ولعل هذا مبني على أن التواضع تختلف أقسامه باختلاف الأزمان، وكيف كان فالذي يظهر بعد التأمل التام اختلاف الأقوال والأفعال باختلاف المقاصد. ومن ذلك اختلاف أحوال الزهاد، فبعض ترك المآكل والملابس الحسان، واقتصر على الجشب والخشن، وبعضهم يأكل من أطيب المأكول، ويلبس من أنعم الملبوس. وباعتبار اختلاف النيات دخل (العملان) في قسم العبادات.
ثم إن الأفعال المختلفة بعضها لا ينسب إلى غير الله، كايجاد الكائنات، وصنع المصنوعات. وبعضها لا ينسب إلى الله، كأفعال القبائح والمنفرات، وبعضها تختلف معانيها ومقاصدها، فتنسب إلى الخالق مرة، والمخلوق أخرى. وهذا الحكم متمش على قول من لم يثبت فاعلا سوى الله، وعلى قول من أثبت.
والمعيار أنه متى قام احتمال إرادة وجه صحيح بني عليه، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إدرؤا الحدود بالشبهات)، (ولا تقل في الناس إلا خيرا). وما دل على النهي عن سوء الظن، فكيف بالشك.
وعن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إدرؤا الحدود عن المسلمين ما استطعتم (1).
فالناس إذن في صدور أمثال هذه الأمور عنهم على أنحاء:
بين علماء عاملين، مقاصدهم صحيحة، فلا يتعمدون بالأقوال والأفعال، إلا الوجوه السليمة من القيل والقال.
وبين أعوام جهال بنوا على ما بنى عليه علماؤهم على الإجمال، وليس لهم قابلية التفتيش على حقيقة الحال، فهم أيضا معذورون عند رب العزة والجلال.
وبين من بنوا على طريق الضلال، وعليهم المؤاخذة بضروب النكال.
والتحقيق أن تبدل الأحكام بتبدل الموضوعات، ليس من باب التشريع والإبداع ، مثلا يستحل للنساء التزين لرجالهن، فمنذ كان لبس السواد زينة استحب، فإذا انعكس وصار الميل إلى الأحمر والأصفر انعكس الخطاب. وألوان اللباس تختلف باختلاف الناس، ففي كل بلاد يستحب لون ونوع، فإنه قد يكون في مكان لباس شهرة، وفي آخر بعكسه، وفي موضع من لباس النساء، وفي موضع بعكسه.
وكذا كانت رغبة الناس في طيب الكافور، فكرهه اليوم.
صفحة ٥٢٦