وهذه المحاولة تبين لنا أن السهروردي كان موسوعي النزعة، لا يقنع بكتاب، ولا يقف عند شيخ، ويأبى إلا أن يضم الحكماء بعضهم إلى بعض، سواء أكانوا شرقيين أو غربيين، وكأنما كان يطبق الحديث القائل: «الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها التقطها»، فجمع بين حكماء الفرس واليونان، وبين كهنة مصر وبراهمة الهند، وآخى بين أفلاطون وزرادشت، وبين فيثاغورس وهرمس، وشاء أن يضم الروحانيين بعضهم إلى بعض دون تفرقة بين جنس ووطن.
44
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى استطاع أن ينبهنا إلى دراسة المنطق والفلسفة، وما لهما من قيمة كبرى وخطر عظيم وأثر كبير في إعداد طلاب الحكمة وتثقيفهم؛ فهو يرى أنه لا بد لطالب العلم والمعرفة من أن يلم إلماما تاما بالفلسفة الأرسطية والمنطق والرياضيات والتصوف، وأن يخلص نفسه من شوائب الهوى والشهوة؛ بحيث يستطيع أن ينمي تدريجيا هذه الحاسة التي تحقق وتصحح ما يأخذه العقل على أنه نظري خالص، والتي تعرف عند الصوفية باسم الذوق. فإن العقل الذي يعمل وحده دون أن يكون له عون أو مؤيد من الذوق لا يصح أن يوثق فيه ثقة مطلقة أو يطمأن إليه اطمئنانا لا شبهة فيه ولا غبار عليه؛ ومن ثم كان السهروردي حريصا على أن يؤيد العقل بالذوق.
45
سادسا: آثاره
لقد كان لمصير السهروردي أثره في أن يظل إنتاجه الفلسفي مختفيا لبعض الوقت، نظرا لما شاع عنه من مروق في الدين، إلا أن تلامذته قد اهتموا بتتبع أخباره، وعلى الأخص الشهرزوري
46
الذي ذكر في ترجمته لمصنفات السهروردي تسعة وأربعين كتابا ورسالة، فضلا عما ذكره من مصنفات منثورة ومنظومة تصور عبقرية السهروردي في النثر والنظم. ولم تصل إلينا معظم تلك الآثار والمصنفات التي يعددها الشهرزوري ل «السهروردي»، اللهم إلا كتب ورسائل نشر أقلها وما يزال أكثرها مخطوطا حتى الآن، وتوجد منه نسخ خطية تختلف كثرة وقلة في مكتبات الشرق والغرب، يضاف إلى هذا أن صحة نسبة بعض ما يذكره الشهرزوري إلى السهروردي ما يزال في حاجة ماسة إلى تحقيق وموازنة تكشف عن وجه الحق فيها.
ومهما يكن من شيء، فإن إثبات الشهرزوري لمصنفات السهروردي يمكن أن يعد إثباتا كليا، إذا قيس إلى ثبوت غيره من المؤرخين والمترجمين، من أمثال ابن أبي أصيبعة، وابن خلكان، وياقوت الحموي، وحاجي خليفة، والتي من أخص خصائصها أنها جزئية ذكرت شيئا وأغفلت أشياء، وما أغفلته كان أكثر بكثير مما ذكرته. غير أننا نجد أن محاولة الشهرزوري ليست بحثا في العلاقة بين ترتيب كتب السهروردي وتطور فلسفته، بل إنها تعداد لكتبه ورسائله دون مراعاة لأي اعتبار تصنيفي.
أما أول من قام بمحاولة التصنيف هذه من الكتاب المحدثين فهو ماسينون،
صفحة غير معروفة