قالت: «لا، كان يجب أن أفعل ذلك، فإن الاسم يحل لنا هذا المشكل فحالما يستيقظ أسأله.»
فلما استيقظ سألته عن اسم صاحب المنديل قائلة: «إني قضيت هذه الليلة وأنا أفكر في أمر هذا الرجل وفضله علينا، ولكني لا أذكر أنك لفظت اسمه.»
فقال: «إن اسمه سليمان يا والدتي.»
فقالت: «حسنا» ولكنها رأت أن هذا الاسم هو غير اسم زوجها فانتفت الشبهة من ذهنها، وقالت في نفسها: لعل هذا المنديل قد وقع اتفاقا في يد ذلك الرجل، وعلى كل فإني أستأنس به، وأشم منه رائحة أعز الناس إلي، فاحتفظت به، ولما كلمت سعيدا في ذلك الشأن وافقها على ظنها.
بارقة أمل
أما ما كان من أمر الأمير بشير، فإنه بقي في مصر حتى كانت سنة 1822م، ووردت فرمانات العفو عن عبد الله باشا من الباب العالي، فشكر همة عزيز مصر، واستأذن في العودة إلى بلاده، فطلب إليه محمد علي أن يبقى في مصر مدة، إلى أن قال له: «إني لم أفعل ما فعلته مع والي عكا إلا مرضاة لك، وأود بقاءك هنا لأنك بمنزلة ابني إبراهيم.» فشكر له فضله قائلا: «عسى أن أستطيع مكافأتك أيها العزيز الجليل» فأهدى له ولأولاده ثلاث فراء وثلاثة من الخيل الجياد، وقال له: «إذا كنت تستطيع أن تعبئ لي أربعة آلاف مقاتل من رجالك الأقوياء فافعل؛ لأن مرادي أن أرسلها نجدة لولدي إبراهيم فإنه سار لمحاربة بلاد اليونان لأنها شقت عصا طاعة الدولة العثمانية، وعهدي برجال لبنان أشداء يعتمد عليهم وقت الشدة.» فقال: «سمعا وطاعة.»
ثم ودع العزيز ورحل إلى الإسكندرية، فلم يدخلها لتفشي وباء الطاعون فيها ونزل خارجها، ثم ركب السفينة إلى عكا. فلما وصل إلى تلك المدينة أطلقت المدافع، وكانت عكا محاصرة بعساكر الدولة حتى ورد الفرمان فبطل الحصار. وأطلقت جيوش الدولة ترحابا بالأمير، وذلك بعد اطلاعهم على الفرمان الذي أرسل إليهم على يد السلاحدار المرسل مع الأمير بشير من لدن محمد علي باشا. ورضوخا للأوامر العلية، غادرت الجنود العثمانية عكا، وسار الأميران خليل وأمين إلى بيت الدين، وأما الأمير بشير فبقي في تلك المدينة مدة، وسارت البشائر إلى اللبنانيين بالعفو عن عبد الله باشا.
أما ولدا الأمير فلما وصلا إلى بيت الدين، جاءت أعيان البلاد للترحيب بهما، واستأنس بهما غريب بوجه خاص.
أما جميلة وسعيد، فكانا في قلق زائد تتقاذفهما الأفكار والظنون بحكاية ذلك الرجل وذلك المنديل، وكانا في انتظار مجيء الأمير بشير عساهما أن يستطلعا الحقيقة منه بوجه من الوجوه. لأنهما حاولا معرفة ذلك من ولديه، فلم يكن عندهما أكثر مما عرفاه من غريب. وشاء القدر أن يتأخر مجيئه لشواغل تتعلق بإمارته وغيرها.
فلما جاء، لم تتمكن جميلة من معرفة شيء؛ لأن مجلس الأمير لم يخل من المسلمين والمهنئين، ولم يهدأ إلا بعد مدة طويلة. وذات ليلة كان القمر بدرا، والجو صافيا، فأحب الأمير أن يقضي بضع ساعات في صحن «السراي» الداخلي أمام بركة الرخام، ففرشت الطنافس في ذلك الصحن، وجاء الأمير فجلس، وجلست امرأته وجميلة وأولاده بعد تناول العشاء وشرب القهوة. اتكأ الأمير يتأمل جمال الطبيعة، ويتنقل بأفكاره من حال إلى أخرى، فجال بخاطره سفره إلى مصر، وما كان من ترحاب عزيزها به إلى أن طرقت ذهنه مسألة غريب وجموح ذلك الجواد به، فالتفت بغتة إلى زوجته قائلا: «أتذكرين يا أم خليل (يريد زوجته) قصة الأميرة سلمى؟» فخفق قلب جميلة بغتة وقالت زوجة الأمير: «نعم، أذكرها ولا أنساها لأني كنت أحبها محبة عظيمة، ومما زادني تذكرا لها عزيزتي جميلة؛ لأنها تشبهها شبها تاما كما أشرت إليك بذلك مرة.» فتزايد خفقان قلب جميلة حتى إنها لم تعد تستطيع إخفاء عواطفها. فقال الأمير: «وما ظنك بها؟» قالت: «لا أظن أنها باقية على قيد الحياة، فرحم الله والدها إنه كان سبب فقدانها، ولكن ما الذي جعلك تذكرها الآن؟»
صفحة غير معروفة