فقال سعيد: «هذه مسألة فيها نظر؛ لأني أرى سيدتي تكره الإقامة في بلد فقدت فيه رفيق حياتها وليس لها فيه مصلحة، ولم نفقد سيدنا فقط بل فقدنا معه كل متاعنا وأصبحنا كما ترانا، وربما فضلنا الإقامة تحت رعاية سعادة الأمير بقية حياتنا.» قال ذلك ولم يستطع أن يمنع نفسه من البكاء، وكذلك جميلة والرئيس. أما الأمير فكان ثابت الجنان قوي الجأش على عادته فلم يظهر عليه شيء من ذلك، وإنما شعر شعورا غير اعتيادي عند تأمله تلك السيدة، فقال: «اعلمي يا سيدة أني أقبلكما في بلادي بكل ترحاب، بل أدعوك أن تقيمي عندي في داري كأعز من فيها لتعيشي مع حرمي.» فأشارت جميلة بملامح وجهها أنها تقبل الدعوة بالامتنان والشكر، ثم استوت واقفة على قدميها أمام الأمير كأنها من حور الجنان، والدموع ملء عينيها، وخاطبته بكل رزانة ووقار قائلة: «إننا نشكر الحي الأزلي الذي هدانا لهذا السبيل، وقادنا إلى أعتابك أيها الأمير، فقد جبرت قلوبنا، وخففت مصابنا فوجبت علينا طاعتك، والانقياد إلى أمرك.»
فأشار الأمير إلى أحد الخدم أن يذهب بالسيدة إلى دار الحريم، وأوصى بما يلزم لإكرامها، فحمل سعيد ولدها غريبا، وخرجت من القاعة، ثم ودعت الرئيس، وقالت له: «لن أنسى يا سيدي الأب فضلك علينا، فعسى أن يمكننا الله من مكافأتك، وأسألك أن تذكرنا وأن تزورنا من وقت لآخر.» فأجابها الرئيس بمثل قولها، وانصرف.
دار الحريم
وبعد انصراف جميلة والرئيس، عاد سعيد إلى الأمير وقبل يديه، وأثنى على معروفه، وانتظر أمره، فسأله عما يعرف فقال إنه يعرف التركية كلاما وكتابة ويحسن العربية. فأمر بأن يكون من خدمه الخاصين به، فشكر فضله وخرج.
أما جميلة فخرجت من القاعة إلى الصحن الداخلي، فرأت بجانب القاعة بابا كبيرا مرصعا بالفسيفساء الجميلة، يؤدي إلى دار صغيرة، ودهليز، حتى ينتهي إلى غرف الحريم، فأوصلها الرجل إلى أول غرفة، وسلمها إلى الخصيان، فساروا بها إلى قاعة الاستقبال المفروشة بالسجاد الثمين والمحلاة جدرانها بنقوش بديعة. وذهب أحد الخصيان لإخبار زوجة الأمير بذلك، فجاءت ومعها بعض أهل «السراي» من السيدات لاستقبالها والترحيب بها، فلما تأملتها تساقطت العبرات على خديها رغم إرادتها. ثم أخذت غريبا وجعلت تتأمله وتقبله لأنه كان بارع الجمال، ثم تناولته منها نساء «السراي» جميعهن وجعلن يقبلنه ويدعون له بطول العمر، ويذكرون اسم الله وقاية له من العين.
استأنست جميلة بهؤلاء النسوة، لكنها لم تضحك لأن قلبها لم يكن يفرح لشيء، بعد أن فقدت زوجها وولدها، وقاست ما قاسته من المشقة والعذاب. ولم تكن تتعزى عن مصابها بشيء، برغم ما لاقته من الترحاب وحسن المعاملة من امرأة الأمير ومن في بيته من النساء.
وفي مساء ذلك اليوم، جاء الأمير إلى دار الحريم فسأل زوجته عن جميلة فقالت إنها آنست منها امرأة فاضلة كاملة ليس فيها عيب. فأخبرها عن كيفية توصله إليها، إلى أن قال: «ومما حملني على إكرام هذه السيدة، فضلا عن انكسار قلبها، وما هي عليه من الكمال، أني رأيت فيها مشابهة تامة لك في الشكل والملامح والخلق، فسبحان الخلاق! ولذلك عندما شاهدتها استأنست بها وعاملتها معاملة القريب، ووجدت في نفسي ميلا لها ولإكرامها.» فقالت زوجته: «لقد قلت الصواب يا مولاي؛ لأنها حقيقة تشابه صديقة لي من بنات أسرتنا عرفتها منذ الصغر، رحمها الله، ولذلك عندما رأيت جميلة اليوم قبلتها، واستأنست بها ولم أستطع حبس دموعي عند مشاهدتها لتذكري تلك الابنة المسكينة، التي ذهبت ضحية تعصب والدها.»
ثم دعا الأمير جميلة، فهمت بتقبيل يده، فأمسك بها قائلا: «انظري أيتها السيدة، لقد قدر الله لك أن تصلي إلينا، وقد كان ذلك من بواعث سرورنا، ولا سيما أن الست (يعني زوجته) قد أحبتك واستأنست بك، فلك من الآن كل ما تطلبينه، واعلمي أني على استعداد لأن أقدم لك كل ما تحتاجين إليه عن رضا ورغبة مني؛ إذ يبدو لي أنك من قوم كرام. ولا حاجة بي إلى معرفة نسبك؛ لأني فهمت أنك لا تريدين التصريح به عندما كلمتك في صباح هذا اليوم، وإنما أسألك أن تقترحي علي كل ما تريدينه.»
وكان وجه جميلة أثناء ذلك يتقلب بين الاصفرار والاحمرار، ثم خنقتها العبرات وتنهدت تنهدا خفيفا، فلما أتم الأمير كلامه قالت له، وهي مطرقة إلى الأرض: «ليس لي عندك اقتراح ولا وصية إلا رعاية ولدي غريب، فإنه عزائي الوحيد في هذا العالم.»
فقال لها الأمير: «طيبي نفسا وقري عينا، فإني سأعامله معاملة ولدي.» ثم استأنفت الحديث قائلة: «وأتوسل إلى سيدي إذا شاء كرمه أن يسمح لي من حين إلى آخر بمشاهدة ذلك العبد الأمين، بل الصديق الوفي سعيد، فإنه كان سببا في حفظ حياتي، وقاسى من أجلي مشقات عظيمة.» فأجابها إلى ذلك، على أن يجيء إليها مرة في كل أسبوع، فأثنت على عطفه وأكبت على يده لتقبلها فمنعها.
صفحة غير معروفة