كيف كان يمكن تدبير الحياة داخل الأحراش البعيدة عن البلدات، على حافة المزارع؟
حتى هنا، حيث كان الرجال والنساء في أغلب الأحيان يرضون بما يقسم لهم أيا كان، تمكن بعض الرجال من تدبير الحياة وإدارتها. حتى في هذه القرية المستأنسة كان هناك بعض الزاهدين، بعض الرجال الذين ورثوا مزارع ولم يبقوا عليها، أو كانوا مجرد واضعي يد جاءوا من أماكن لا يعلمها إلا الرب. كانوا يصيدون الأسماك والحيوانات ويرتحلون، وكانوا يرحلون ثم يعودون، أو يرحلون بلا عودة؛ على عكس المزارعين الذين كانوا كلما غادروا مواضعهم ذهبوا في عربات ذات خيول أو زلاجات أو بالسيارة كما هو سائد الآن، للقيام بمهام معينة في وجهات محددة.
كان يتكسب من عمليات الصيد بالشراك التي يقوم بها؛ إذ كان من الممكن لبعض جلود الحيوانات التي يصطادها أن تجلب له ما يعادل أجر عمل لمدة أسبوعين في مجموعة لدرس الحنطة. ومن ثم لم يكن بإمكان من في المنزل إبداء أي تذمر مما كان يفعله؛ فقد كان يدفع نفقات إقامته، وكان يساعد والده حين كانت تستدعي الضرورة. لم يكن هو ووالده يتحدثان معا قط؛ فقد كان من الممكن أن يعملا طوال الصباح في قطع الأخشاب في الأحراش دون أن ينبسا بكلمة، إلا حين يضطران للحديث عن العمل. لم يكن لوالده اهتمام بالأحراش إلا بوصفها منطقة للأشجار . كانت بالنسبة إليه أشبه بحقل من الشوفان مع فارق أن المحصول كان حطبا.
كانت والدته أكثر فضولا. كانت تسير نحو الأحراش في عصر أيام الأحد، وكانت امرأة طويلة ذات قامة منتصبة ومهيبة الطلة، ولكن كانت لها مشية ذات خطى واسعة تشبه مشية الصبية؛ حيث كانت تلملم تنورتها وتحرك قدميها بخبرة وتمكن فوق الأسوار. وكانت خبيرة بالأزهار البرية وثمار التوت، كما كان بإمكانها أن تخبرك باسم أي طائر من تغريده.
أطلعها على شراكه حيث كان يصيد الأسماك، وانزعجت لهذا الأمر؛ لأنه كان من الممكن أن يوافق وقوع الأسماك في الشراك يوم الأحد، وهذا أمر مكروه دينيا؛ فقد كانت غاية في الصرامة بشأن جميع القواعد والالتزامات الدينية الخاصة بالكنيسة المشيخية. وقد كان لهذه الصرامة قصة غريبة؛ لم تكن تنشئتها مشيخية على الإطلاق، بل عاشت طفولة وصبا تملؤهما السعادة وعدم التشدد كأحد رعايا الكنيسة الأنجليكانية، والمعروفة أيضا باسم كنيسة إنجلترا. لم يكن ثمة الكثير من الأنجليكانيين في ذلك الجزء من البلاد، وأحيانا ما كانوا يعتبرون أقرب إلى الرومان الكاثوليك، وأقرب أيضا للملحدين. فقد كانت عقيدتهم الدينية غالبا ما تبدو في مجملها للآخرين عبارة عن مجموعة من الانحناءات والردود، تتخللها عظات قصيرة، وتفسيرات سهلة، وقساوسة دنيويين، والكثير من الأبهة والعبث. كانت عقيدة تروق لوالدها، الذي كان أيرلنديا محبا للصحبة، وقاصا، وشاربا للخمر. ولكن حين تزوجت جدتي أغرقت نفسها في عقيدة زوجها المشيخية، وأصبحت أكثر تشددا من الكثيرين ممن نشئوا فيها. لقد كانت أنجليكية المولد، خاضت سباق الاستقامة للعقيدة المشيخية مثلما ولدت متشبهة بالصبية، وخاضت سباق ربة المنزل الريفية، بكل طاقتها. ربما تساءل الناس هل فعلت هذا بدافع الحب؟
لم يكن أبي وهؤلاء الذين كانوا يعرفونها جيدا يعتقدون ذلك. فلم يكن ثمة توافق بينها وبين جدي على الرغم من أنهما لم يكونا يتشاجران. فقد كان هو متأملا صامتا، وكانت هي مفعمة بالحيوية واجتماعية. كلا، لم يكن ما فعلته من أجل الحب، بل من أجل الكبرياء؛ لكيلا تكون في موقف المهزوم أو تنتقد على أي نحو ، ولكيلا تدع أحدا يقول إنها قد ندمت على قرار اتخذته، أو أرادت أي شيء لم تستطع نيله.
بقيت على صداقتها مع ولدها على الرغم من مشكلة أسماك الأحد التي لم تكن تطهوها. كانت مهتمة بجلود الحيوانات التي كان يريها إياها، وكانت تسمع عن قدر ما يحصل عليه من مال مقابلها. كانت تغسل ملابسه ذات الرائحة الكريهة، التي كان مصدرها طعم الأسماك الذي كان يحمله، وأيضا الأحشاء والفراء. من الممكن أن تكون ناقمة على ذلك، ولكنها كانت متسامحة معه كما لو كان ابنا أصغر سنا بكثير مما هو عليه. وربما كان بالفعل يبدو أصغر في عينيها، بأشراكه وجولاته عبر الجدول المائي، وانطوائه؛ فلم يكن أبدا يسعى وراء الفتيات، وفقد تدريجيا الاتصال بأصدقاء الطفولة الذين كانوا يفعلون ذلك. وهي لم تكترث لذلك. ربما يكون سلوكه قد ساعدها على تحمل خيبة الأمل التي شعرت بها بسبب عدم استمراره في المدرسة، وكونه لن يصبح طبيبا أو قسا. ربما كان بمقدورها أن تتظاهر بأنه ما زال يمكنه أن يفعل ذلك، وأن الخطط القديمة - التي وضعتها من أجله - لم تنس، ولكن أرجئت فقط. على الأقل لم يتحول إلى مجرد مزارع صامت، ولم يصبح نسخة من والده.
أما من جهة جدي، فلم يدل بأي رأي، ولم يقل إن كان موافقا أو رافضا. فقد كان له طبع يقوم على الانضباط والصمت. لقد ولد في موريس واستقر فيها ليصبح مزارعا، وكان عضوا في حزب الأحرار الكندي وأحد أتباع الكنيسة المشيخية. ولد معارضا لكنيسة إنجلترا، ومجموعة ميثاق العائلة، والأسقف سترون والحانات، ومؤيدا للحق العام في الانتخاب (ولكن ليس للنساء)، والمدارس المجانية، والحكومة المسئولة، وجماعة تحالف يوم الرب. ولد ليعيش وفقا لنظم قاسية وكيانات رافضة.
انحرف جدي بعض الشيء؛ فقد تعلم العزف على الكمان، وتزوج من الفتاة الطويلة القامة، المتقلبة المزاج، الأيرلندية ذات العينين المختلفتين في اللون. وبعد أن فعل ذلك، انسحب من الحياة، وظل لما تبقى من حياته مخلصا ومنظما وهادئا. وكان هو الآخر محبا للقراءة. فكان في الشتاء ينتهي من أداء جميع أعماله - على النحو الأمثل - ثم يعمد للقراءة. لم يكن يتحدث قط عما كان يقرؤه، ولكن كان كل من حوله يعرفون ذلك. ولقد كانوا يحترمونه ويوقرونه لذلك. وهذا أمر غريب؛ إذ كانت هناك امرأة تحب القراءة أيضا، وكانت تستعير كتبا من المكتبة طوال الوقت، ولم يكن أحد يكن لها أدنى قدر من الاحترام؛ فقد كان الحديث دائما يدور حول كم الغبار المتراكم تحت أسرتها، وعن تناول زوجها للعشاء باردا. ربما كان ذلك لأنها كانت تقرأ الروايات والقصص، فيما كانت الكتب التي يقرؤها جدي كبيرة ورصينة. كانت كذلك، حسبما كان يتذكر الجميع، ولكن لم يكن أحد يتذكر عناوينها. كان يستعير الكتب من المكتبة، التي كانت في ذلك الوقت تضم مؤلفات بلاكستون، وماكولي، وكارلايل، ولوك، وكتاب هيوم «تاريخ إنجلترا». وماذا عن كتاب «بحث في الفهم الإنساني»؟ وماذا عن فولتير؟ كارل ماركس؟ من الممكن أن يكون قد قرأ لهؤلاء.
والآن، ترى لو كانت السيدة التي تتراكم كتل الغبار تحت أسرتها تقرأ تلك الكتب الرصينة، فهل كانت ستنال احترام الناس؟ لا أظن ذلك. لقد كانت النساء هن من قيمنها، وأحكام النساء على النساء كانت أكثر قسوة من أحكام الرجال على النساء. كذلك لا بد من تذكر أن جدي كان ينتهي من أداء عمله أولا؛ فكانت أكداس الخشب لديه منظمة وإسطبله منسقا، فلم تؤثر القراءة على سلوكه على أي نحو.
صفحة غير معروفة