مقالة الاسكندر الأفروديسى فى الاستطاعة، نقل أبى عثمان بن يعقوب الدمشقى
قال الاسكندر ان الانسان أكرم الأشياء التى تكونها وتقومها العناية الالهية الموجودة فى الجسم المكون من قبل مجاورته للجسم الالهى التى نسميها الطبيعة؛ فان الانسان من بين سائر الأشياء التى فى الكون شارك هذا الجسم فى القوة التى هى أكمل قوى النفس، وهى العقل، وهو وحده له نفس ناطقة بها يمكنا أن نروى ونبحث عن الأمور التى يجب فعلها أولا يجب، وليس هو شبيها بسائر الحيوانات الأخر التى نسميها غير ناطقة من قبل أنها غير مشاركة فى هذه القوة ومتبعة لما يعرض لها من التخيل، منقاده له، فاعلة لكل ما تفعله بغير بحث.
وذلك أن الانسان وحده من سائر الحيوانات يمكنه بعد التخيل الذى يلقاه أن يبحث عن جميع ما يجب أن يفعل ويروى فيه وينظران كان ينبغى أن ينقاد لما يتخيل أولا. واذا كان روى فيه وأبث الحكم، عزم عند ذلك على أن يفعل أى الأمرين وافق عليه من الروية أولا يفعله.
صفحة ١٩٣
ولهذا صار الانسان من بين الحيوان كله له سلطان واستطاعة على أن يفعل شيئا واحدا بعينه وأن لا يفعله. وذلك أن اختيارات الأشياء التى يجب أن تفعل اليه، ان كانت الروية والعزم اليه، من قبل 〈أن〉 استطاعته مبدأ وسبب فاعل للأشياء التى نقول ان فعلها اليه. والاستطاعة انما توجد فى الأشياء التى فيها توجد الروية.
صفحة ١٩٥
فلسنا نستعملها فيما قد كان وفرغ ولا فيما هو موجود، لاكن فيما سيكون وفيما يمكن أن يكون 〈وأن لا يكون〉 وفى الأشياء التى سببها الفكرة. فان هذه هى الأشياء التى يتهيأ لنا أن نفعلها وأن لا نفعلها. وفى هذه اذن توجد الاستطاعة، والانسان هو مبدأ وسبب الأشياء التى يفعلها، وهذا أمر قد خصت〈ه〉 به الطبيعة دون سائر الأشياء المكونة منها، وذلك 〈أنه〉 صار وحده ناطقا بالطبع مرويا. فان النطق انما وجوده فى هذا المعنى. وان كان السبب مبدأ للأمور التى هو لها سبب وكان الانسان مبدأ لأفعاله، وهو اذن سبب لها. و〈ان كان〉 من المنكر أن 〈يطلب〉 لمبدأ مبدأ طلبا دائما (لأن الشىء الذى له مبدأ ما ليس هو مبدأ على الأطلاق) وليس يوجد الأختيار والرؤية وما جرى هذا المجرى فى طبيعة الانسان سبب آخر فاعل متقدم لها فى الوجود (لأن الأمران لم يكن هكذا، لم يكن الانسان مبدأ)، لاكنه هو سبب لأفعاله 〈والعزيمة والاختيار والسبب الفاعل لهذين〉، فأما هذه فليس لها سبب آخر.
وذلك أن هذه ان كانت مبدأ وليس يو〈جد〉 مبدأ وسبب للمبدأ الذى يقال له مبدأ على الحقيقة (لأن الانسان لوجوده وكونه مبدأ، فأما لأن يختار هذه الأشياء أو هذه فلا، لأن هذا هو 〈له〉 معنى أن له فى نفسه قوة لهذه الحال)، 〈فان الانسان سلطان واستطاعة على أفعاله اليه〉
و〈كيف يكون منفعة ما فى الرؤية، ان كانت لنا الأسباب متقد〉مة لأفعالنا؟ وكيف يكون الانسان أجل وأكرم من سائر الحيوان، اذ ظهر أن دون 〈منفعة الرؤية؟ فأما ان لم يكن لنا استطاعة على〉 أن نفضل من الرؤية وأن نختار ما نفضله، فلا منفعة فيها.
صفحة ١٩٧
وذلك أن القول بأن 〈التخيل سبب للرؤية فيما يتخيل لي〉س 〈من ال〉منكر، فأما القول بأن السبب فى أن نفعل هذا الشىء ليس هو الروية 〈لاكن التخيل فهو ابطال〉 الرؤية التى يجب أن تكون موجودة حتى يكون التخيل سبب لها. ف〈ان〉 يجب أن يكون الشىء المتخيل سببا للرؤية والروية سببا للعزيمة والعزيمة سببا للقفز والقفز سببا للأفعال، فليس هو فى هذه شىء بلا سبب.
وكما أن الروية ستدلنا الى الأشياء التى فعلها الينا، كذلك نحن واختيارنا سبب للندامة على فعل بعض ما نفعله؛ وهذا السبب شاهد على أن فينا سببا للامساك عن فعل ما قد فعلناه، وطلبنا لسبب آخر لما نعزم عليه من الروية مبطل للروية. وذلك أن الأفضل أن تكون الروية انما توجد فى قدرتنا على أن نعزم ونختار المتخيل منها. فالذى يرفع هذا الشىء من الروية فانما سلم اسمها فقط.
صفحة ١٩٩
لأن القول بأن الأمور التى تحيط بنا من الخارج، اذا كانت كلها متشابهة، فليس نخلو من أحد أمرين، اما أن نختار ما تدعونا اليه تلك الأمور بأعيانها أو 〈أن〉 يكون فعل ما يفعل بلا سبب، غير واجب، اذ كان كون شىء من الأشياء بلا سبب ممتنع؛ وكان القول بأنه اذا كانت الأمور التى تحيط بنا من خارج متشابهة، كان اختيارنا لما تدعونا اليه تلك الأمور بأعيانها يبين [أن] القول بأن الأمور التى من خارج أسباب بالحقيقة لأفعالنا ليس صحيح.
وذلك أنه 〈ليس〉 من الضرورة، اذا كانت الأمور التى من خارج كلها متفقة، 〈أن〉 يختار الانسان أبدا أشياء متفقة، ولا يكون الفعل بلا سبب. وذلك أن الانسان اذا كان فيه سبب هذا الفعل، أعنى الاقتدار على أن يروى فى الأشياء 〈التى تحيط به من خارج〉، ففيه الاقتدار على أن لا يختار من أشياء متشابهة 〈أشياء متشابهة〉. وهذا الذى يقوله ليس أنه يضعه وضعا بغير قياس، ولا هو مصادرة يصادر عليها.
صفحة ٢٠١
وذلك أنه لو كان غرض الانسان 〈واحدا〉 هو الذى اليه يقرن بعزيمته، فقد كان من الواجب أن يكون مختار أبدا من أشياء واحدة بأعيناها شيئا واحدا بعينه، اذ كانت حاله 〈حالا واحدة〉 بعينها وكان حافظا لفرضه المقصود الذى بحسبه كانت تكون عزيمته. ولأن الغايات التى بحسبها تكون العزيمة واختيار الأشياء التى 〈يجب أن〉 تفعل كثيرة (وذلك أن اللذيذ والنافع والجميل نصب أعياننا) وهذه بعضها يخالف بعضا وليس تلك الأشياء التى تحط بنا حالها حال متشابهة، صار الانسان فى كل واحد من هذه، اذا عزم واختار مرة بحسب الشىء اللذيذ ومرة بحسب الجميل وأخرى بحسب النافع، فليس بفعل أبدا أشياء بأعيانها ولا يختار أبدا أشياء بأعيانها، اذ كانت الأمور التى من خارج واحدة بأعيانها، ولاكن 〈التى〉 قد يظن بها أنها فى كل وقت تعين معونه كبيرة على الغرض المقصود.
وقد يتحلل بما قلناه القول الذى يجعل التخيل سببا للأفعال، لأنه ليس من أحد أن يفعل شيئا وفى وقت من الأوقات بخلاف ما يتخيله أنه أفضل. فان الأغراض التى بحسبها تكون العزيمة من التخيل كثيرة؛ ولا أيضا، ان كان الانسان يختار أشياء متشابهة، اذ كانت الأمور التى من خارج متشابهة، يلزمه أن يكون يختار أشياء بأعيانها اضطرارا وأن تكون الأشياء التى من خارج أسبابا للعزيمة؛ لأنه قد يمكن[ه] أن يرى فى واحد واحد من الاختيارات قبل اختياره لشىء من الأشياء يقدر أن يختار خلافه؛ واذا أمكنه أن يختار الشىء وخلافه، فقد يختار ما يظن به أنه أولى.
صفحة ٢٠٣
وقد يمكنه، اذا أراد فى وقت من الأوقات أن يرى أن اختياره ليس هو اضطرارا أو ماحك، أن يختار ما لا يظن به أنه أولى. وأيضا أن لم نكن أبدا متشابهين فى السجية التى بها نروى، لم نختار أبدا أشياء بأعيانها، وان كانت الأمور المحيطة بنا متشابهة. واذا لم يكن اختيارنا بأشياء متشابهة، اذا كانت الأمور المحيطة بنا متشابهة، ونحن غير متشابهين 〈ولا〉 واحد بعيننا، فمن البين أن الأمور المحيطة بنا المتشابهة ليست أسباب اختيار الأشياء المتشابهة، لاكن الشىء، أقول الانسان الذى أحاطت به، اذ كانت متشابها 〈لنفسه〉.
و〈أما〉 بالجملة فان التماس النفس بالحجة أن لنا استطاعة، وهو على مثل ما هو عليه من الظهور، هو فعل من لا يحسن التمييز بين ما هو معروف وبين ما ليس هو معروف؛ وهذا المعنى، كما قلنا، يتبين من أشياء كثيرة، من الرؤية ومن الندامة ومن المشاورة لمن يفهم الأمور ومن الحكم ومن الصد عن الشىء 〈و〉من المديح ومن الذم ومن الاكرام 〈ومن العقاب〉 ومن التعليم ومن الأمر ومن التكهين ومن الدعاء ومن التعويد 〈ومن التشريع〉.
صفحة ٢٠٥
〈وبالجملة فان〉 هذه الأمور كلها وما جرى | مجراها، لما كان الانسان 〈حياته كلها تستعملها〉، كانت تشهد بأنه ليس شىء من الأشياء أخص من الانسان من بين سائر الحيوانات من الاستطاعة. والأمر فى أن العادة، ان كانت مبدأ لنا لنكون بها على حال 〈ما〉، وكنا نختار بها اختيارات مختلفة، فمن البين أنا بالعادات نصير بحال ما وأكثر العادات 〈تكون الينا〉. وذلك أنه وان اعتاد الانسان فى أول أمره، وهو بعد صبى، عادات رديئة، فان الناس بأجمعهم، اذا كملوا فى السن، نظروا بطبعهم 〈الجميل〉.
فانه ليس يوجد أحد، وهو على الحال الطبيعية، لا يفهم ما الأمور المتسوية الى العدل وما المستوية الى الجور وما الأمور الجميلة وما القبيحة. ولا يذهب عن أحد أيضا 〈أنه〉 من الاعتياد يصير قوم مختارين وفاعلين اما للأمور الجميلة 〈أ〉و القبيحة. وذلك أن الذين يريدون أن يتعلموا شيئا ويتدربوا به انما يفعلون غرضهم فيه بالعادات لمعرفتهم لقوة العادات بمنال ما قصدوا اليه.
صفحة ٢٠٧
فانه ليس يخفى على أحد أنه استعمال الأمور المنسوبة الى العفة يظفر العفة. وان كان الطريق المؤدى الى الخير والشر لمن كان من الناس على الحال الطبيعية ولم ينظر بعد خيرا ولا شرا معروفا فعنده واليه أن يسلكه، فلنا اذن أن نصير بالعادة على حال من الأحوال وأن نقتنى الملكات التى بها نختار شيئا دون شىء 〈وتفعله〉.
والذكاء والبلادة، ما دام الانسان على الطبيعة التى تخصه فانهما يسهلان عليه أو يعسران نبيل ذلك 〈الأمر الذى على قبوله يكون مطبوعا بذكائه وبلادته〉. وذلك أن كل الناس الذين هم على الحال الطبيعية متبرئون عن الاختيار والعزيمة قد يمكنهم أن يقتنوا الفضيلة بأنفسهم. وذلك صار 〈كثيرا ما ناس يكونون أسوأ طبعا، لأن〉 كثيرا من الناس يكونون مطبوعين على قبول الفضيلة، فاذا عاشورا أهل الفضيلة، صاروا أفضل وما كانوا أشدهم تكامل أهل الطبيعة بالاختيار منهم.
تمت مقالة الاسكندر الأفروديسى فى الاستطاعة.
صفحة ٢٠٩