فقال سعيد: «لم أفق يا سيدي إلا وأنا مغلول اليدين في مكان كالسجن، وحولي جماعة السودانيين من أهل شندي يتمتمون، وقد فهمت من مجمل كلامهم أنهم علموا بأني لست من إخوانهم، واستدلوا على ذلك من خطابي لك، وأنت شاهر السيف وقادم إلى السودان. وكنت أسمع رطانتهم وأنا بين اليقظة والغيبوبة، ثم رأيتهم جاءوني بلبن ودقيق ضمدوا بهما جراحي، ولكنهم ما لبثوا أن جاءهم الخبر بقدوم الجنود المصرية للانتقام منهم، فحملوني معهم مقيدا يريدون الانتقام مني فتضرعت إليهم أن يتركوني وشأني أو يقتلوني، فأبوا تركي مخافة أن أخبر المصريين بمخبآتهم، ولم يريدوا قتلي لأنهم كانوا يتوقعون أن يستفيدوا مني في الاطلاع على بعض الأخبار.
وكنت قد تحسنت قليلا، فلما هموا بالمسير غافلتهم ذات ليلة وفككت قيودي وفررت من معسكرهم، وكنت أظنهم لم يشعروا بي، فإذا جماعة منهم قد لحقوا بي فأسرعت في العدو، وأنا لا أزال ضعيفا فأدركوني، وقد أنهكني التعب والجهد، فأعادوا الأغلال إلى رجلي ويدي، فعاودني المرض لشدة ما شعرت به من صغر النفس وضيق الصدر. وما زلت على هذه الحال أياما، وهم تارة يقيمون، وطورا يرحلون في أواسط الصحراء بين العطش والتعب والجوع، وذات يوم تركوني في مكان كنا نزلنا فيه وساروا ولكنهم فكوا أغلالي قبل مسيرهم، وأشفق علي واحد منهم، فترك عندي شيئا من الذرة وقليلا من الماء.
فبقيت في تلك الصحراء ضعيفا نحيلا لا أستطيع المسير ، ولا أقوى على النهوض، فتحققت من دنو الأجل فتذكرتكم جميعا، ولا سيما حبيبي غريب لأنه ربي على ذراعي، وهاجت الذكرى أشجاني فأخذت في البكاء والعويل ليلا ونهارا، ولكن تعزيتي الوحيدة في تلك الأحزان كانت أني تحققت من بقاء سيدي البك حيا ورجوت أن يلتقي يوما بأهل بيته، على أنني تأسفت كثيرا لأني لم أستطع أن أخبره بمحل إقامتهم. •••
فقضيت أياما على تلك الحال، لا آكل ولا أشرب إلا قليلا جدا، فضلا عن خوفي واضطرابي مما كنت أسمعه من أصوات الذئاب والوحوش في أثناء الليل، فلما خارت قواي وتحققت من قرب الوفاة، خشيت أن أموت في تلك الصحراء، وتذهب جثتي طعاما للوحوش، فدببت على رجلي ويدي إلى حفرة بالقرب مني، وعولت أن أجعلها مرقدي عند موتي فتوسدتها، وقد هزل جسمي وجف دمعي من كثرة البكاء.»
فلما وصل بحديثه إلى هذه العبارة، ترقرقت الدموع في عيون السامعين، ولا سيما سلمى وأمين. •••
ثم عاد إلى إتمام الحديث فقال: «ولكن الله نظر إلى حالي وضعفي ففتح على بابا لم أكن أنتظره؛ وذلك أنني بينما كنت في تلك الحال شاهدت غبارا متصاعدا عن بعد، ولم يمض غير قليل حتى رأيت أعلاما وفرسانا، فعلمت أنها شرذمة من الجنود المصرية سائرة في أثر الهاربين، فأومأت إليهم فشاهدني أحدهم فهرول إلي، وتبعه آخرون فسألوني عن حالي فأشرت إليهم أني من أنصارهم ولكني ضعيف، فحملوني إلى معسكرهم وعالجوني بما وصلت إليه أيديهم فأراد الله شفائي، فلما أكلت واسترجعت صوابي سألوني فأنبأتهم أني كنت من رجال إسماعيل باشا، وأخذت أسيرا جريحا، ونصحت لهم أن يرجعوا عن تعقب أولئك الفارين لأنهم لن ينالوا منهم وطرا، فأذعنوا لمشورتي وعادوا جميعا إلى جهات شندي وأنا معهم. وكنت قد عولت على أني حالما أستطيع المسير أسرع في المجيء إلى سيدتي لأرى ماذا تم من أمر سيدي، فأقمنا في شندي مدة وأنا لا أزال ضعيفا لا أستطيع تحمل مشقة الأسفار ، وقد لازمتني الحمى واستعصت فمضى على سنتان في مثل هذه الأحوال، وأنا لا أكاشف أحدا بمقاصدي.
ثم انتقل معسكرنا إلى مدينة الخرطوم، ولزيادة شقائي سقطت، وأنا أركب النقر (نوع من المراكب السودانية) فكسرت رجلي من عند الفخذ، فلبثت في الخرطوم أعواما وفخذي لا يجبر كسرها، أولا لأني لست شابا، وثانيا لأني لم أستطع مداواتها كما يجب. والأدهى من ذلك أنها بعد أن كادت تشفى عادت فانكسرت، وسبب كسرها أنه جاء إلى الخرطوم وال واسمه خورشيد باشا من قبل محمد علي باشا عزيز مصر، وأهل السودان كما لا يخفى على سيدي يسقفون بيوتهم بالجلود والقش، فلما جاء هذا الوالي أخذ يطالب أهل الخرطوم بأن يبنوها بالآجر (القرميد) فصاروا يصنعون من الآجر كميات كبيرة، فكثر البناء، وشعرت يوما أن ساقي شفيت تماما، فجئت أشتغل في سقف حجرتي، فسقفت جانبا منه، ولكني لم أحسن تسنيده جيدا فسقط القرميد علي فانكسرت ساقي ثانية، فعدت إلى المتاعب والبلايا، وقد قطعت الأمل من الشفاء لأن الكسر إذا تكرر عسر شفاؤه، ولا سيما لمن كان مثلي. •••
وأراني قد أطلت الحديث عليكم، وما نحن في مقام أقاصيص مكدرة، فأقول بإيجاز إني لبثت أعواما أخرى وأنا أطبب الكسر، ولا هم لي إلا أن أراكم، حتى من الله علي بالشفاء فقمت من الخرطوم السنة الماضية. وما زلت بين راكب وماش أقطع الصحاري والسهول وأركب الأنهار والبحار، حتى وصلت مساء أمس إلى الدير المعهود، فأنبأني رئيسه بما انشرح له صدري، وها أنا ذا لقيتكم بخير، والحمد لله.» فحمدوا الله على عودته سليما، وقال أمين بك: «إن سروري الآن قد تم، فلنتم الأفراح»، فأتموها وزادوها، وأنبئوا الأمير بشيرا بمجيء سعيد، فسر، ثم سار سعيد لمشاهدته، فمدح الأمير همته، وأثنى على شهامته، وكان للاحتفال بقران غريب رنة في سائر أنحاء لبنان وأنفقت فيه الأموال الطائلة.
انسحاب الجنود المصرية
فلما كانت سنة 1840م، اتحدت دول أوروبا مع الدولة العثمانية على إخراج إبراهيم باشا والجنود المصرية من سوريا. ولما كان الأمير بشير قد جاهر بالاتحاد مع الجنود المصرية فقد استولى عليه القلق والارتباك، وجرت في تلك السنة حروب هائلة انتهت على غير المرام؛ لأن الجنود المصرية اضطرت بعد دفاع عدة أشهر أن تنسحب من الديار السورية. وكان الأمير بشير محافظا على اتحاده مع الدولة المصرية اعتمادا على وعود دولة فرنسا بمساعدته، فلما يئس من مساعدتها عزم على أن يسلم للدولة العثمانية، وعلم أن تسليمه يستلزم الابتعاد عن لبنان، فجمع ما لديه من المجوهرات والنفائس في بيت الدين، وجمع أولاده وحفدته وسائر أهل داره وأتباعه، وفي جملتهم المعلم بطرس كرامة، وهم بالمسير نحو صيدا.
صفحة غير معروفة