ويوضح برتراند راسل ذلك قائلا: «تطورت الميتافيزيقيا، أو محاولة إدراك العالم ككل بوسائل الفكر، منذ البدء عبر وحدة وتصارع دافعين إنسانيين؛ أولهما يحث الناس على التصوف، فيما يحثهم الثاني على العلم. لقد حقق بعض الأفراد ما هو عظيم ضمن الدافع الأول وحده، فيما حققه البعض الآخر عبر الدافع الثاني وحسب. فإذا أخذنا «ديفيد هيوم» مثلا، كان الدافع العلمي عنده هو الغالب دون منازع، فيما نجد عند «بليك» العداء حيال العلم يتعايش مع رؤية صوفية عميقة. لكن الأفراد الأكثر عظمة، والذين هم الفلاسفة، كانوا يشعرون بحاجة لكل من العلم والتصوف؛ فمحاولة خلق تناغم ما بين الاثنين - التي وسمت حياتهم، والتي يجب أن تكون دائما كذلك، بما فيها من توقد غير مستقر - هي التي جعلت الفلسفة تبدو، بالنسبة لبعض العقول شيئا يفوق بعظمته العلم والتصوف.»
50
ثم يعطينا برتراند راسل أمثلة للخصائص التي تميز دافعي العلم والتصوف مأخوذة من حياة فيلسوفين عظيمين امتزجت حياة كل منهما بقوة بما أنجزه. هذان الفيلسوفان هما هيرقليطس وأفلاطون؛ حيث يقول: «قد كان هيرقليطس، كما يعرف الجميع، يؤمن بمقولة التدفق الشامل: الزمن يبني جميع الأشياء ويحطمها. ومع أنه ليس من السهل معرفة كيف توصل إلى آرائه؛ إذ لم يبق لدينا منه سوى شذرات، يمكننا القول إن بعض ما قاله يوحي بأن المراقبة العلمية كانت ينبوع آرائه.» يقول: «الأشياء التي يمكن أن ترى، أو أن تسمع، أو يتم تعلمها، هي التي أثمنها أكثر.» إن لغة كهذه هي لغة أمبيريقية، تشكل فيها المراقبة الضمان الوحيد للحقيقة. وكذلك قوله إن «الشمس جديدة في كل يوم»، واحدة من تلك الشذرات؛ تكشف بوضوح، رغم طابعها المتناقض، أنها كانت تستلهم التفكير العلمي؛ فمما لا شك فيه أن هيرقليطس، عبر ذلك الحكم، كان يحاول تحاشي صعوبة فهم كيف أن الشمس بمقدورها التحرك من الشرق إلى الغرب. ولا بد أن تكون المراقبة العيانية أيضا هي ما أوحى له بنظريته المركزية، القائلة بأن النار هي الجوهر الوحيد الثابت، والذي تمر بفضله جميع الأشياء المرئية عبر مراحل. ففي الاحتراق نرى تحول الأشياء التام، فيما يتصاعد اللهب والحرارة في الهواء ثم يتلاشيان. يقول: «هذا العالم، والذي هو واحد بالنسبة للجميع، لم يصنعه أي من الآلهة أو من البشر، لكنه كان دائما، وهو الآن، كما سيكون دائما، من صنع النار الحية، ثمة مكيال يضيء، فيما يخمد مكيال آخر. تحولات النار هي، قبل أي شيء آخر، بحر؛ ونصف البحر أرض، ونصفه الآخر زوبعة تبقي هذه النظرية، رغم أنها قد أصبحت مرفوضة من قبل كل العلوم، علمية في روحها. كذلك يبقى علميا حكمه الشهير الذي يستشهد به أفلاطون: «لا يمكننا النزول مرتين في النهر الواحد؛ لأننا ننزل دائما في مياه جديدة.» غير أننا نعثر أيضا على حكم آخر ضمن تلك الشذرات «نحن نهبط في النهر الواحد ولا نهبط؛ لأننا موجودون وغير موجودين».»
51
ويرى راسل أن مقارنة هذه العبارة الصوفية، بتلك التي يذكرها أفلاطون، العلمية، تظهر إلى أي حد يتزاوج الدافع الصوفي بالدافع العلمي في نظام هيرقليطس؛ فالتصوف، في جوهره، شيء أكثر من محض توتر أوسع وأعمق في الإحساس حيال الطريقة التي يجري بها فهم الكون؛ وهذا الإحساس قد أدى بهيرقليطس، على أسس علمه، إلى ذلك النوع من الأقوال الغريبة والمؤثرة عن الحياة والعالم؛ كقوله: الزمن طفل يلعب بالنرد، القوة الملكية هي قوة الطفل؛ فالمخيلة الشعرية، لا العلمية، هي من يقدم الزمن باعتباره سيدا طاغيا يتحكم في العالم، بكل ما ينطوي عليه الطفل من طيش ولا مسئولية. والتصوف أيضا هو ما جعل هيرقليطس يؤكد على وحدة المتناقضات: «واحد هما الخير والشر»، كما يقول: كل الأشياء عند الرب لطيفة وخيرة وعادلة، لكن البشر يحسب البعض منها خاطئا والبعض الآخر صحيحا. ترتكز أخلاقية «بليك وهيرقليطس» على الكثير من التصوف. صحيح أن التحديد العلمي هو الذي ألهم حكمه التالي: طبع الإنسان هو مصيره؛ بيد أن المتصوف وحده من يمكنه القول: «تساق كل بهيمة بالصفعات إلى المرعى، وكذلك: يصعب نزاع المرء مع رغبة قلبه. كل ما يرغب الحصول عليه، يتم شراؤه على حساب الروح.» وأيضا: «الحكمة واحدة. إنها معرفة الفكرة التي ترص فيها الأشياء بعضها ببعض.»
52
ويزيد راسل في مضاعفة الأمثلة، فيقول: «ثمة مقاطع عند أفلاطون - من بين تلك التي تبين الجانب العلمي من عقله - تشير إلى معرفته الواضحة بذلك الأمر. أكثر تلك المقاطع أهمية هو ذلك المقطع الذي يشرح فيه سقراط، الذي كان شابا، نظرية الأفكار لبارمنيدس. فبعدما أوضح سقراط أن هناك فكرة للخير، لكن ليس ثمة من فكرة لأشياء كالشعر أو الطين أو القذارة، ينصحه بارمنيدس بالمضي، وألا يزدري حتى بالأشياء الوضيعة. وقد كشفت تلك النصيحة عن الطبع العلمي الأصيل؛ إذ لا بد من تركيب الرؤية الصوفية للواقع السامي للخير مع هذا الطبع اللامتحيز، إذا ما كانت الفلسفة تطمح في تحقيق أعظم ممكناتها. بيد أن إخفاقها على هذا الصعيد هو ما جعل الفلسفة المثالية هزيلة، فاقدة للحياة، وبلا مادة؛ فعن طريق التزاوج مع العالم يمكن لمثلنا جلب ثمارها: لكن إذا ما انفصلت عنه، فستظل تلك المثل عارية. غير أن التزاوج مع العالم لا يعني القيام به عبر مثالية تهرب من الواقع، أو تعلن بدءا بأن على العالم التطابق مع رغباتها.»
53
ثم يدلل «راسل» على ذلك ب «بارمنيدس الإيلي» الذي يصف تصوفه بأنه تصوف منطقي ظهر عند كثير من المتصوفة الميتافيزيقيين من يوم «بارمنيدس» إلى «هيجل» وتلاميذه المحدثين، وأساسه هو أننا لا نعرف اللاوجود وما لا نعرفه ليس موجودا. يقول راسل: «كذلك فإن ل «بارمنيدس» نفسه نوعا من التصوف الخاص، المثير للاهتمام، والذي كان يستولي على فكر أفلاطون؛ أي التصوف الذي يمكننا تسميته ب «المنطق»، ما دام يتجسد عبر نظريات في المنطق. فكما هو واضح يجد هذا الشكل من التصوف، بالقدر الذي يتعلق فيه الأمر بالغرب، جذوره عند بارمنيدس، كما أنه يستحوذ على طرق تفكير المتصوفة الميتافيزيقيين الكبار منذ أيامه وحتى هيجل ومريديه المعاصرين؛ فالواقع، مثلما يقول، لم يخلق، ولا يمكن تحطيمه، ولا تغييره، أو تجزئته؛ فهو مثبت ضمن حدود سلاسل كاملة القدرة، لا بداية له ولا نهاية؛ ما دام المجيء إلى الوجود والخروج منه قد تم إبعادهما عنه، وأزالهما عنه الإيمان الحقيقي؛ فالمبدأ الجذري الذي يوجه بحثه قد عبر عنه بحكم يمكن أن يجد مكانته عند هيجل: «لا يمكنك معرفة ما هو غير قائم - أمر مستحيل - وليس بمقدورك النطق به؛ ذلك لأنه شيء واحد ذلك الذي يمكنه الوجود وما يمكن التفكير به أيضا لا بد من أن يكون ما يقال وما يفكر به موجودا، ذلك لأنه قادر على أن يكون، وليس من الممكن لما هو غير كائن أن يكون». تنتج عن هذا المبدأ استحالة التغيير؛ لأن ما جرى في الماضي يمكن قوله، وهو ما زال قائما تبعا لذات المبدأ.»
54
صفحة غير معروفة