توهمها طرفي فأصبح خدها ... وفيه مكان الوهم من نظري أثر
يصافحها كفى، فتألم كفها ... فمن مس كفي في أناملها عقر
فهيجت يا أمير المؤمنين بلابلي، وطربت لحسن الشعر وحذقها، ثم اندفعت تغني:
أشرت إليها: هل عرفت مودتي؟ ... فردت بطرف العين: إني على العهد
فحدت عن الإظهار عمد السرها ... وحادت عن الإظهار أيضًا على عمد
فصحت: السلاح - يا أمير المؤمنين - وجاءني من الطرب ما لم أملك [معه] نفسي، ثم اندفعت تغني الصوت الثالث:
أليس عجيبًا أن بيتًا يضمني ... وإياك لا نخلو ولا نتكلم
سوى أعين تشكو الهوى بجفونها ... وتقطيع أنفاس على النار تضرم
إشارة أفواه، وغمز حواجب ... وتكسير أجفان، وكف تسلم
فحسدتها والله يا أمير المؤمنين على حذقها ومعرفتها بالمعنى الذي قصدته من الشعر، ولم تخرج عن الفن الذي بدأت به، فقلت: بقي عليك يا جارية [شيء]، فضربت بعودها الأرض، وقالت: متى كنتم تحضرون مجالسكم البغضاء؟! فندمت على ما كان مني، ورأيت القوم كأنهم قد تغيروا لي، فقلت: أما عندكم عود غير هذا؟ قالوا: بلى، وأتيت بعود، فأصلحت من شأنه، ثم غنيت: ما للمنازل لا يجبن حزبنا.... الأبيات التي تقدمت فما استتممته - يا أمير المؤمنين - حتى قامت الجارية فانكبت على رجلي تقبلهما، وقالت: معذرة إليك يا سيدي، فوالله ما سمعت أحدًا يغني هذا الصوت غناك، وقام مولاها وأهل المجلس، ففعلوا كفعلها، وطرب القوم، واستحثوا الشرب، فشربوا بالطاسات والكاسات، ثم اندفعت أغني:
أبى الله أن أمسي ولا تذكرينني ... وقد سجمت عيناي من ذكرك الدما
إلى الله أشكو بخلها وسماحتي ... لها عسل مني، وتبذل علقما
فردى مصاب القلب، أنت قتلته ... ولا تتركيه ذاهل القلب مغرما
فطرب القوم يا أمير المؤمنين حتى خرجوا من عقولهم، فأمسكت ساعة حتى تراجعوا، ثم غنيت الصوت الثالث:
هذا محبك مطوى على كمده ... عبرى مدامعه تجري على جسده
له يد تسأل الرحمن رحمته ... مما به، ويد أخرى على كبده
فجعلت الجارية تصيح: هذا الغناء والله يا سيدي لا ما كنا فيه منذ اليوم، فسكر القوم، وكان صاحب المنزل حسن الشرب، صحيح العقل، فأمر غلمانه أن يخرجوهم ويحفظوهم إلى منازلهم، وخلوت معه، فلما شربنا أقداحًا، قال: يا سيدي ذهب ما مضى من أيامي ضياعًا، إذ كنت لاأعرفك، فمن أنت يا مولاي؟ فلم يزل يلح علي حتى أخبرته، فقام وقبل رأسي، وقال: وأنا عجبت يا سيدي أن يكون هذا الأدب إلا لمثلك، وإني لجالس مع الخلافة ولا أشعر؟ ثم سألني عن قصتي، فأخبرته حتى وصلت إلى صاحبة الكف والمعصم، فقلت: أما الطعام فقد نلت منه حاجتي، وبقي الكف والمعصم، فقال للجارية: قومي، فقولي لفلانة تنزل إلي، فلم يزل ينزل إلى جواريه واحدة واحدة، فأنظر كفها ومعصمها، فأقول: ليست هي، حتى قال: والله ما بقي غير أختي وأمي، وبالله لأنزلنهما إليك، فعجبت من كرمه وسعة صدره، فقلت: جعلت فداك، أبدأ بالأخت قبل الأم، فعسى أن تكون هي، ففعل، فلما رأيت كفها ومعصمها قلت: هي هذه، فأمر غلمانه فساروا إلى عشرة مشايخ من جلة جيرانه، فأقبلوا بهم، وأمر ببدرتين فيهما عشرون ألف درهم، ثم قال للمشايخ: هذه أختي فلانة، أشهدكم أني قد زوجتها من سيدي إبراهيم بن المهدي، وأمهرتها عنه عشرين ألف درهم، فرضيت وقبلت النكاح، فدفع إليها بدرة، وفرق الأخرى على المشايخ، وقال لهم: انصرفوا، ثم قال: يا سيدي أمهد لك بعض البيوت فتنام فيه مع أهلك؟ فأحشمني ما رأيت من كرمه فقلت: بل أحضر عمارية فأحملها إلى منزلي، قال: ما شئت، فأحضرت عمارية فحملتها إلى منزلي، فوالله يا أمير المؤمنين لقد اتبعنا من الجهاز ما ضاقت عنه بيوتنا، فأولدتها هذا الغلام القائم على رأس أمير المؤمنين، فعجب المأمون من كرم الرجل، وألحقه في خاصته، وأطلق الطفيلي وأجازه.
وقال بشر بن أبي خازم:
تغيرت المنازل من سليمى ... برامة فالكثيب إلى بطاح
[بطاح]: موضع:
ديار قد تحل بها سليمى ... هضيم الكشح، جاثلة الوشاح؟
ليالي تستبيك بذي غروب ... يشبه ظلمه خضل الأقاح
وقال مهيار:
هل عند ظبي المنحنى ... إجابة فيسألا؟
1 / 13