فقال سعيد مدهوشا: «أمن أسرة الأمير بشير؟»
قالت: «نعم، ألا تذكر كيف كنت أود المجيء إلى لبنان بوجه خاص على أثر خروجنا من مصر؟»
فقالت: «وكيف صرت زوجة لسيدي؟»
قالت: «اعلم أني ابنة الأمير ... من قرية تقرب من هنا، وكان والدي رحمه الله - لأني سمعت أنه توفي - يريد أن يزوجني بواحد من أولاد عمي، لم أكن أحبه، بل كنت أكره معاشرته، أما والدي فكان مصرا على ذلك بدعوى أن الاتفاق قد تم على أن أكون له ويكون لي، فأنا مخطوبة له من يوم ولادتي، وقد سبق منه الوعد بذلك لوالده، ولا ينبغي أن ينقض كلامه، فتوسلت إليه مرارا أن يشفق علي، وأنا حينذاك لم أتجاوز الثالثة عشرة من العمر فأبى إلا ما أراد، فسكت مضمرة الشر في قلبي.
وكان سيدك قد جاء إلى هذه الجهات في جملة من أقاربه الأمراء المماليك فرارا من وجه الفرنسيين الذين دخلوا مصر في تلك الأيام، وكان شابا لطيفا فأبصرته في الكروم وأحببته، وإنما لم يخطر ببالي أمر التزوج به لبعد العلاقة بيننا، ولأني لم أنشأ نشأة تتيح لي ذلك.
وذات يوم فاتحني أبي في أمر الزواج بابن عمي فلم أجبه، ففهم أني راضية، وبعد قليل خرج من البيت وجلست أفكر في أمري حتى ضجرت فخرجت إلى الكروم، ومكثت هناك مرتبكة حتى غربت الشمس، فشاهدت جماعة على خيول كأنهم مسافرون، وتبينت أنهم سيدك وجماعته، فوقفت مذهولة، وقد كدت أمل الحياة فاقترب مني رجل منهم يسأل عن الناطور ليشتري عنبا، وكنت قد شاهدته مرارا قبل ذلك الوقت فلم أخف منه، فلما عرفني قال لي: «ما بالك أيتها الصبية؟» فقلت: «إني أنتظر بين الكروم.» فقال: «تعالي معي لأوصلك إلى بيتك لأن الشمس قد غابت، وقد يخشى عليك.» فسرت معه وأنا لا أعلم ماذا أفعل، فإذا هو قد أخذني إلى جماعته وأنا لا أدري، ثم رأيتهم يهمسون فيما بينهم، وبعد قليل تقدم إلي سيدك وسألني عما إذا كنت أريد الزواج به، فلم أجبه لأن الحياء غلب علي، فضلا عن أني لم أكن أفهم معنى الزواج، غير أنه أصر على إرضائي، وأنا لشدة غيظي من والدي ورغبتي في الفرار من الحفرة التي حفرها لي، سلمت بما أرادوه وأنا آسفة على ذلك، ولم يكن جوابي إلا الصمت فأخذوني معهم في ظلام ذلك الليل، وبقيت عدة أيام لم تجف دموعي لحظة، وما زلنا حتى وصلنا إلى صيدا وهناك عقد علي شرعيا. ولما عاد إلى مصر أخذني معه، وما زلت كما علمت؛ ولذلك تراني أود إخفاء أمري لئلا أقع في بلاء أعظم، لأن أبي قد أباح دمي، وكذلك الأمير بشير لأنه كان حاكما على لبنان إذ ذاك أيضا.»
فدهش سعيد لهذه الحكاية التي لم تكن تخطر له على بال، وقال لجميلة: «إذن أنت من أقرباء هذا الأمير، فسبحان جامع المتفرقين، والآن ماذا نفعل؟»
فقالت: «ما لنا إلا الاعتصام بالصبر الجميل، وأنا واثقة أن سيدك إذا كان لا يزال حيا، لا بد أن نجتمع به بإذن الله، والله مع الصابرين، وأما الآن فأنا مشتغلة البال قلقة على غريب.»
وأخذ سعيد يطيب خاطرها، ويخفف من قلقها حتى صبرت. ولكنها نهضت ذات يوم من النوم مذعورة، وبعثت إلى سعيد وقالت له: «اسمع يا سعيد، لقد نهضت في هذا الصباح من النوم منزعجة على أثر حلم مزعج هالني أمره؛ ولذلك تراني قلقة على غريب، ولم يعد لي صبر على فراقه، فاكتب إلى الأمير بالنيابة عني تطلب إليه أن يبعث إلي غريبا، إذ لا عزاء لي سواه فعسى ألا يحرمني الله منه.» قالت ذلك وتنهدت
فأخذ سعيد ورقا وكتب إلى الأمير بشير بما أمرت، وأرسل الكتاب مع الساعي الذي كلف بإيصال البريد إليه كما جرت العادة.
صفحة غير معروفة