أما ابنه قبل الأخير ويليام - الذي كان ما زال صبيا لم يتجاوز مرحلة المراهقة بعد، والذي سيصبح جد جدي فيما بعد - فقد رحل أيضا. ولما سمعنا عنه بعد ذلك، عرفنا أنه استقر في منطقة الأراضي المرتفعة الاسكتلندية، وكان عاملا في إحدى مزارع الأغنام الجديدة التي أخليت من المستأجرين. وكان يمقت مسقط رأسه مقتا شديدا، وهو ما ظهر في خطابه إلى الفتاة التي تزوجها فيما بعد، الذي قال فيه إنه لا يمكن أن يفكر في العيش مرة أخرى في وادي إتريك.
ويبدو أن الفقر والجهل أصاباه بالحزن الشديد؛ فالفقر بدا له متعنتا، والجهل - حسبما رأى - كان جاهلا حتى بوجوده. كان رجلا عصريا.
المنظر من صخرة القلعة
كان أندرو يبلغ من العمر عشر سنوات عندما زار إدنبرة لأول مرة في حياته. في ذلك الوقت، سار أندرو بصحبة والده ورجال آخرين في شارع زلق أرضيته سوداء. وكانت السماء تمطر ورائحة الدخان المنبعثة من المدينة تملأ الهواء، وكانت الأبواب النصفية مفتوحة وتظهر منها الأجزاء الداخلية للحانات المضاءة بنور نيران المدافئ التي كان يتمنى أن يدخلها؛ لأنه كان مبللا تماما بالماء. ولكنهم لم يدخلوها، بل توجهوا إلى مكان آخر؛ إذ كانوا في بداية فترة ما بعد الظهيرة في ذلك اليوم في مكان يشبه تلك الحانات، إلا أنه لم يكن إلا فجوة داخل جدار بها بعض ألواح الخشب التي توضع عليها الزجاجات والكئوس والعملات المعدنية. وقد حشر أكثر من مرة بين الجالسين؛ مما كان يؤدي إلى دفعه خارج هذا المكان إلى الشارع، ومنه إلى البركة الصغيرة التي صنعتها قطرات الماء المتساقطة من الرف الموجود أعلى المدخل. ولكي يمنع حدوث ذلك، زج بنفسه تحت العباءات والسترات المصنوعة من جلد الأغنام وحشر نفسه بين الثملة وتحت أذرعهم.
تفاجأ بعدد الناس الذين بدا أن والده كان يعرفهم في مدينة إدنبرة. وربما ظن أن الناس الذين يجلسون في الحانة غرباء بالنسبة إليه، لكن اتضح له أن الأمر ليس كذلك. كان صوت أبيه هو الأعلى بين كل الأصوات الغريبة المجادلة والهائجة. قال أبوه: «أمريكا!» ثم ضرب بكفه على أحد الألواح الخشبية ليجذب انتباه من حوله، وهو نفس الشيء الذي اعتاد أن يفعله في بيته. سمع أندرو هذه الكلمة بنفس هذه النبرة قبل فترة طويلة من إدراكه أنها أرض تقع عبر المحيط. كانت هذه الكلمة تقال من باب التحدي وباعتبارها حقيقة لا جدال فيها، لكنها كانت تقال أحيانا - في غياب والده - على سبيل التهكم والمزاح. كان أخواه الأكبر سنا يسأل كل منهما الآخر قائلا: «هل ستذهب إلى أمريكا؟» عندما يرتدي أحدهما وشاحه ليخرج ويؤدي عملا ما كأن يئوي الأغنام إلى الحظيرة؛ أو «لماذا لا تذهب إلى أمريكا؟» عندما يدخلان في جدال ويريد أحدهما أن يظهر الآخر على أنه أحمق.
كان إيقاع صوت أبيه في كلامه الذي تلا هذه الكلمة إيقاعا مألوفا للغاية، وقد طغى الدخان على أعين أندرو حتى إنه لم يستغرق وقتا طويلا قبل أن ينام واقفا. استيقظ على وقع تدافع عدد من الأشخاص أثناء خروجهم من المكان وكان أبوه واحدا منهم. قال أحدهم: «أهذا ولدك أم هو عابر سبيل دخل إلى هنا حتى يسرقنا؟» فما كان من والده إلا أن ضحك ومسك يده وبدآ في الصعود. تعثر رجل ووقع آخر عليه وسبه. مررت امرأتان سلتين على الجمع بازدراء شديد ليضعوا فيهما النقود، وأطلقتا بعض التعليقات بكلام غير مألوف لم يفهم منه أندرو سوى عبارتي: «أجسام جميلة» و«ممرات عامة للمشاة.»
ثم ذهب أبوه ومن معه من الأصدقاء إلى شارع أوسع بكثير مرصوف بقوالب كبيرة من الحجر، وكان في حقيقة الأمر عبارة عن ساحة. استدار الأب عندئذ وتوجه بالحديث إلى أندرو.
ثم قال: «أتعلم أين أنت يا بني؟ أنت في ساحة القلعة، قلعة إدنبرة التي ظلت صامدة على مدار عشرة آلاف عام، وسوف تظل صامدة لعشرة آلاف عام أخرى. وقعت ها هنا أحداث شنيعة. كانت الدماء تسيل على هذه الأحجار.» ثم قال ذلك رافعا رأسه حتى يصغي الجميع إلى ما يقول: «أتعلمون ذلك؟»
ثم أضاف: «إن الملك جيمي هو من دعا نبيلي دوجلاس إلى العشاء معه، وعندما جلسا واطمئنا في جلستهما، قال لرجاله: أوه، نحن لا نرغب في العشاء معهم، خذوهم إلى الساحة واقطعوا رءوسهم. وقد فعلوا. كل هذا حدث ها هنا في هذه الساحة التي نقف عليها الآن.»
ثم واصل حديثه قائلا: «غير أن الملك جايمي مات متأثرا بالجذام.» قال ذلك متنهدا ثم متأوها؛ مما جعل الجميع يهدءون ليفكروا في هذا المصير.
صفحة غير معروفة