الشاعر الشهيد الكميت بن زيد الأسدي
( 60 126ه )
من أعلام الشعر في العصر الأموي
يعتبر الكميت بن زيد الأسدي من أوائل شعراء الإسلام الذين جعلوا من الشعر أداة للتعبير عن آرائهم ومواقفهم، وكان لذلك أثره البعيد في تثقيف جمهور الناس الذين استلهموا من هذه الأشعار روح الثورة وفكرة الإصلاح والتغيير.
مولده ونسبه
هو الكميت بن زيد الأسدي، لقبه أبو المستهل، نسبه ينتهي إلى مضر. ولد في الكوفة سنة 60 ه على عهد بني أمية وقضى شطرا من صباه في مسقط رأسه، حيث تغذى فكره بثورة الحسين عليه السلام، وقد عرف عنه في مطلع حياته أنه كان يعلم الصبيان في مسجد الكوفة (1). ثم نبغ في الشعر حتى أضحى من فحول الشعراء في عصره، حيث ارتسمت في قصائده صورة العصر وانعكست في مرآة أدبه حياة المجتمع من الناحيتين الاجتماعية والسياسية.
أخلاقه وصفاته
كان عالما بلغات العرب، خبيرا بأيامها، وكان فيه عشر خصال لم تكن في شاعر: « كان خطيب بني أسد، فقيها، حافظا للقرآن، ثبت الجنان، كاتبا حسن الخط، نشابة جدلا، أول من ناظر في التشيع، راميا لم يكن في بني أسد أرمى منه، فارسا شجاعا، سخيا دينا » (2).
وكان معروفا بموالاته لأهل البيت عليهم السلام مشهورا بذلك، كما تشهد بذلك القصائد الهاشميات، وهي من جيد شعره ومختاره. وكان جريئا، مستبسلا في الدفاع عن عقيدته، حتى ولو كلفته حياته، وقد عانى في سبيل ذلك ألم السجن والتشرد والغربة حتى فاز بالشهادة.
نبوغه في الشعر
منذ مطلع شبابه، أظهر الكيمت ذكاءا نادرا، كما شهد له بذلك الشاعر الفرزدق حين التقاه في الكوفة وعرض عليه بواكير شعره فأثنى عليه وذلك أن الكميت قال له: إني قلت شيئا أحب أن تسمعه مني يا أبا فراس، فقال له: نعم هاته، فأنشده قوله:
طربت وما شوقا إلى البيض أطرب ولا لعبا مني وذو الشوق يلعب!
فقال له: قد طربت إلى شيء ما طرب إليه أحد قبلك.
ولم يلهني دار ولا رسم منزل ولم يتطربني بنان مخضب
قال: ما يطربك يا ابن أخي ؟ قال:
ولا السانحات البارحات عشية أمر سليم القرن أم مر أعضب (3)
فقال: أجل لا تتطير. فقال:
ولكن إلى أهل الفضائل والنهى وخير بني حواء والخير يطلب
قال: من هؤلاء ويحك ؟ فقال:
إلى النفر البيض الذين بحبهم إلى الله فيما نابني أتقرب
بني هاشم رهط النبي محمد بهم ولهم أرضى مرارا وأغضب
خفضت لهم مني جناحي مودة إلى كنف عطفاه أهل ومرحب
وكنت لهم من هؤلاء وهؤلا مجنا على أني أذم وأقصب
وأرمى وأرمي بالعداوة أهلها وإني لأوذى فيهم وأؤنب
فأعجب عند ذلك الفرزدق بشاعرية الكميت قائلا: أذع، أذع شعرك، فأنت أشعر من مضى ومن بقي (4).
موقفه من الأمويين
كانت ثورة زيد بن علي بن الحسين عليه السلام حافزا كبيرا لتدفق شاعرية الكميت، فهو قد نظم لاميته المشهورة مؤيدا لتلك الثورة هاجيا حكام عصره منددا بمساوئهم، كاشفا لعيوبهم، يقول فيها:
ألا هل عم في رأيه متأمل وهل مدبر بعد الإشاعة مقبل
وهل أمة مستيقظون لرشدهم فيكشف عنه النعسة المتزمل
لقد طال ضد النوم واستخرج الكرى مساوئهم لو أن ذا الميل يعدل
أرانا على حب الحياة وطولها يجد بنا في كل يوم ونهزل
رضينا بدنيا لا نريد فراقها على أننا فيها نموت ونقتل
فتلك ملوك السوء قد طال ملكهم فحتام حتام العناء المطول
وما ضرب الأمثال في الجور قبلنا لأجور من حكامنا المتمثل (5)
فلما بلغت هذه الأبيات مسامع خالد بن عبدالله القسري، وكان واليا على العراق من قبل هشام بن عبدالملك، وكان هذا الوالي حاقدا على الكميت، عمد إلى جوار حسان من وجوه الكمال والأدب، فرواهن هذه القصائد، وأرسل بهن إلى هشام بن عبدالملك، فاستنشدهن الشعر، فأنشدنه الهاشميات، فغضب واشتد غيظه واستنكر ذلك. وأرسل إلى خالد يأمره بأن يحضر الكميت ويقطع لسانه ويده. فلم يشعر الكميت إلا والخيل محدقة بداره، فأخذ إلى السجن، ولكنه استطاع الإفلات منه بأعجوبة، وذلك أنه بعث إلى زوجته واسمها حبي وكانت تحمل عاطفة الولاء لبني هاشم، فزارته في سجنه وألبسته ثيابها وتنقب بناقبها، وخرج حرا طليقا، وقد أبصره بعض الفتيه لدى خروجه فقال متفرسا: ما ننكر من هذه المرأة إلا يبسا في كتفيها، ولكن لم يفطن إليه، وتابع الكميت سيره منشدا:
خرجت خروج القدح قدح ابن مقبل على الرغم من تلك النوابح والمشلي
علي ثياب الغانيات وتحتها عزيمة امرئ الوالي أشبهت سلة النصل
فعمد الوالي إلى زوجة الكميت ليعاقبها، عند ذلك تدخل قومها من بني أسد قائلين للوالي: ما سبيلك على امرأة حرة فدت بعلها بنفسها، فخشي من سوء العاقبة، وخلى سبيلها (6).
وكم من مرة تعرض لهجاء حكام عصره، في سياق مديحه للهاشميين، كما فعل في الميمية المشهورة:
بل هواي الذي أجن وأبدي لبني هاشم فروع الأنام
الغيوث الليوث إن أمحل الناس فمأوى حواضن الأيتام
ساسة لا كمن يرى رعية الناس سواء ورعية الأنعام
لا كعبد المليك أو كوليد أو سليمان بعد أو كهشام
من يمت لا يمت فقيرا ومن يحيى فلا ذو إل ولا ذو ذمام (7)
وقد جرت عليه هذه القصيدة عتابا ووعيدا من هشام الذي أحضره إليه واستجوبه عن الأبيات السالفة، وهنا اضطر الكميت خوفا من القتل صبرا وهو لا يجدي العمل الرسالي الذي نذر الكميت نفسه من أجله، لذلك فقد اصطنع شيئا من المديح الكاذب وبعد أن أجاز له أحد الأئمة ذلك، قائلا له: إن التقية لتحل حفظا للنفس، وصونا لها من الهلاك في غير موضع مناسب، من ذلك في مثل قوله:
والآن صرت إلى أمية والأمور إلى المصاير
وقد ظن بعض الباحثين ان الكميت قد خالف نهجه الأول، ولكن الحقيقة أن الكميت قد اشترى حياته ولو إلى حين بهذه الأبيات اليسيرة. وهو الذي قال فيهم من قبل أقذع الهجاء وأمره:
فقل لبني أمية حيث حلوا وإن خفت المهند والقطيعا (Cool
أجاع الله من أشبعتموه وأشبع من بجوركم أجيعا
بمرضي السياسة هاشمي يكون حيا لأمته ربيعا (9)
موقفه مع أئمة أهل البيت
ولقد كان الكميت متفانيا في حب النبي وآله الطاهرين فمن شعره في رسول الله صلى الله عليه وآله قوله:
بك اجتمعت أنسابنا بعد فرقة فنحن بنو الإسلام ندعى وننسب
حياتك كانت مجدنا وسناءنا وموتك جدع للعرانين مرعب (10)
فبوركت مولودا وبوركت ناشئا وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب
وبورك قبر أنت فيه وبوركت به وله أهل بذلك يثرب
لقد غيبوا برا وصدقا ونائلا عشية واراك الصفيح المنصب (11)
وقال مادحا أمير المؤمنين عليا عليه السلام ومشيرا إلى أثر فقده في الأمة:
فنعم طبيب الناس من أمر أمة تواكلها ذو الطب والمتطبب
ونعم ولي الأمر بعد وليه ومنتجع التقوى ونعم المؤدب
له سترتا بسط فكف بهذه بكف وبالأخرى العوالي تخضب
محاسن من دنيا ودين كأنما بها حلقت بالأمس عنقاء معرب (12)
قد روي أنه دخل على أبي عبدالله الصادق عليه السلام في أيام التشريق، فقال له الكميت: جعلت فداك، ألا أنشدك، قال: إنها أيام عظام، قال: إنها فيكم. فقال: هات، وبعث أبو عبدالله إلى بعض أهله فقرب، وأنشد فكثر البكاء حينما وصل إلى هذا البيت:
يصيب به الرامون عن قوس غيرهم فيا آخرا أسدى له الغي أول
فرفع أبو عبدالله عليه السلام يديه وقال: اللهم اغفر للكميت ما قدم وأخر، وما أسر وأعلن (13).
وقد دخل قبل ذلك على الإمام أبي جعفر محمد الباقر عليه السلام فأنشده:
من لقلب متيم مستهام غير ما صبوة ولا أحلام
فاستغفر له، ودفع إليه ألف دينار وكسوة. فقال الكميت: والله ما أحببتكم للدنيا، ولكن أحببتكم للآخرة، فأما الثياب التي أصابت أجسادكم، فأنا آخذها لبركتها. وأما المال فرده وقبل الثباب، وقد أكرمته فاطمة بنت الحسين حينما عرفته مقدمة إليه سويقا فشربه وهي تقول: هذا شاعرنا أهل البيت.
أقوال العلماء فيه
سئل معاذ الهراء: من أشعر الناس ؟ قال: أمن الجاهليين ؟ أم من الإسلاميين ؟ قالوا: بل من الجاهليين. قال: امرؤ القيس، وزهير، وعبيد بن الأبرص. قالوا: فمن الإسلاميين ؟ قال: الفرزدق، وجرير، والأخطل، والراعي. فقيل له: ما رأيناك ذكرت الكميت فيمن ذكرت ؟ قال: ذاك أشعر الأولين والآخرين.
ويقول عبدالحسين الأميني في غديره عن الكميت، محللا مواقفه النبيلة: وللكميت في رده الصلات الطايلة على سروات المجد من بني هاشم تكرمة ومحمدة عظيمة أبقت له ذكرى خالدة. وكل من تلكم المواقف شاهد صدق على خالص ولائه وقوة إيمانه، وصفاء نيته وحسن عقيدته ورسوخ دينه وإباء نفسه وعلو همته، وثباته في مبدئه المقدس. وصدق مقاله للإمام السجاد عليه السلام: إني قد مدحتك أن يكون لي وسيلة عند رسول الله.
وكان محل احترام وتبجيل أئمة الدين ورجالات بني هاشم، وكان في رده للصلات والأعطيات أكبر دليل على إخلاصه وولائه، فرد على عبدالله بن الحسن ضيعته التي أعطى له كتابها وكانت تساوي أربعة آلاف دينار.
ثم يضيف العلامة الأميني في تقريظه للكميت قائلا: والواقف على شعره يراه كالباحث عن حتفه بظلفه، ويجده مستفتلا بلسانه، قد عرض لبني أمية دمه مستقبلا صوارمهم، كما نص عليه الإمام زين العابدين عليه السلام: اللهم إن الكميت جاد في آل رسولك وذرية نبيك نفسه حتى ضن الناس وأظهر ما كتم غيره (14).
وفاته
حينما ثار زيد بن علي عليه السلام على هشام، وقف الكميت يؤيد ويدعو للمشاركة في الثورة على حكم بني مروان، مما أثار عليه حكام عصره، فتعرض للأذى مرارا، وسجن، وتشرد كما يشير إلى ذلك في إحدى هاشمياته:
ألم ترني من حب آل محمد أروح وأغدو خائفا أترقب
كأني جان أو محدث أو كأنما بهم أتقى من خشية العار أجرب
وتقضي المقادير أن تفشل ثورة زيد، ويقتل على يدي يوسف بن عمر الثقفي والي العراق، ويصلب في الكناسة، فيحزن عليه الإمام الباقر عليه السلام ومحبوه، وينبري الكميت لهجاء يوسف الثقفي لما فعله بزيد:
يعز على أحمد للذي أصاب ابنه الأمس من يوسف
خبيث من المعشر الأخبثين وإن قلت زانين لم أقذف
ومضت الأيام، وإذ بالكميت في مجلس يوسف بعيد قتله خالدا القسري الوالي السابق، وكان جنود من اليمانية وقوفا على رأس يوسف، وكان يتحين فرصة للتخلص من الكميت، فأشار إليهم أن يضعوا سيوفهم في بطنه، ففعلوا ووجأوه فمات لساعته بعد نزف شديد (15).
يقول المستهل بن الكميت: حضرت أبي عند الموت وهو يجود بنفسه فكان يفتح عينيه قائلا: « اللهم آل محمد، اللهم آل محمد، اللهم آل محمد » (16) ومات شهيدا رضوان الله عليه مدافعا عن حق أهل البيت عليهم السلام بمنتهى الجرأة والبسالة، باذلا مهجته في سبيل الحق، رافعا لواء الالتزام في الموقف والشعر. فرحمة الله عليه شاعرا شهيدا.
صفحة ١١٤