في أبدية الصادر الأول من أجزاء العالم
ومثل أنا إذا قلنا بوجود صادر أول ، كما قال به الفلاسفة ، وكذا الإسلاميون ، سواء قيل بكونه جوهرا مجردا أو ماديا ، وسواء قيل بكونه قديما أو حادثا ، لكان ينبغي لنا أن نحكم عليه بما حكمنا على القديم. أما إذا قيل بقدمه ، فظاهر كما مر وجهه. وأما إذا قيل بحدوثه الزماني كما هو رأي المتكلمين ، أو بحدوثه الدهري كما هو رأي بعض أعاظم العلماء (1) وذهبنا نحن إليه وحققناه في رسالتنا الموضوعة لبيان حدوث العالم (2)، وقلنا مع ذلك بتجرده عن المادة في ذاته ، فللدليل الذي سيأتي ذكره فيما بعد على امتناع طريان الفساد على المجردات. وأيضا سواء قلنا بتجرده أم لم نقل به ، نقول إن الصادر الأول حيث فرض كونه صادرا أولا يكون مستندا إلى ذات الواجب تعالى بلا واسطه شيء آخر ، فعلته ذاته تعالى بذاته ، فلو جاز انعدامه والحال أن انعدام المعلول إنما يكون بانعدام علته التامة كان مستلزما لزواله تعالى ، وهو محال.
فإن قلت : إذا فرض الصادر الأول حادثا زمانيا أو دهريا ، لكان ينبغي أن يقال كما حققته أنت في تلك الرسالة أيضا ، بأن علة تخصيص وجود ذلك الصادر الأول بذلك الجزء من الزمان الموهوم أو الدهر ، والحال أن كل أجزائهما في الأزل متساوية في إمكان وجوده فيه ، والفاعل الموجد له تام الفاعلية والقدرة والاختيار ، والوجود خير محض ، لا مانع منه لعلها اقتضاء العناية الأزلية والعلم بالأصلح وجود ذلك الصادر الأول في ذلك الجزء الذي وجد فيه. فعلى هذا فجاز أن يكون العلم بالأصلح اقتضى وجوده فيما
صفحة ١٠٩