وفي صباح اليوم التالي سأل عن كل ما أمكنه السؤال عنه من أخبار الحملة التي سار سيده برفقتها بعد أن عرف اسمه الجديد «سليمان» وركب الجمل خارج القاهرة بعد أن لبس تلك الثياب، وعلق برجل الجمل الدرقة السودانية المصنوعة من جلد وحيد القرن صنع أهل السودان، وأمسك رمحه، وعلق سيفه السوداني بكتفه، وسكينا سودانية، وملأ جعبة من التبغ الصعيدي الذي يدخنه أهل تلك الأصقاع، وتوجه قاصدا إلى الخرطوم، فاتخذ الصحراء الشرقية طريقا لمسيره ملازما لمجرى النيل، قاصدا كورسكو، على أن يسير من هناك في الصحراء التي يسمونها العطمور إلى أبي حمد بجوار بربر، ومن هناك يسير مع النيل إلى الخرطوم.
التفتيش عن أمين
فلنترك سعيدا متوجها إلى الخرطوم، ولنعد بالقارئ إلى بيت الدين حيث تركنا جميلة تتقلب على مثل جمر الغضا في انتظار عودة سعيد، إذ لم تكن تعلم بسفر زوجها إلى الأقطار السودانية، وإنما كانت تظن أنه في مصر، وأنه لن يمضي شهر بعد مسير سعيد، حتى يعود به فتراه.
مضى أسبوعان وثالث، وفي أوائل الرابع جاءها البريد بكتاب من مصر وهذا نصه:
سيدتي المحترمة المصونة
أقبل يديك ... وبعد، فإني بلغت القاهرة، وبحثت عن سيدي فعلمت أنه توجه إلى الأقطار السودانية منذ أشهر، في حملة كانت ذاهبة لنجدة إسماعيل باشا في حملته لإخضاع السودان، وقد طلب السفر إلى هناك، على ما علمت، يأسا من الحياة لأنه لم يكن يعلم ببقائك على قيد الحياة، وقد كان عازما على الانتحار ففضل الموت في ساحة الحرب، وأرجو أن تطمئني فها أنا ذا قد أخذت كتابا من العزيز محمد علي باشا، وتهيأت للسفر إلى السودان؛ كي أفتش عن سيدي البك، وفي الغالب أني لن أغيب أكثر من شهرين، ثم أعود إليكم به إن شاء الله تعالى.
خادمك
فلما قرأت الكتاب خفق قلبها ووقعت في حيرة، وأطلعت زوجة الأمير بشير عليه، وهذه أخبرت الأمير، فطيب خاطرها.
مضى الشهران ولم يرد لهم خبر، فاضطربت جميلة (أو سلمى) ولم تعد تستطيع الانتظار، وجعلت تحسب ألف حساب، ولما زاد بها القلق توجهت إلى الأمير بشير، وقبلت يديه وحدثته عن قلقها، فوعدها أن يكتب إلى عزيز مصر يسأله عن حقيقة الخبر.
وبعد أسبوعين ورد خطاب من عزيز مصر يقول فيه: «إن الفرقة التي سار برفقتها أمين بك، قد ألحقت بحملة ولدي إسماعيل، والجميع قادمون من الخرطوم متجهين شمالا لجمع الميرة والرجال، والأغلب أن يلتقي بهم سعيد رسول سيادتكم في جهات شندي، وقد بعثته بكتاب إلى ولدي إسماعيل حتى لا يشك في أمره، ولكي يسلم له أمين بك، والسلام.»
صفحة غير معروفة