وقد حدد كلود برنار بدقة بالغة خصائص المراحل الأساسية للروح العلمية، وقارنها بمراحل المشي؛ «فكما أن الإنسان في مشيته الطبيعية لجسمه، لا يستطيع أن يخطو إلى الأمام إلا إذا قدم رجلا على الأخرى، كذلك لا يستطيع الإنسان في السير الطبيعي لعقله أن يتقدم إلا إذا وضع فكرة أمام الأخرى.» وهو يحدد ما يعنيه بالفكرة فيقول إنها «هي حقيقة أو مبدأ يعيه العقل».
2
والحق، إن المرء ليعجز عن فهم الشيء، أيا كان، إلا إذا أدمج فيه «فكرة». فالفكرة مجموعة منسقة من العلاقات التي تجمع بين مختلف أوجه الشيء أو أجزائه أو تجمع بين أشياء مختلفة؛ فالصورة المدركة لشيء مثلا، هي فكرة تبدأ بربط مظاهره المرئية المتعاقبة، وفكرة الدائرة تربط المظاهر التي تتشكل بها الدائرة، وهي مظاهر بيضاوية عادة، إذ إن الشكل البيضاوي صورة منحرفة للدائرة، كذلك تربط الفكرة بين المظاهر البشرية واللمسية لهذا الشيء، ولنضرب لذلك مثلا آخر؛ فموضوع القطعة المسرحية أو الرواية أو الشريط السينمائي هو الخيط الذي يجمع بين مراحله ويبررها. والأمثلة العلمية أكثر وضوحا من ذلك: ففكرة المثلث هي سبب خصائصه، وهي تلقي ضوءا على النظريات الخاصة بالمثلث. وقانون نيوتن أو فكرة الجاذبية تفسر الثقل، وحركة الكواكب، والمد والجزر.
ولكن الفكرة لا تؤدي دورها إلا إذا كشفنا عنها أولا، ثم أجرينا التجارب عليها، فمراحل التفكير العلمي تشبه مراحل المشي في أنها تتكون من خطوتين أطلق عليهما كلود برنار اسم «الاستدلال الباحث» «والاستدلال البرهاني»، وأضاف إلى ذلك أن هذين النوعين من الاستدلال يوجدان في كل العلوم.
الاستدلال أو الأسلوب التدريجي في التفكير
يطلق اسم الاستدلال على العملية العقلية المركبة، التي يمكن التعبير عنها على هيئة جملة نجمع فيها بين عدة تأكيدات أو قضايا (مقدمات)، ونستخلص منها ناتجا يسمى «بالنتيجة» والاستدلال مقالي أو تدريجي أي أنه ينحصر في «سلسلة من البراهين» كما يقول ديكارت، أي أنه سلسلة من العمليات التي يمكن أن تتطور إلى «مقال
discours ».
هذه البراهين أو الحجج هي حدود وسطى، أو وسائط، تربط العناصر التي تظهر متضامنة في النتيجة.
الاستدلال «البرهاني» أو الاستنباط
سوف نبدأ بهذا النوع من الاستدلال لأنه يمدنا بأوضح الأمثلة دلالة على الطريقة التدريجية في التفكير.
صفحة غير معروفة