إذن نرى الآن إلى أي حد تكون التفرقة بين التفكير المقالي والتفكير القائم على الحدس في الرياضيات تفرقة مصطنعة، فحتى في المجال الذي يبدو فيه أن الحدس قد استبعد، نراه يعود إلى الظهور بصورة قد تكون غير مألوفة، ولكنها قوية إلى حد بعيد، وهكذا فبناء أكثر الأساليب الفنية الرياضية تجريدا يقتضي الالتجاء إلى أكثر ضروب الحدس خصوبة وعمقا. (15) الحدس والنزعة الحدسية
ينبغي ألا نطلق اسم «النزعة الحدسية» على كل نظرية في نقد المعرفة تؤكد دور الحدس في التفكير الرياضي، إذ إن هذه الكلمة أصبحت اليوم مقتصرة على المذهب «الرياضي» لعالم رياضي هولندي معاصر هو «بروفر
Brouwer »، وكما يقول «جونست
Gonseth »: «إن النزعة الحدسية تقترح نظرية جديدة وتطبيقا عمليا جديدا للتفكير الرياضي.» وتعترف النزعة الحدسية بمعطيات، هي بضعة مفاهيم ذات وضوح بديهي ، وبضع عمليات أساسية للفكر، وهي لا تقبل سوى المفاهيم الرياضية التي يمكنها أن تبين بالفعل عملية «تركيبها عن طريق هذه المعطيات»، ويرى «بروفر» أنه لا يكفي أن نثبت عدم تناقض أحد المفاهيم حتى نسلم بصحته؛ بل يجب أن نكون قادرين على تركيبه، وذلك على حد التعبير الذي نصادفه على الدوام في كتابات بروفر. فمذهب بروفر لا يكون إذن سوى «جزء» من الرياضيات الكلاسيكية فحسب. ففي بعض الحالات الخاصة المعقدة جدا والخاصة باللامتناهي، قد يجد المرء قضايا ليست متناقضة (وبالتالي ليست باطلة) ولكنه لا يستطيع الجزم بصحتها؛ أعني بما إذا كان من الممكن تركيبها بالفعل. في هذه الحالات لا يمكن تطبيق مبدأ الثالث المرفوع، وعلى ذلك فلا يمكن في رأي بروفر الاعتراف بصحة مبدأ الثالث المرفوع بصفة مطلقة، وإذن فهذا الموقف مرتبط برفض المنطق التقليدي، ويقتضي منطقا جديدا (صاغه تلميذ لبروفر هو: هيتنج
Heyting ) ولكن النزعة الحدسية ليست منطقا بحسب جوهرها وإنما هي مذهب رياضي، وفضلا عن ذلك فالمنطق في نظر بروفر، شأنه شأن كل لغة، ليس دقيقا في التعبير عن النشاط الرياضي الذي هو حدسي في أساسه.
غير أن مذهب بروفر يظل مذهبا خاصا جدا، وهو على هامش الرياضيات الكلاسيكية تماما.
رابعا: الهندسات اللاإقليدية (16) المصادر الخامسة لإقليدس. هندسة لوباتشفسكي
إذا أردنا توضيح بعض خصائص منهج البديهيات، فلن نجد في ذلك خيرا من القيام بعرض سريع للهندسات اللاإقليدية. ولقد ذكرنا من قبل المحاولات المتعددة التي بذلت طوال عصور عديدة للبرهنة على مصادرة إقليدس القائلة بوجود خط مواز، وخط واحد (وهي المصادرة الخامسة) وفي مستهل القرن التاسع عشر «أدى الإخفاق العام إلى إثارة فكرة جديدة لدى علماء الهندسة، بصورة تبلغ قدرا غير قليل من الدقة، هي أن مسلمة إقليدس لا يمكن البرهنة عليها، ومن الضروري أن نسلم بها دون برهان، أو أن نسلم بأخرى تعادلها.»
16
وبالتدريج أخذت الآراء تتجه إلى رفض الفكر القائلة إن قضية إقليدس هي نظرية لم يكشف بعد برهانها، فاعتبرت مصادرة حقيقية لا يمكن استنباطها من المصادرات الهندسية الأخرى، ولو تذكرنا معيار استقلال المصادرات الذي أشرنا إليه في القسم «5» لفهمنا معنى محاولة العالم الرياضي الروسي لوباتشفسكي
صفحة غير معروفة