قال الأمير: «سمعت في أثناء سفري قصة عجيبة سأقصها عليك على انفراد لأني أوصيت ألا أبوح بها إلى أحد، ولكني وإياك جسد واحد فلا أكون قد خالفت الوصية بذكر تلك القصة العجيبة لك.»
ولا تسل عن حال جميلة وقتئذ، فإنها خشيت أن يكلمها الأمير فيتلعثم لسانها لشدة تأثرها وينكشف أمرها، على أنها كانت متشوقة لسماع تلك الحكاية، ولكن لم تستطع إظهار تلك الرغبة، بل لم يكن في إمكانها أن تسأل الأمير عن ذلك لأنها كانت شديدة الاضطراب، وقد خالج قلبها الخوف والهلع فآثرت الخروج من الغرفة ريثما يسكن روعها، غير أنها لم تستطع الوقوف.
فقالت زوجة الأمير: «ما المانع من أن تقص علينا تلك القصة الآن دون أن تذكر أسماء الأشخاص بحيث تكون الحكاية مبهمة، ثم توضحها لي على حدة بالتفصيل؛ إذ لم يعد لي صبر لتأجيل وقت استماعها!»
فقال الأمير: «أخشى أن أكون قد خالفت الوصية، وهذا أمر يعز علي؛ إذ أكون قد فعلت فعل الخائنين، ولكني أقول لك الآن كلمة واحدة من تلك القصة، وهي أني التقيت في سفري هذا بالرجل الذي اختطفها وأطلعني على ...» ولم يكد يتم عبارته حتى تنهدت جميلة من صميم قلبها وأغمي عليها، وكان غريب بجانبها، فذعر وصاح: «أماه، ما بالك؟» ثم بادر الحاضرون فأتوها بالمنبهات ورشوا على وجهها الماء حتى أفاقت، وهي لا تكف عن التنهد والبكاء، فاضطرب الجميع، وظنوا أنها أصيبت بداء الصرع أو غيره من الأمراض العصبية، فأخذوا يسألونها عن سبب ذلك، ولما سكن ما بها أحبت أن تعتذر وتضبط عواطفها فتجلدت، وأخذت تظهر أن ذلك حدث لها لغير سبب تعلمه!
أما الأمير فلم يصدق ذلك الاعتذار، وقد سبق أن خامره شك في دعوى جميلة، ولا بد أن ذلك بقي يختلج في صدره إلى أن عاد إلى بيت الدين، وربما أراد الإشارة إلى تلك الحكاية تحقيقا لظنه، فلما ظهر منها ذلك الانفعال لم يجد له سببا غير ما شك فيه، على أنه لم يشأ أن يلح عليها مراعاة للطف مزاجها، وخوفا عليها مما هو أعظم من ذلك، فأخذ يمهد لها العذر ويقول: «نعم، إن هذا الإغماء كثيرا ما يصيب عصبيات المزاج.» وجعل يراجع في ذاكرته ما عرفه عن جميلة حتى عاد بذلك إلى أول ساعة عرفها فيها فتذكر أنها لم تخبره عن أصلها، بل كانت تحاول إخفاء ذلك ما استطاعت.
ومرت كل هذه التصورات في مخيلته بأسرع من لمح البصر، فاستأنف الحديث مظهرا أنه لا يعلم شيئا من أمر جميلة، وقال لزوجته: «إني سأخبرك بهذا الحديث في مساء هذه الليلة أو غدا إن شاء الله تعالى، إلا أن عزيزتنا السيدة جميلة قد كدرت صفاءنا الآن بما حدث لها في هذه الليلة.»
أما جميلة فكانت متكئة على صدر غريب لا تبدي حراكا ولا تنطق بكلمة. وشعر الأمير بذلك وخاف عليها، فقال لها: «أظن أن الأفضل لك أن تذهبي إلى فراشك، فلعل ما عرض لك من تأثير ضوء القمر!» فلم تجبه، ولكنها حاولت النهوض فلم تستطع لأن ركبتيها كانتا ترتجفان رغم إرادتها، ولم يكن ذلك لينقص من ارتباكها وخجلها، لكنها تجلدت ونهضت بمساعدة غريب، وسارت توا إلى حجرتها، وسار غريب معها فاستلقت على الفراش وأطلقت لنفسها عنان البكاء لأن العبرات كانت قد خنقتها، فاضطرب غريب وأخذ يكلمها ويسألها عن سبب ذلك فلم تجبه، وإنما كانت تشير إليه ألا يرفع صوته لئلا يسمع أحد منهم، فاضطرب الغلام، وصار يبكي لبكائها.
أما هي فتمثل لها زوجها كما شاهدته المرة الأخيرة خارجا من البيت راكبا جواده قاصدا القلعة، وزاد بها الوجد حتى ظنت ذلك الخيال حقيقة فنادت: «أمين، أمين!» فظنها غريب تريد أمينا ابن الأمير بشير فخرج وناداه، فلما دخل وجدها على تلك الحال، فقال لها : «ما بالك يا خالتي تنادينني، هل تريدين شيئا؟»
فانتبهت لنفسها ونهضت من الفراش قائلة: «أنا لم أنادك يا عزيزي، وقد ناداك غريب خطأ.» فقاطعها غريب قائلا: «بل سمعتك ترددين ذكر أمين أكثر من ثلاث مرات، وليس عندنا أمين آخر هنا.» فقالت: «ربما كان ذلك خطأ مني.» فأخذ أمين يلاطفها ويخفف عنها، ويأتيها بماء الزهر وغيره من المنعشات تهدئة لعواطفها.
أما الأمير بشير فسأل امرأته عما إذا كانت هذه الأعراض تصيب جميلة من قبل، فقالت: «لا، بل إن هذه أول مرة شاهدتها فيها.» وظهر على زوجة الأمير الانزعاج لذلك المنظر، ففضلت الدخول إلى حجرتها، ورافقها الأمير بشير فدخل كل منهما مخدعه مفكرا في أمر جميلة، ثم بعثا يسألان عنها وعن راحتها، فردت هي تطيب خاطرهما خوفا من أن يأتيا إليها ويشاهدا سوء حالها.
صفحة غير معروفة