الحقيقة ليس لها معيار
إذا كان المنطق علما معياريا، كانت الحقيقة «معيارا» أي قاعدة أو أنموذجا للكشف عن الحقائق أو التحقق من صدقها.
ولكن هل هناك «معيار
Critere » للحقيقة، أعني علامة تتسم بها القضايا الصحيحة وتتميز بها من القضايا الباطلة؟ وهل يتميز الصحيح من الباطل كما يتميز الأبيض من الأسود؟ لقد تساءل الإغريق عن ذلك قائلين: هل يحمل الحكم الصحيح طابعا مميزا، مماثلا للعلامة التي تطبع على أجساد العبيد، وتمكن من التعرف عليهم إذا ما لاذوا بالفرار؟
لقد حاول فلاسفة العصر اليوناني القديم أن يعرفوا معيار الحقيقة هذا، غير أنهم عجزوا عن الوصول إليه؛ بل لقد اضطروا إلى التسليم أخيرا بأن الفكرة ذاتها ممتنعة، إذ لو وجد مثل هذا المعيار، لما استطعنا أن نتصور إمكان وقوع الناس في الخطأ، وإمكان اختلاف الآراء حول الموضوع الواحد، في حين أنه لو كان ثمة حقيقة، لكان من الجلي أن رأيا واحدا منها هو الصواب . ومن جهة أخرى، فلا شيء يشبه الصواب ، من الوجهة العملية، ولا شيء يبدو أشبه بالحقيقة بالمعنى الحرفي، لهذا اصطلح (في الفرنسية
vraisemblable
وهي كلمة مشتقة من الحقيقة) أكثر من البطلان، فمثلا: لا شيء أقرب إلى الواقع الفعلي من الحلم، ومن المحال، كما بين ديكارت في «التأمل الأول»، أن يعلم المرء علم اليقين بأنه ليس نائما أو أن يبرهن على ذلك برهانا قاطعا، وفضلا عن ذلك، فمن أين يستمد معيار الحقيقة سلطته؟ أهو يستمدها من معيار آخر؟ وما مصدر هذا المعيار الآخر؟ إن مصدره معيار آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية. والحق أن الشكاك اليونانيين قد جمعوا حول هذا الموضوع الدليل تلو الدليل، متحدين بذلك «التوكيديين
dogmantiques » (أي أولئك الذين يقولون بوجود معيار أو مقياس) أن يأتوا بدليل يثبت تأكيداتهم: أي أنهم كانوا يقولون للتوكيدي «برهن على برهانك.» فيقع التوكيدي في حيرة لا مخرج منها، إذ إنه: (1) إما أن يقتصر على أن يؤكد في تعسف أن برهانه يصلح في نظره هو، وذاك ما كان الشكاك يسمونه موقف ال
hypothesis
أعني التأكيد الاعتباطي دون برهان. (2) وإما أن يحاول أن يعلو على هذا الموقف، ولكنه سيظل يعلو في هذه الحالة إلى ما لا نهاية له، وبالتالي لن يصل أبدا إلى البرهان المنشود، وذلك هو التسلسل إلى ما لا نهاية له، وإما أن يضطر إلى البرهنة عن طريق نفس الشيء المراد البرهنة عليه، وتلك هي حالة الدور أو
صفحة غير معروفة