي يحرضن أزواجهن على استعمالها بغية الإطالة في مدة التعارف حتى لا يحرمن من السرور الجنسي؛ وذلك لأن قطع الجزء الانتصابي في المرأة بالختان لا يمحو اللذة الجنسية تماما، وإنما هو كما قلت يضعفها فقط، ويؤخر التجاوب عند الزوجة إزاء زوجها، فإذا انتهى هو، وارتاح كانت هي لا تزال في منتصف الطريق، تجد العذاب بدلا من السرور، وهي في مثل هذه الحالات تكره زوجها، وتنفر من العلاقة الجنسية التي لا ترتوي بها، بل تجد فيها ما يزيد عطشها، بل هناك من الأطباء من بقولون: إن لهذه المواقف أثرها السيئ الآخر في المبايض التي تمرض.
بل أستطيع أن أزيد في تعداد الأضرار من عادة الختان للمرأة، فإن عطش الزوجة للوصول إلى الذروة وقت التعارف قد يحملها على الالتفات إلى غير زوجها في أمل الوصول إلى غايتها التي لم يستطع هو أن يبلغها إياها.
فمن ناحية تؤدي عادة الختان هذه إلى تحريض الأزواج إلى استعمال الحشيش وسائر المخدرات، ومن ناحية أخرى قد تحمل الزوجات على الزنا، في حال امتناع الأزواج عن المخدرات، وفي كلتا الحالتين نجد التعاسة بدلا من السعادة الزوجية.
وعلى حكومتنا أن تأخذ برأي اللجنة التي أشرنا إليها في هيئة الأمم المتحدة فتسن القانون اللازم لمنع الختان، وتعاقب كل من يمارس هذه الحرفة ويرتكب هذه الجريمة، فإننا أعضاء في هذه الهيئة، وعلينا ألا نخالف قراراتها، ومع ذلك لن نكون مبتدعين في سن هذا القانون، فإن السودان قام بذلك قبلنا. •••
إن ألوفا بل ملايين من الزوجات، قد استحالت حياتهن الزوجية إلى تعاسة وعذاب بسبب ختانهن في الطفولة، والرأي السائد بين العامة أن المرأة إذا لم تختن فإن شهواتها عندئذ لا تقهر وأنها لا تشبع من التعارف الجنسي.
ومثل هذا الكلام العامي هو بعض الآراء الشرقية الأصلية بشأن المرأة، وأنها إنسان شرير بطبيعته، خبيث ماكر بنشأته، بل إنها إنسان حقير عند المقارنة بالرجل، وبعض هذه الآراء كان سائدا في أوروبا إلى وقت قريب، ولكن الحضارة ألغت الرق الذي كان يسود الشرق والغرب معا حتى منتصف القرن الماضي.
وإلى وقت قريب كانت المرأة الأوروبية تحرم التصرف حتى في ممتلكاتها الموروثة عن والديها، ويترك التصرف لزوجها وحده.
ولكن الحضارة هذبتنا، فأصبحنا نقول بالمساواة بين الجنسين، كما نجد ذلك في الحقوق الدستورية والمدنية وسائر الحقوق، ومن العار أن تبقى عندنا هذه العادة القديمة التي تفسد علاقاتنا الزوجية وتتعس الزوجات وتحرمهن حقا يستمتع به الرجال.
جحا العاقل وجحا المغفل
لا يخلو أدب من فكاهة.
وليست الفكاهة سوى النقد الملتوي، النقد الشرز، الذي ينظر في غير مواجهة، إما حياء وإما خوفا، ليقول الكلمة الحاسمة أو المشككة التي تجعلنا نقف ونتردد وقد نغير رأينا السابق إلى رأي جديد.
الفكاهة هي نقد مع الابتسامة الساخرة، وقد نضحك بل أحيانا نقهقه، بدلا من أن نبتسم.
والفكاهة هي في كل حال حالة تفريج؛ ذلك لأننا نثور بها على العقيدة العامة بشأن الأشياء والناس.
واعتقادي أن الرجل الذي يرضى عن نفسه ووسطه، ولا يجد في نفسه كظما أو غيظا، لا يعرف قيمة الفكاهة؛ لأنه لا يحتاج إلى التفريج، والبرهان على هذا أننا نجد فكاهة ينطق بها أحدنا أمام خمسة أو ستة من الأشخاص، فيضحك أحدهم في قهقهة عالية، ويسخر ثانيهم في ابتسامة صامتة، وينفر ثالثهم كأنه سمع عجرا، ويعجز الرابع عن فهمها، ويصمت الخامس متعجبا من حكمتها.
وهذا الاختلاف يدل على اختلاف نفسي وتفاوت في النظرة العامة وفي الآراء الاجتماعية، ونحن حين نضحك من الفكاهة إنما نفرج بها عن ضيق شخصي، ونجد في هذا التفريج ما يشبه الانتقام أو الثأر من حال لا نطيقها قد فرضها علينا المجتمع، ولذلك نستطيع أن نقول: إن للفكاهة الحسنة قيمة علاجية أو دوائية للنفس الكاظمة، وأية نفس لا تكظم؟
ولشخصية جحا مقام أثيل في الأدب، هو شخصية أخرى غير جحا العامة، جحا الأدباء رجل عاقل حكيم تخرج فكاهاته كما لو كانت فقاقيع الحكمة، أما جحا العامة فهو رجل مغفل يكاد لعاب البلاهة يسيل من فمه، لا ترتفع فكاهته إلى مقام النكتة، ولا يضحك منها غير السذج الذين لم تتكون عندهم حاسة النقد أو على الأقل تمتد سباته.
وهاتان الشخصيتان، جحا العاقل وجحا المغفل، تدلان على تعدد الأصل لهذه الفكاهات التي تعزى إلى ما نسميه «جحا»، والتفسير لهذه الظاهرة يمكن أن نصل إليه بأن نفرض أنه كان هناك رجل عاقل يرسل كلماته نكات حكيمة خفيفة كأنها فقاعات، فلما طارت شهرته صارت تعزى إليه فكاهات أخرى لا تبلغ مستواه ولكنها تنحو نحوه، ثم انحدرت هذه الفكاهات إلى العامة فتشممت الحشيش الذي خيمت أبخرته على العقول، وخدرتها، فكانت هذه الكلمات البلهاء التي نقرأها ويقال لنا: إنها من صنع جحا.
ولما ساد الأتراك على الشعوب العربية أخذوا جحا معهم فيما أخذوه من كنوز العرب، فجعلوه «خوجا» وعزوا إليه نكات وفكاهات تدل على حكمته أو على تغفله، ولكن ليس هناك شك في الأصل العربي لجحا، وفي أنه كان حكيما قبل أن تنمو على اسمه، وتستغل شهرته فكاهات سخيفة لا يمكن أن تعزى إلا إلى الحشاشين، ونحن هنا إزاء شخصية اختلطت بروايات التاريخ الصحيحة والكاذبة، كما حدث لشخصية أبي نواس على النظم فوق المستوي، ولكن روحه كانت فاسقة، فأضاف إليه التاريخ بعد موته عشرات أو مئات من القصص التي تجري مجرى فسقه، ولكنها لا يمكن أن تكون صحيحة؛ لأنها كانت على الدوام دون مستواه في الشعر.
كان جحا العاقل يقول حين سأله أحدهم: أيهما أفضل يا جحا؟ المشي وراء الجنازة أم أمامها؟ فقال جحا: لا تكن على النعش وامش حيث شئت.
وكان عاقلا أيضا حين كان أحدهم يغتسل في بحيرة وسألوا جحا: إذا أراد الإنسان أن يغتسل فإلى أي جهة يجب أن يوجه وجهه؟ فقال جحا: يوجه وجهه إلى الجهة التي فيها ثيابه.
ومثل هاتين النكتتين يمكن أن نجدهما عند الجاحظ أو أي أديب عظيم، ولكن جحا المغفل، الحشاش، الذي ظهرت نكاته بعد وفاة جحا الأصلي بقرنين أو ثلاثة قرون، ينطق بالسخف الذي يضحك الفارغين والسذج، فمن هذا مثلا:
ورث جحا نصف دار عن أبيه، فقال: أبيع حصتي من الدار وأشتري الباقي، فتصير الدار كلها لي.
وأيضا: أكل يوما مع قوم رؤساء، فلما فرغ من الطعام دعا للقوم فقال: أطعمكم الله رءوس أهل الجنة.
وسمع قائلا يقول: ما أحسن القمر، فقال: أي والله خاصة بالليل.
وتوضأ يوما ولم يكف الماء رجله اليسرى، فلما قام يصلي وقف على رجله اليمنى ورفع اليسرى، فقيل له: لماذا فعلت ذلك؟ قال: طروف رجلي هذه غير متوضئة. •••
وقد قلت: إن النكتة السخيفة تضحك الفارغين والسذج، ولكننا نحب أحيانا شيئا من الغفلة نرتاح إليه.
اعتبر هذه النكتة الفرنسية:
كان أحدهم يسير في حقل، فرآه كلب فنبح، وعدا خلفه، وخاف الرجل فعدا أيضا، ورآه آخر فقال له: لا تخف، ألا تعرف المثل الذي يقول: إن الكلب النابح لا يعض. فقال الرجل: أنا أعرف المثل، ولكن هذا الكلب لا يعرفه.
من منا لا يضحك على هذا السخف، وأيضا من منا لا يضحك بعشرات النكات السخيفة التي عزيت إلى جحا؟
رسالة الكاتب
الفرق بين الكاتب وقرائه أنه هو أكثر وجدانا منهم، أي: إنه يجد نفسه، في أبعادها الزمنية والمكانية، أكثر مما يجدون هم أنفسهم، ومهمته أن ينقلهم إلى درجة وجدانه ويكسبهم ضميره.
مهمة الكاتب أن يرفع القارئ من الزقاق إلى الشارع، ومن الشارع إلى المدينة، ومن المدينة إلى القارة، إلى هذا الكوكب كله، مهمة الكاتب أن يملأ صدر القارئ باهتمامات هي هموم جديدة، هموم بشرية تزيد على همومه الشخصية، كما يملأه بمسرات الحياة بأن يكشف له عن ألوان من الجمال والشرف والحق والقوة لم يكن يعرفها من قبل في الطبيعة والإنسان والفن.
مهمة الكاتب أن يحمل القارئ على أن يأبى أن يحيا حياة الحشرة بهموم شخصية وضيعة: أكل وشرب ومسكن، وأن يكسبه هموما بشرية عظيمة كالحرية والثقافة والحضارة والفن والثورة.
مهمة الكاتب أن يجعل القارئ يحيا الحياة التاريخية، ويحس أنه إنسان عظيم له مشاركة في تغيير هذه الأرض وترقية مجتمعاتها وتطوير حضارتها.
مهمة الكاتب أن يقول للقارئ: أنت لست تاجرا تبيع الأقمشة أو البقول، إنما أنت إنسان عظيم قد احتاجت الطبيعة إلى ألف مليون سنة كي تخرجك من رحمها بعد آلاف التجارب التي لم تنجح في إخراج مثلك، أنت قمة التطور، أنت سلطان هذه الأرض.
وبكلمة موجزة: قيمة الكاتب ومهمته أن يزيل عن القارئ هذا الذهول الذي كثيرا ما يقع فيه فينساق في عادات فكرية وعقائدية تاريخية حتى يتحجر، والكاتب العظيم هو ذلك الذي يصدم قارئه فيوقظه، ويرد إليه وجدانه، ثم يزيد هذا الوجدان سعة وعمقا.
الشيزوفريني هو رجل مريض، ومرضه هو الذهول، فالحوادث التي تجري حوله، خطيرة أو حقيرة، لا تلفته، ولكننا نعيد إليه وجدانه وتعقله بصدمة كهربائية عنيفة.
والكاتب العظيم هو هذه الصدمة الكهربائية لقرائه الشيزوفرنيين الذاهلين، وكلنا إلى حد ما في شيزوفرينا طفيفة، ولذلك كثيرا ما نعيش في ذهول. •••
وأعظم ما يتهيأ به الكاتب كي يحسن حرفته، ولا نقول كي يكون عظيما، هو أن يزيد وجدانه ، ولذلك يحتاج إلى أن يدرس المعارف والأفكار والعلوم والآداب، وجميع هذه الأشياء تزيد الوجدان، أي: إنه سيجد نفسه في ميدان من الوجود أكبر وأرحب مما كان قبل أن يدرس هذه المعارف، وهو لذلك يكون أقدر على التعقل؛ إذ هو يرى ويحس أكثر، وهو لذلك أيضا يكتسب الحكمة والبصيرة معا، فإذا كتب كان ما يكتبه ثمرة لهذه الحكمة وهذه البصيرة.
ولكن هذه المعارف والأفكار والعلوم والآداب لا تشتمل على جميع الاختبارات التي يحتاج إليها الكاتب؛ ذلك لأن الكاتب يشتغل بشئون الناس، فيجب أن يعمل أعمال الناس، ولو كان العمر يمتد حتى يتسع للكاتب، بحيث تمر به اختبارات مهنية وأخلاقية وروحية، بحيث يكون ملاحا في السفينة، وضابطا في الجيش، ومعلما في المدرسة، وطبيبا في المدينة أو الريف، وسياسيا وصحفيا، وبحيث تمر به بعض الكوارث كموت الصديق، أو الحبس والحرمان، أو الفقر والمرض، وبحيث تنتابه تلك التطوارت الروحية التي تغير عقيدته أو تقويها، وتحرفه عن وجهته أو تثبته، لو كان العمر يمتد لكل ذلك لكان في هذه الاختبارات ما يهيئ الأديب أعظم التهيؤ لأن يكون عظيما؛ لأن هذه الاختبارات تربطه بالمجتمع، وتغمسه في الطبيعة، وتزيد وجدانه، وتبعده عن الذهول الحيواني.
ولكن بالطبع هذه الحال محال، ولذلك يضطر الأديب إلى أن يستبدل باختبارات الحياة دراسة أحوال البشر والمجتمعات من الكتب والصحف ومن الناس، يسألهم ويتعلم من إجاباتهم واختباراتهم. •••
بعض الأزمنة يحفل بالكوارث، فيزداد الوجدان عند الناس عامة، وعند الأديب خاصة.
كان جيته الأديب الألماني يشكر الأقدار على أنه رأى في حياته حرب السنين السبع، والثورة الأمريكية، والثورة الفرنسية، وحروب نابليون، وكان يقول: إن هذه الكوارث قد زادته حكمة وبصيرة؛ لأنها زادته وجدانا؛ إذ هي أبعاده التاريخية والجغرافية والروحية.
وزماننا هذا يحفل أيضا بالكوارث والحروب، وقد نبه لذلك كثيرا من الذاهلين، إلا أولئك الذين يعيشون في نعاس الموت أو يفصلون بينهم وبين اختبارات الدنيا بفواصل من التقاليد والعادات المتحجرة.
وهذه هي الكوارث والاختبارات العامة، ولكن الأقدار تحابي أحيانا بعض الأدباء بكوارث خاصة، فيتنبهون، ويحسنون بذلك تأدية رسالتهم.
ذلك أن الكارثة الخاصة تحدث لنا توترا قد لا تحدثه الكارثة العامة، فإذا كنا على شيء من الذكاء فإن هذا التوتر يبعث فينا غضبا أو حزنا، نجعل منه مادة فنية جديدة للقراء؛ لأن مشكلتنا الشخصية تعود مشكلة عامة للبشر، ومأساتنا الفردية مأساة المجتمع كله.
وكاتب بلا توتر، وبلا قلق، وبلا جنون، لا يساوي ثمن الحبر الذي يكتب به، فنحن نقلق ونسخط، ثم نتوتر، إذا كنا نجد في الوسط الذي نعيش فيه من الأخطاء والعلل ما يستحق غضبنا وتوترنا، ولكن نوبة القلق، نوبة التوتر، نوبة الجنون، لا تلائم الكتابة.
ولذلك يحتاج الكاتب المتوتر إلى فترة من الحضانة أو الاختمار، يبدأ عقبهما فيكتب، كما لو كان شخصا آخر غريبا، أي: يكتب في وجدان وتعقل.
إن الأديب يحتاج إلى البر العاجي، ولكن لا ليعيش فيه، وإنما ليعتكف فيه، ويلجأ إلى خلوته بعض الوقت، كي يتأمل الحوادث ويفكر فيها ويتدبرها، وإذا كانت السوق هي ميدان الصحفي التي يدرس فيها تتابع الحوادث، فإن ميدان الأديب يجب أن يشمل السوق والبرج العاجي معا، الأولى للاتصال بالمجتمع ودراسة الأشخاص والأشياء، والثاني للتأمل والاستنتاج.
والصحفي ينقل إلينا الحوادث فور وقوعها، ولكن الأديب ينقلها إلينا بعد الاختمار والتدبر اللذين يحتاجان إلى أيام أو إلى سنوات.
وعالمنا في ارتباط أفكاره واشتباك أممه، يتطلب من الأديب أن يكون صحفيا، يرتبط بالمجتمع، ويدرس المذاهب السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية التي تفشو فيه، ثم ينقلها، في برجه العاجي، إلى الشعر أو النثر، إلى الأدب. •••
الأسلوب الحسن هو ثمرة الرجل الحسن، ذلك لأننا نكتب في الكتاب أو الجريدة كما نخاطب أصدقاءنا في الشارع أو الغرفة، فإذا كنا على أخلاق حسنة فإننا لا نغش أصدقاءنا، بل هم يجدون منا الصراحة والأمانة والكلمة المكشوفة التي لا تضمر خبيئة، وكذلك الشأن في الكتابة؛ لأن أسلوبنا هو أخلاقنا.
هذا هو الأساس في الأسلوب، ولكن كما يكون المشي رقصا، وكما يكون الكلام غناء، كذلك يمكن، بل يجب أن نعمد إلى الجمال في التعبير ونهدف إلى شيء من الإيقاع حتى في النثر.
والأسلوب هو الشخص، هو الشخصية، وأعظم ما يرفع من شأن الشخصية هو هذا الغلو الذي يلازم العظيم في عظمته، الغلو في بيرون الشاعر، في سعد زغلول، الغلو في فولتير، والأسلوب العالي هو ذلك الذي ينطوي على غلو، ولكننا لا نستطيع أن نفتعل الغلو، ولو فعلنا لما زدنا على التهريج.
وإذن يجب أن يكون الغلو أصيلا في الكاتب، وهو لن يكون أصيلا إلا إذا كان الكاتب يتوتر من المساوئ والكوارث، ثم يحضن بالتأمل هذه المساوئ والكوارث، كما تحضن الدجاجة بيضها، أي: يتعقل ويكتب عن روية وتدبر.
والكاتب الحسن هو الذي تكثر توتراته إزاء حي بولاق، وإزاء الإمبراطورية البريطانية، وإزاء عشرات بل مئات المظالم والمذابح التي تملأ عصرنا في وطننا وفي غير وطننا.
والكاتب الحسن لا يختار أسلوبه، بل هو لا يختار موضوعه، ثم إن الموضوع يعين الأسلوب؛ لآن الكاتب إذا كان مشغولا بهموم عصره، فإنه لا يكتب عنها فقط بل يكتب الأسلوب الذي تمليه عليه التوترات التي أحسها منها، ولذلك نحن نعرف أسلوب الكاتب من الحال النفسية التي نحسها حين نقرأ الكتاب أو عقب قراءته.
والكاتب العظيم لا يبالي بأي أسلوب يكتب؛ لأنه قانع بتوتراته التي تملي عليه الكلمات والعبارات، وهذا بالطبع بعد تدريب طويل وتربية ذاتية، قد تأصل كلاهما في نفسه وذهنه، فتعين له منهما مزاج ومنطق، وبعد اختبارات حدت من ذهنه، وفتحت بصيرته وأكسبته فلسفة ورسمت له أهدافا.
وبعد هذا الذي ذكرنا عن الأسلوب يجب أن نصل بالقارئ إلى شيء أصيل في بحثنا هذا، وهو أننا كي نتعمق الأسلوب، يجب أن نعرف الكاتب، وأن نتعمق حياته وأخلاقه.
لقد قلنا: إن الكاتب العظيم يحتاج إلى توترات تحمله على الغلو، وأن الأسلوب العظيم، مثل الشخصية العظيمة، يحتاج إلى الغلو، وهذا الغلو هو ثمرة التوترات، غلو في الحزن أو الفرح، طرب الحزن وطرب الفرح. وغلو في الحب أو الغضب، وغلو في الإحساس بالجمال أو القبح وغلو في نشدان الحق أو مكافحة الباطل.
وأكثر الناس توترات هم مرضاهم، وليسوا أصحاءهم ؛ لأن السليم يستطيع أن يتحمل من المكاره والمقابح أكثر مما يتحمل المريض، وخاصة إذا كان مرضه نفسيا؛ إذ هو يشمئز أكثر، وينفر مما ينفر منه السليم، وهو لذلك مرهف الإحساس، كأن أطراف أعصابه مكشوفة جريحة، ولذلك كثيرا ما تجد المؤلف المفكر يشكو لونا من النيوروز، ولكن هذا النيوروز هو في الأغلب نتيجة ذكائه وليس سببه، أي: إنه لذكائه استطاع أن يرى أكثر مما رأى غيره، فأحس وتألم أكثر، وفاض الألم حتى صار نيوروزا أو كاد، فكثرت توتراته ودفعته إلى إدمان التفكير ثم الاختراع، ولا أكاد أعرف مؤلفا عظيما قد خلا من توترات المرض النفسي الذي كان يعانيه، حتى جيته أديب ألمانيا العظيم، الذي يبدو سليما من كل نواحيه، لم يخل منه، وكذلك جون روسكين، أما دستوفسكي، ونيتشه، وتولستوي، وأندريه جيد، وبرناردشو، وولز، فأمراضهم واضحة، وهي ترتفع أحيانا إلى درجة الجنون المطلق، وتنخفض أحيانا إلى درجة الشذوذ، ولكنها تكسبهم في كل حال توترا وغلواء.
ونعود إلى موضوعنا، وهو أننا كي نتعمق الأسلوب، يجب أن نعرف الكاتب، نتعمق حياته، نوقف على تفاصيلها التي كونت أخلاقه، وعينت أهدافه، وخصته بتوتراته، والمؤلف كما يؤلف الكتب التي تباع للجمهور، يؤلف أيضا حياته، وربما تكون حياته هي خير مؤلفاته.
ومن حق الجمهور القارئ لهذا السبب أن يعرف الحياة التي عاشها المؤلف، كما أن دراسة الأسلوب تحتاج إلى دراسة هذه الحياة، وصحيح أن المؤلف الفنان يعود إلى اختباراته الخاصة ويكتب عفو إحساسه العاطفي أو وجدانه التعقلي منها، وهذا حين يخلص وحين يحس أن له رسالة، ولكنه قد يخون أحيانا، فيكذب اختباراته وينكر إحساسه ووجدانه معا، ولذلك يجب أن يعرف الجمهور حياته بتفاصيلها، وإذا كان من حق الجمهور أن يعرف مصدر المال الذي يحصل عليه موظف كبير في الدولة، خشية الاختلاس أو الارتشاء، فكذلك من حق هذا الجمهور أيضا أن يعرف مصدر الآراء والعقائد والميول التي يتجه نحوها المؤلف خشية الارتشاء أيضا؛ لأن المؤلف الذي يرتشي كي يترك مبادئه هو كالموظف الذي يرتشي كي يترك واجباته، وكثيرا ما رأينا في حياتنا القصيرة كتابا ارتشوا، وتركوا مبادئهم، وكفروا بالحق، وبصقوا على الإنسانية. •••
للكاتب أسلوب وموضوع، وكلاهما يعودان إلى شخصيته، فمن حقنا أن نعرف المعدن الذي صهرت منه هذه الشخصية، كما نعرف العوامل التي كونتها وعدلتها وغيرتها، وعندئذ فقط نستطيع أن نعلل الأسلوب ونقف على ميزاته ونربطها بأصولها، ومما يتصل بهذا الموضوع أن المؤلفين القصصيين اليابانيين قد نشأوا على عادة قد صارت تقليدا، هي أن المؤلف يروي قصة حياته أو قصص حياته، فهو بطل القصة، يدون اختباراته وينقحها، ويتسامى بها، ويستخرج منها العبرة، ولكنه في كل ذلك يجعل من نفسه البؤرة أو المركز. •••
حياة المؤلف أكبر من فنه، هي الكل وهو الجزء، هي الشجرة وهو الثمرة، ولذلك فقصة هذه الحياة هي أعظم ما يستطيع أن يكتبه المؤلف؛ لأنها بجلالها وتفاهتها، وبمشكلاتها وانتصاراتها، وبواقعها وخيالاتها، وبكفاحها وضعفها، تبسط للقارئ جيلا، بل ربما أجيالا، وتشرح له تقلبات العصر الذي عاش فيه المؤلف.
و«الترجمة الذاتية» مألوفة لهذا السبب في أوروبا وأمريكا، بل إن دراسات برنارد شو، وكذلك قصص ولز، وجميع مؤلفات أندريه جيد، هي جميعها تراجم ذاتية موزعة.
ولكن هناك المئات من المؤلفين الغربيين الذين كتبوا قصص حياتهم كي يبرزوا للقراء عبرتها، كتبوها في غير مداورة دون أن يتحملوا صيغة القصة الخيالية لإبرازها، وأحسوا أنهم يؤدون بهذا واجبا روحيا.
ولكن لا تزال «الترجمة الذاتية» بعيدة عن الوجدان الأدبي في مصر، ولم يحاولها غير طه حسين وأحمد أمين، والإقدام على الترجمة الذاتية برهان على أن الكاتب على وجدان بعصره، وعلى تفطن لمشكلاته، وعلى تبصر بالمستقبل في ضوء الحاضر، وعلى احترام للفن الذي يعالجه، وأخيرا هي برهان على أنه يجد ارتباطا وثيقا وتفاعلا حيا بين فنه وحياته وبين شخصه ومجتمعه، وعلى أنه ينظر إليهما نظرة الجد والخطورة وليس نظرة المجانة والاستهتار.
وإننا لنحس حين نعرض لحياة طه حسين، منذ نشأته طفلا ضريرا في قرية في الصعيد إلى أن صار وزيرا، أن حياته هي خير مؤلفاته، كما نحس حين نقرأ عن كفاح فولتير لإنقاذ المضطهدين ، وحرصه على أن يدخر حياته لهذا الكفاح باختيار بقعة تمكنه من الفرار بين فرنسا وسويسرا، وزيارته لإنجلترا ودراسته الدستور البريطاني ونظرية نيوتن، نحس أن هذه الحياة هي الكتاب الأول، كتاب الشرف والشهامة والتعقل، الذي كتبه فولتير.
وهذا هو الشأن في برنارد شو الذي عاش أربعا وتسعين سنة، يعالج فيها حياته، ويعيد تأليفها من وقت إلى آخر، كي يتجدد وينمو.
حياة الكاتب العظيم هي خير مؤلفاته، ومن حق الجمهور أن يطالبه بوصفها وشرحها وتعليلها؛ لأنها تزيده استنارة وتفطنا لموضوعاته وأسلوبه، ومن واجب الكاتب أن يلبي هذا الطلب. •••
كثيرا ما نستدل على أسلوب الكاتب بحياته، فإنه إذا كان اشتراكيا مثلا، فإنه يتجه نحو الوضوح والصراحة والمجابهة، لا يوارب ولا يداور؛ لأنه يحس حبا للجمهور الذي يكتب له كما يحس حقا في الاهتمامات التي يهتم بها، وهو سوائي النزعة، إخائي الهدف، إنساني الدين، ولذلك كله تجده يجانب التبختر، ولا يحاول التفوق، حتى ليبدو أسلوبه ساذجا، ولكنها سذاجة الكوب أو الكأس من الذهب لا تحتاج لأي زخرف.
ولكن الكاتب الذي يهدف إلى الامتياز الاجتماعي، وينشد التفوق المالي، ويعيش فوق الجماهير وينفصل عنها في حي بعيد عن حي بولاق أو السيدة أو السبتية، هذا الكاتب يختار أسلوبا يتفق وأسلوب حياته، فهو لا يخاطب الجماهير بلغتهم؛ إذ هو لا يفكر فيهم إذا فكر، إلا وهو ناء بارد، ومن هنا نزوعه إلى التقاليد الكتابية؛ لأن مركزه الاجتماعي تؤيده التقاليد، ولقد تعالى عليهم في أسلوب العيش فتعالى عليهم في أسلوب الأدب.
ونستطيع أن نقيس الأدب العربي القديم ونقده بهذا المقياس، فإن فيه كما في الأدب الحديث عيبا أصيلا، هو أن الأدباء كانوا يكتبون للأدباء وليس للشعب، وهذا واضح لمن يقرأ صفحة أو صفحات من المتنبي أو ابن الرومي أو المعري، فإن جمهور الشعب لم يكن على دراية باللغة العربية تجعله قادرا على فهم ما كان يكتبه هؤلاء.
وذلك لأن الوجدان الشعبي، أي الإحساس بأن هناك شعبا عربيا له آمال وأهداف، هذا الوجدان لم يكن قط ميزة هؤلاء الأدباء .
ولو كان هناك وجدان شعبي لكتب أدباء العرب للشعوب العربية، عندئذ كانوا يكتبون بلغة هذه الشعوب التي يتحدث بها أفرادها.
وعندما نقرأ أشعار شوقي نحس أنه أديب يكتب للأدباء، وكل من يعرف حياة شوقي والوسط العالي الذي كان يعيش فيه ليدرك الأسباب التي جعلته يكتب بأسلوبه المتعالي، فإن هموم الشعب في حي بولاق، لم تدخل قط في وجدانه الأدبي، وقد كان هو يتعالى في عيشه فتعالى في أسلوبه، ومن هنا نحن نؤثر حافظ عليه؛ لأنه أقرب إلى الشعب منه، ولكن حتى حافظ لا يزيد على أن يكون في أكثر حالاته، أديبا يكتب للأدباء.
ولهذا الحال أسباب واضحة بل فاضحة، هي أن هناك هوة كبيرة تفصل بين الأدباء وبين عامة الشعب، ولذلك لم ترتفع هموم هؤلاء إلى أقلام أولئك، كما أن هؤلاء الأدباء لم يصلوا إلى وجدان بحالتهم تنبههم إلى واجبهم نحو الشعب. •••
رسالة الكاتب المصري في وقتنا هذا أن يرشد وأن يكافح، فأما الإرشاد فهو من حيث توجيه القارئ العربي الذي انقطعت جذوره في الشرق ولما تصل إلى الغرب، وعلينا نحن الأدباء أن نواجه أولئك الذين لا يزالون شرقيين، أولئك المرددين بأن في الشرق روحية وفي الغرب مادية، علينا أن نوجههم جميعا نحو الغرب، أي نحو الحضارة العصرية، بأن ننقل إليهم المثل والقيم البشرية كما هي في أوروبا.
وهذا التوجيه هو في صميمه كفاح، كفاح من أجل تحرير المرأة بالعمل، وتحرير الشعب من الفقر والجهل والمرض، كفاح ضد القرون المظلمة التي لا تزال تخيم على عقول كثيرين منا، وأخيرا كفاح الدول الاستعمارية التي تفسق بالعقول وتقتل البشرية،
ما هو هذا الذي نكافحه نحن الكتاب المصريين؟ نكافح حي بولاق، ونكافح مصر المجسمة في حي بولاق.
عندما أجول في هذا الحي أحس كأننا قد هيأنا منازله وأزقته وناسه كي نعرضها على الأديب الناشئ حتى يعرف رسالته المستقبلة، وهي أن ينقل مصر من هذا الخراب الوعر إلى الحضارة المهذبة، وإني لأقف بين أزقة هذا الحي، وأتلبث فيها، كي أملأ حواسي بما تحوي من قبح، وإني لأتأمل رطوبة الجدران، وكأنها غنغرين قد تمدد وفسد، وإني لأحس أن الجهل والفقر والمرض لتكمن جميعها في هؤلاء السكان الذين تجردوا من كل مميزات المتمدنين، وإني لأسير على أرض هي براز وبصاق وذباب قد عممت في الهواء عفنا وخمولا يملآن النفس كربا وهما، وإني لأتأمل وأتشمم وأتحسس هذه الأزقة، ناسا وجدرانا، فأحترق، وأحس رسالة الأديب في مصر.
هذه هي الحال المصرية التي يجب علينا أن نغيرها، فإذا لم نفعل فنحن لسنا مقصرين فقط بل خونة، وحين يفر أحدنا من حي بولاق إلى التاريخ الماضي، فيكتب عن زوجة الرشيد أو عدل المأمون أو حرب علي ومعاوية، فإنه بفراره هذا، إنما يخون أدبه، وهو بمثابة الجندي الذي فر من الميدان؛ لأن ميداننا جميعا، الميدان الأول، هو حي بولاق ورمزيته لوطننا.
هذه هي خيانة الكتاب، وإني لأستطيع أن أذكر الأسماء لعدد غير صغير من كتابنا بدأوا ملهمين، يحدثون قراءهم عن تلك الحالات الحميمة للقلب والعقل في دراسة الإنسان والطبيعة، ثم طمسوا هذا الإلهام وعادوا يكتبون عن الماضي. •••
لقد تأملت كثيرا، في حسرة وألم هذا التخلف أو القصور في الأدب المصري الحديث، بحيث لا نجد نابغا أو عبقريا يقاس بأولئك النبغاء أو العبقريين في أوروبا أو في الهند، وبعد إنعام التأمل أجد أن أكبر الأسباب لحالنا هو هذا التردد بين الثقافتين: ثقافة الشرق والتقاليد، وثقافة الغرب والابتداع. وقليل من التفكير السيكولوجي هنا ينيرنا.
ذلك أن الشاب حين يقف مترددا بين فتاتين يريد اختيار إحداهما للزواج يحس عنة، أي: عجزا جنسيا، فإذا ما استقر رأيه على إحداهما زالت عنه هذه العنة.
والاشتهاء الجنسي هو في ذاته اشتهاء ذهني، والقوة الجنسية هي نتيجة هذا الاشتهاء، فإذا تردد الشاب في اشتهائه فقد هذه القوة، وإذا زال التردد عادت القوة.
والأديب الذي يتردد بين الحق والباطل، أو بين الانضواء إلى القوى الرجعية والانضواء إلى القوى التجديدية، يحس احتباسا ذهنيا، عنة ذهنية، تصده عن الانطلاق الحر في التفكير، وهو لذلك لا يحسن الكتابة والتأليف حتى حين يختار هذا الشرق بتقاليده ورجعيته وهو على وجدان باختياره؛ لأنه يبقى في أعماق نفسه كارها لاختياره، كأنه قد رفض الزواج من فتاته الجميلة إيثارا لفتاة دميمة لا يحبها ولكنه يطمع في مالها.
وأدباؤنا الذين مالوا إلى الشرق بتقاليده ورجعيته يحسون هذه العنة الذهنية، بل يحسها القراء منهم، ويصدون عنهم، وفي مصر ألوان عديدة من الإغراء تجر الكاتب الملهم نحو الشرق، فتفقده إلهامه ويحتبس ذهنه، وهو عندئذ لا يحسن حتى الكتابة عن الشرق، ولكنه يحمل نفسه، مع عنته، على الدفاع عن التقاليد والرجعية؛ لأنه يجد في هذا الدفاع ثراء وطمأنينة ومقاما، وضميره يهمس إليه بأنه خائن.
وقد سبق أن قلنا: إن التوتر هو الشرط الأول للغلو، ولا يستطيع كاتب متردد أن يتوتر ويغلو، ولذلك لا يستطيع أن يحقق النبوغ فضلا عن العبقرية.
ثم هناك خيانة أخرى هي تلك القوانين التي سنها دعاة الاستعمار والاستبداد لتقييد الأقلام وأحيانا لقصفها، وذلك لأنهم يعرفون أن أعلى الأصوات هذه الأيام هو هذا الصوت الخافت الذي يصدر عن صرير الأقلام؛ إذ هو يزعجهم إزعاج قنابل المدافع، وخاصة في يد الكاتب الذي لا يتعب من الحديث عن حي بولاق وما يعانيه الإنسان المصري فيه من قبح وشقاء.
وإن الكاتب الذكي ليحتاج في مصر أحيانا أن يخفي ذكاءه، وأن يزعم أنه جاهل خشية الاستبداد الذي يحيق به ويرتب له ألوانا من عذاب الفقر والسجن والاضطهاد، ولكني مع ذلك أعتقد أن الكاتب الذي يخون أدبه، ويفر ذهنيا ونفسيا من حي بولاق، وينتكس إلى مغارة التاريخ الماضي، هو أخطر علينا من أية قيود تفرضها حكومة مستبدة وتمنع بها الكتب أو تقصف بها الأقلام. •••
إن للكاتب المصري مشكلات عديدة، ومشكلة اللغة قد تعد في مقدمة المشاكل الماثلة، ذلك أننا نعالج موضوعات عصرية بلغة غير عصرية، وإنك لتجد من كتابنا من يحاولون الكتابة بلغة الجاحظ مع أنه بالرغم من براعته في عصره لم يعد يلائمنا؛ إذ هو كان يختار الكلمة التي تجري على ألسنة الفقهاء، والتي تشير إلى الصحراء، وكان يخاطب الأمراء والوزراء ، ولم يرسم في ذهنه جمهورا من هذه الجماهير التي نخاطبها، ولم يعالج موضوعا من هذه الموضوعات التي نعالجها.
ونحن إذ نخاطب جمهورا ديموقراطيا يجب علينا أن نتخذ اللغة الديموقراطية، وإذا كانت كتب البلاغة لم تذكر شيئا عن اللغة الديمقراطية، فلأن مؤلفيها لم يعيشوا قط في نظام ديمقراطي، وهي، أي: كتب البلاغة، لم تذكر أيضا شيئا عن اللغة الصحفية؛ لأنها ألفت قبل ظهور الصحافة، كما أنها تجهل السينمائية.
إن كتب البلاغة في حاجة إلى تصفية وإلى تجديد، بل يحق لنا أن نتساءل: هل نحن في حاجة إلى قواعد البيان والبلاغة؟ ألا نستطيع الاستغناء عنها ونعترف بالواقع، وهو أن الكاتب لا يحتاج إليها؟
إن قواعد البلاغة تحليلية، والكاتب المبتدئ يؤذيه التحليل أكثر مما ينفعه؛ إذ هو يربكه ويعرقل حركته، وهو يحتاج إلى ما يؤلف ذهنه وليس إلى ما يحلله.
وقد نجد نحن الكتاب من المشاق ما هو أشق علينا من الملاءمة بين لغتنا العصرية ولغتنا القديمة؛ ذلك لأن هذه المشكلة تسير إلى اليسر، إما بمصالحة بين اللغتين، وإما بابتداعات جديدة لا تبالي القديم، كما نرى أحيانا في بعض مجلاتنا الأسبوعية حيث يأخذ الكاتب من العامة الكلمة أو العبارة التي لا تؤدي معناها عبارتنا وكلماتنا العربية الصميمة، وهذا كسب كبير بل كبير جدا.
نجد في لغتنا العربية عيوبا عديدة تعود إلى تاريخها الاجتماعي، ولغة الأدب العربي هي قبل شيء لغة الفقه الإسلامي، ثم هي لغة الفروسية، وأخيرا هي لغة المترفين من الأمراء والأثرياء، وما عدا هذه الموضوعات الثلاثة قليل.
وذلك لأن المجتمع العربي كان مجتمعا أميريا إقطاعيا، وكانت اللغة في خدمة هذا المجتمع بجميع ملابساته تؤدي كلماتها أفكاره الاجتماعية، وفي الأحيان القليلة حين كان المجتمع تجاريا كانت اللغة تتغير، ولكن لأن الوسط التجاري لم يسد قط الوسط الديني أو الحربي أو الإقطاعي كانت العناية اللغوية الأوروبية بهذا الوسط قليلة، فإن الجاحظ يمثل الوسط الديني الحربي، وقد برع وتفوق، ولكن ابن بطوطة، كان من حيث لا يدري، يمثل الوسط التجاري ولم يبرع.
وفي لغتنا لذلك تبذخ الأمراء والأثرياء والمترفين، ولكنها خالية من كلمات التفطن لمأساة الفقر أو عيش الفلاحين أو الوجدانات الجديدة التي أثمرتها النظم والمجتمعات الديمقراطية، فهي لغة يقنع بها رجل مثل الشيخ محمود أبو العيون؛ لأنه يجد في كلماتها كل ما يحتاج إليه من المعاني الشرقية التي في ذهنه، ولكن رجلا مثلي، يحفل ذهنه بالمعاني الأوربية والمشكلات العصرية، وينبعث بوجدان ديمقراطي عالمي، لا يجد فيها حاجاته التعبيرية والفنية، ولذلك اضطررت أنا إلى تأليف عشرات من الكلمات التي جرت على أقلام الكتاب، في حين لم يحتج هو قط إلى تأليف كلمة واحدة جديدة.
والكاتب المصري في ظروفنا الحاضرة محتاج إلى أن يذكر أن ما سميناه «نهضة» في 1919 إنما كان نهضة سياسية تهدف إلى الاستقلال فقط، ومع أن النهضة السياسية لابستها حوافز من التحرير الاجتماعي، مثل سفور المرأة وتعليمها، والاتجاه نحو الصناعة، مع كل ذلك يجب أن نعترف أننا أفسدنا معنى النهضة كما يفهمها الأوروبي الذي عرف النهضة الأوروبية منذ القرن الرابع عشر إلى القرن العشرين، إنها تحرير الشخصية البشرية من التقاليد والغيبيات، وإنها إقبال على العلم التجريبي، وإنها فصل الدين عن الدولة، وإنها دعوة للإنسان كي يأخذ مصيره في يده ويتسلط على القدر بدلا من أن يخضع للقدر، وإنها انتزاع الخير من الطبيعة وإخضاعها، وليس الانتظار كي تسدي إليه الطبيعة فضلها وبزها.
هذه المعاني التي لم نفهمها من النهضة في سنة 1919، ومن هنا هذه الانتكاسات الأدبية والرجعية والسياسية والاجتماعية التي بلوناها في الثلاثين سنة الماضية.
وقد فهم الهنود معنى النهضة بأوسع وأعمق مما فهمنا، كما يتضح ذلك من إلغاء النجاسة، والمساواة في الميراث بين الجنسين، ومنح المرأة حقوقا دستورية لا تقل عن حقوق الرجل، وفصل الدين عن الدولة، والأديب المصري محتاج إلى أن يصحح هذا النقص في نهضة 1919. •••
لا يزال رجل الأدب أو الفن العصري هو رجل النهضة، فقد وصف نشاط الناهضين فيما بين 1450 و1550 بأنه «بشري»، أي: إن الهموم والاهتمامات البشرية قد شرعت تأخذ مكان الهموم والاهتمامات الغيبية التي كانت تسود القرون المظلمة حين كانت الكنيسة بؤرة الثقافة، فنقل الناهضون هذه البؤرة من الكنيسة وغيبياتها إلى الإنسان وارتقائه المادي، وبهذا الاتجاه ظهر العلم كما ظهر المجتمع المدني.
وما زلنا إلى الآن نجد الكتاب الذين يفصلون بين الروحيات والماديات، أو بين النفس والجسم، أو بين العلم والأدب، أو بين الدين والفلسفة، كما كان يفعل كتاب القرون المظلمة، مع أن رجال النهضة ألغوا هذه الفروق؛ إذ جعلوا كل هذا النشاط «بشريا»، وكان فنانهم دافنشي يمارس الرسم والنحت كما يدرس علوم الطيران والحرب والطبيعيات.
لأنه ما دامت بؤرة الثقافة البشرية هي الإنسان فإن جميع نشاطه الثقافي يجب أن يكون احتوائيا استعابيا يتناول كل ما يزيد الإنسان كرامة ورفاهية وفهما، ورجل العلم، إذا لم يكن فنانا فيلسوفا، قد يكون عرضة لأن يوجه نشاطه العلمي وجهة الشر. كما أن رجل الأدب عندما يجهل العلم، قد يكون عرضة للانتكاس الرجعي وللرهبنة في البرج العاجي.
وفي كلمة موجزة نقول: إن الأديب يجب أن يجعل مشكلات المجتمع موضوع أدبه، وهو حين يفعل ذلك يجد أنه يهتم بالموسيقى والرسم كما يهتم بنقابات العمال والمساكن الصحية، وهو يدرس الطبيعيات الذرية كما يدرس شعر المعري، وهو يشتبك في الحركات السياسية والاجتماعية يوليها من وقته وجهده مثلما يولي الأسلوب أو النقد الفني سواء بسواء.
إنه، أي: الأديب، بشري يدرس شئون البشر، فهو لا يترفع عن درس الغذاء البروتيني في الفول المدمس، وبحث الظروف الاجتماعية والزراعية التي تزيد هذا الغذاء أو تنقصه، كما يدرس فلسفة أرسطو طاليس، بل هو لا يفهم كيف يترفع عن ذلك، ثم هو بعد كل هذا يفهم القوة الروحية في الإنسان لا ينصرف معناها إلا إلى الارتقاء الاجتماعي والثقافي والشخصي، وإن معانينا الروحية هي معاني الأدب والفن والفلسفة والعلم لا أكثر.
وأخيرا رسالة الكاتب في مصر عامة وخاصة:
فأما العامة فهي أن يجعل الأدب وفق المبادئ البشرية، بحيث يغرس الكاتب في القارئ حب البشرية والطبيعة والفن والعلم والثقافة؛ لأن الأديب الحق هو صديق الإنسان لا يعرف التعصب أو العنصرية، ولا يقول بالقسوة أو الحرب، والأديب الحق هو الذي يعرف أن مهمة الأدب، مثل مهمة الفلسفة، تغيير المجتمع، بحيث يحمل القارئ على السخط ثم الرغبة في التغيير، والأديب الحق هو الذي يطلب المزيد من الحرية، فهو لذلك لا يمكن أن يكون فاشيا أو يرضى بالحكم العسكري الذي يقيد أو ينقص الحريات، والأديب الحق هو الذي يتأنق ويعين لنا مأربا فنيا في جميع نشاطنا.
وأما رسالته الخاصة، فهي خاصة لأنها تعالج شأنا من شئون مجتمعنا المصري الحاضر، مثل تعجيل التطور الاقتصادي نحو الصناعة، ومثل المساواة بين الجنسين، ومثل التعليم المجاني العام، ومثل التأميم.
وأخيرا، على الأديب أن يذكر أن في العالم العصري فريقين:
فريق الآراء أو العقائد الآفلة:
التي تقول بعجز الإنسان عن محو الفقر وعن التسلط على مستقبله، وهذا الفريق بتشاؤمه يؤمن بأن الطبيعة البشرية سيئة في أصولها وأنها تحتاج إلى القيود والحدود، ولذلك كثيرا ما ينساق إلى الفاشية وإلى القسوة حتى في تربية الصغار أو معاملة المجرمين، وإلى سوء الظن بالمرأة والحد من حريتها، وهذا الفريق يؤمن بالوراثة، وأنها هي العامل الأول في تكوين الإنسان، وفى تغيير كفاياته، وأنها جامدة لا تتغير، وكثيرا ما يرفض التغيير ويخشى المستقبل وينكفئ إلى الماضي لانغماسه في التشاؤم والخوف.
وفريق الآراء أو العقائد البازغة:
التي تقول بالإيمان بالمستقبل والجرأة على إخراج التطور البشري، فضلا عن التطور الحيواني والنباتي من يد الطبيعة إلى يد الإنسان، وهذا الفريق يؤمن بأن الطبيعة البشرية حسنة لا تحتاج إلى القسوة، وهي لدنة تتغير بالوسط الحسن، وأن تراثنا من الطبيعة ليس من الجمود بحيث يمنع التغيير والتطور، وأن موقفنا السياسي هو موقف الحرية والمساواة للمرأة ومحاربة التفريق العنصري، أو الديني، أو الأممي، وتعجيل الاشتراكية البارة.
والأديب المصري البصير يجب أن يقف في صف هذه الآراء البازغة، ويستعجل المستقبل بدلا من أن يتعلق بالماضي، ويدرس المشكلات العصرية باعتقاد القدرة على حلها وليس باعتبار العجز عن فهمها أو أنها ليست من اختصاصه.
صفحة غير معروفة