قال والتر، الذي ما زال يحافظ على حالته المزاجية المازحة من أي شيء: «إذن، حسنا فعلت أن أحضرت قطع الكعك معي.» نقر بإحدى قدميه على الصندوق المعدني الصغير والمرتب والمملوء بكعك الشوفان الذي أعطته إياه عماته باعتباره هدية خاصة؛ لأنه كان الابن الأصغر، ولأنهن كن لا يزلن ينظرن إليه على أنه يتيم الأم.
قالت أجنيس: «ستدرك معنى السعادة عندما نتضور جوعا.» كان والتر كالبلاء بالنسبة لها، شأنه في ذلك شأنه الرجل العجوز. كانت تعرف أنه على الأرجح لا يوجد أي احتمال بأن يتضوروا جوعا؛ لأن أندرو كان يبدو ضجرا فقط وليس قلقا. وبطبيعة الحال كان من الصعب أن يتسلل القلق إلى أندرو بسهولة. وبدا أنه كان غير قلق عليها؛ لأنه فكر أول ما فكر في أن يوفر مقعدا مريحا لوالده. •••
عادت ماري بجيمس الابن مرة أخرى إلى سطح السفينة؛ إذ استشفت أن الخوف قد انتابه في هذا المكان شبه المظلم بأسفل. فلم يكن ينبغي له أن يتذمر أو يشكو؛ فهي كانت تدرك مشاعره من طريقة دفع ركبتيه الصغيرتين في خصرها.
تم لف أشرعة السفينة بإحكام. قالت ماري وهي تشير إلى أحد البحارة بأعلى السفينة وهو مشغول بتجهيز السفينة وربط الصواري والقلوع: «انظر إلى أعلى، انظر إلى أعلى.» وأصدر الطفل الذي كان محمولا على خصرها صوتا أشبه بصوت طائر. قالت: «البحار-صو صو، البحار-صو صو.» قالت المسمى الصحيح لوظيفة هذا الرجل، وهي بحار، ولكنها استخدمت كلمته هو التي كان يعبر بها عن الطائر. لقد كانت تتواصل معه بلغة نصفها من اللغة العادية ونصفها الآخر من ابتكاره هو. كانت تعتقد أنه أحد أمهر الأطفال الذين ولدوا في العالم بأسره. ولأنها كانت أكبر الأبناء سنا في عائلتها، ولأنها كانت الفتاة الوحيدة بينهم؛ فقد كانت تعتني بكل إخوتها وترعاهم، وكانت فخورة بهم جميعا في السابق، لكنها لم تر طفلا كهذا الطفل. لا أحد غيرها كان يعرف مدى براعته واستقلاليته وذكائه؛ فالرجال لا يهتمون كثيرا بالأطفال في هذه السن الصغيرة، وأمه أجنيس لا صبر لها معه.
كانت أجنيس تقول له: «تحدث كما يتحدث البشر!» وإن لم يفعل ذلك، كانت تضربه. وكانت تقول له: «ماذا أنت؟ هل أنت من البشر أم من العفاريت؟»
كانت ماري تخشى من طبع أجنيس، ولكنها نوعا ما كانت لا تلومها على ذلك؛ إذ كانت تظن أن النساء اللائي مثل أجنيس - سواء كن زوجات أم أمهات - يعشن حياة عصيبة؛ أولا، فيما يتعلق بما يفعله الأزواج معهن - حتى وإن كانوا في مثل طيبة أندرو - وثانيا، بما يجدن من الأطفال عند ولادتهم. لم تكن لتنسى أمها التي لازمت الفراش وفقدت عقلها من الحمى، ولم تستطع التعرف على أي منهم حتى أتاها الموت بعد ثلاثة أيام من ولادة والتر. وكانت تصرخ خوفا من الإناء الأسود المعلق فوق المدفأة؛ لأنها كانت تظن أنه مليء بالشياطين.
يطلق إخوة ماري عليها «ماري المسكينة». وفي واقع الأمر، أدى خنوع الكثير من النساء وضعفهن في عائلتهم إلى إلحاق هذه الكلمة بأسمائهن التي أعطين إياها عند تعميدهن؛ وهي الأسماء التي غيرت إلى أسماء أقل قبولا واحتراما. فصار اسم إيزابيل تيبي المسكينة، ومارجريت ماجي المسكينة، وجين جيني المسكينة. وكان الناس في إتريك يعتقدون أن جمال المظهر وطول القامة أمران يخصان الرجال فقط.
تبلغ ماري من الطول أقل من خمس أقدام، ولها وجه مشدود قليلا، وذقن ناتئ، وجلد معرض دوما للإصابة بحالات طفح التهابي لا يزول إلا بعد مرور فترة طويلة. عندما يتحدث إليها أحد، يجد فمها ينتفض كما لو أن الكلمات امتزجت كلها بلعابها وأسنانها الصغيرة المعوجة، ويكون ردها عبارة عن كلام مختلط بالرذاذ، وكانت نبرة صوتها منخفضة وكلماتها متلعثمة جدا حتى يصعب على الآخرين ألا يظنوا أنها متأخرة عقليا. كما كانت تعاني من صعوبة بالغة في النظر إلى وجوه الآخرين أثناء الحديث معهم، حتى مع أفراد عائلتها. وكانت لا تقدر على أن تتحدث حديثا متسقا وواضحا على نحو ما إلا عندما ترفع الولد الصغير إلى أعلى خصرها النحيف، وعندها يكون معظم كلامها موجها إليه.
ها هو شخص ما يقول شيئا لها. إنه شخص يكاد يشبهها في النحافة ؛ رجل أسمر ضئيل الجسم، إنه أحد البحارة، له شارب رمادي اللون، وليس له أي أسنان. كان ينظر إليها نظرة مباشرة، ثم ينظر إلى جيمس الابن، ثم يعود وينظر إليها مرة أخرى، وذلك في وسط هذا الحشد المتدافع أو المتسكع أو الحائر أو المتسائل. ظنت في بداية الأمر أن الرجل كان يتحدث لغة أجنبية، ثم ما لبثت أن التقطت كلمة
cu (بقرة). وقد وجدت نفسها ترد بنفس الكلمة، وضحك الرجل ولوح بذراعيه مشيرا إلى مكان بعيد بمؤخرة السفينة، ثم أشار مرة أخرى إلى جيمس وهو يضحك أيضا. لا بد أن هناك شيئا ما يجب أن تأخذ جيمس حتى يراه. وكان عليها أن تقول: «حسنا، حسنا» حتى توقفه عن الكلام، ثم أن تسير في ذلك الاتجاه حتى لا تغضبه.
صفحة غير معروفة