عجب الأمير لهذه القصة الغريبة، ولكنه برغم فراسته المشهورة لم يفطن لعلاقة أمين بك بغريب، أو لعله انتبه وتجاهل لغرض في نفسه، على أنه قال لأمين بك: «طب نفسا وقر عينا، فلا بد لي من أن أفاوض العزيز في ذلك عندما أعود إلى القاهرة، وأرجو أن أستطيع مكافأتك على حسن صنيعك.» فطلب إليه أمين بك أن يحفظ كل ذلك سرا، فوعده الأمير خيرا.
إبراهيم باشا
ثم خرجا من الخيمة، فإذا هما برسول قادم من بني سويف، وبيده كتاب للأمين ففضه فوجده ينبئ بقرب مرور إبراهيم باشا بالفشن متوجها إلى الفرطوش في جهات الصعيد، فالتفت الأمير إلى أمين بك قائلا: «هذه فرصة لا ينبغي ضياعها، فإن إبراهيم باشا ابن عزيز مصر سيمر بنا قريبا، ولا ريب أنه سينزل ليبيت عندنا ليلة أو يقضي بيننا نهارا، وأنت تعلم أنه صاحب منزلة كبيرة عند والده، وقد سبق لي أن حادثته فوجدته حسن الطوية محبا للعدل، فإذا اغتنمنا هذه الفرصة وقصصنا عليه القصة ساعدنا ولا ريب مساعدة كبيرة، فالأصوب على ما أظن أن تركب معي إلى الفشن في زي واحد من رجالي، فلا يعرفك أحد.
وإذا لم يعف العزيز عنك، أو لم تجد امرأتك وأولادك، وكرهت الإقامة في هذه البلاد، فإنك تسير معي إلى لبنان، وتكون من خاصتي لأنك أوليتني جميلا لا أنساه مدى الدهر.» فانشرح صدر أمين بك لهذه العبارات اللطيفة، وقال: «سمعا وطاعة.» ثم أمر من في الخيام أن يقتلعوها، وكتب كتابا دفعه إلى واحد منهم، وأمره أن يوصله إلى أمير القبيلة التي ساعدته مثنيا عليه، وأسر إلى ذلك الرسول بما جرى، وطلب إليه أن يبلغ ذلك إلى أميره سرا.
فانتبهت وقد كاد يفوتني الوقت، فركبت جوادي وقصدت إلى القلعة، فلما وصلت إلى باب العزب - من أبوابها - رأيت الموكب قادما.
وفي عصر ذلك اليوم، ركب القوم وسار الأمير بشير في طليعتهم، وإلى جانبه الأمير أمين وأمين بك، وكان هذا قد طلب من الأمير بشير أن يناديه باسم سليمان خوفا من إفشاء الأمر، فصار كل من معه يعرفونه بهذا الاسم، وحينما وصل الجميع إلى الفشن، سأل سليمان عن غريب وجراحه. فقيل له إنه بخير وسلامة، فذهب إليه وقبله فقبل الغلام يده، ولم يكن غريب ولا أحد من أولاد الأمير يعلم شيئا عن أمين بك سوى أنه رجل له فضل عليهم، وقد جاء به الأمير بشير ليكافئه بالتوسط له عند عزيز مصر ليعفو عن ذنب كان قد اقترفه، وأن اسمه سليمان.
ثم بعث الكاشف إلى الأمير، يطلب إليه الحضور بمن معه إلى بني سويف بأمر العزيز فنزلوا هناك، وبعد يسير وردت الأخبار بقرب وصول إبراهيم باشا فأخذ «المتسلم» يهيئ معدات الاستقبال والترحيب، فجاء بمن عنده من الجند ورتبهم صفوفا عند ضفة النيل بأحسن ما لديهم من الملابس، ونزل أيضا الأمير بشير ومن معه لاستقباله، أما أمين بك فبقي في البيت متنكرا بثياب أحد رجال الأمير. •••
وذات صباح وصل إبراهيم باشا بالذهبية على النيل، ولما طلع إلى البر تلقاه الكاشف وقبل يده، ثم حول انتباهه إلى الأمير بشير فتصافحا وسارا معا إلى المنزل حيث أعد لهما ما يلزم.
وكان إبراهيم باشا ربعة في الرجال، مستوي القامة منتصبها، وكان عمره خمسا وثلاثين سنة ، دقيق الأنف أشهل العينين حادهما مستطيل الوجه، وكان بوجهه أثر الجدري، وقد لبس الحلة الرسمية، وعلى صدرها مستعرضات من جدائل القصب، وكذلك كماها محليان موشيان به.
وكان وجهه أقرب إلى العبوس منه إلى الطلاقة والدعة، ولذلك لم تكن الرعية تحبه كأبيه، وكان سريع الغضب حاد الطبع، لكنه سليم النية، ليس في قلبه مكر ولا خداع البتة.
صفحة غير معروفة