وتساءلت في نفسي عن الزمن الذي قضاه ذلك الرجل في الجزيرة، وعما أتى به إليها أول الأمر. ترى من هو؟ وبأية سلطة يمنح نفسه الحق في أن يأمرني وينهاني؟ ولماذا أطفأ النار التي أوقدتها؟
وتكورت في كهفي، وأغمضت عيني، وتمنيت لو عدت وحسب إلى الوطن، أو إلى السفينة بيجي سو مع أمي وأبي. وكادت هذه الأحلام الرائعة أن تأتيني بالنوم، ولكن البعوض والعواء الصادر من الغابة سرعان ما عادا بي إلى الوعي، حتى أواجه من جديد كل العواقب الرهيبة لما أنا فيه من محنة مزرية.
وخطر لي فجأة أنني سبق لي أن شاهدت وجه الرجل العجوز في مكان ما. ولم أعرف كيف يكون ذلك، وبينما كنت راقدا أقلب هذا الأمر على وجوهه، أحسست بقطعة الزجاج في جيبي تضغط على فخذي، واستبشرت فجأة. كانت زجاجة إشعال النار لا تزال معي، لسوف أوقد النار من جديد، ولكن هذه المرة في مكان لا يستطيع اكتشافه. لسوف أنتظر مقدم سفينة، ولسوف أنجح في البقاء على قيد الحياة حتى ذلك الحين، لقد نجح العجوز من قبلي في هذا المكان. فإذا كان قد نجح فسوف أنجح، وأستطيع أن أعتمد على نفسي أيضا، ولن أحتاج إليه.
شعرت من جديد بالجوع والعطش. سأذهب غدا إلى الغابة وأحضر الطعام لنفسي. وسوف أجد الماء. وبطريقة ما سوف أصيد السمك. فأنا ماهر في صيد السمك. وما دمت استطعت صيد السمك في مياه الخزان وعلى ظهر السفينة بيجي سو، فسوف أصيده هنا أيضا.
وقضيت تلك الليلة ألعن أسراب الحشرات الطنانة التي تنقض علي، وأصوات الثرثرة في الغابة التي لا تسكت، ولا تريدني أن أسكت. وظللت أتصور مياه الخزان في خيالي، ووالدتي وهي تضحك لابسة قبعة ربان السفينة. وأحسست بالدموع في عيني وحاولت ألا أفكر فيها. وفكرت في الرجل، وكنت لا أزال أحاول أن أتذكر اسمه عندما غلبني النعاس.
واستيقظت وعرفت على الفور أنه جاءنا. كان الأمر يبدو كالحلم. ويبدو أن ستلا رأت في منامها الحلم نفسه، إذ بدأت فورا تتواثب فوق الصخور المطلة على الكهف. ووجدت ما كانت تتوقع بوضوح أن يكون موجودا؛ إناء الماء الخاص بها وقد امتلأ من جديد. وكان هناك أيضا، على الرف الصخري المرتفع وراءها، نفس الصفيحة المقلوبة وبجوارها وعاء الماء الخاص بي، تماما مثلما حدث في صباح اليوم السابق، كنت أعرف أنه سيكون ممتلئا، وكنت أعرف وأنا أزيح الصفيحة أن الطعام سيكون موجودا.
وجلست فوق الصخرة واضعا ساقا على ساق، أمضغ بنهم شرائح السمك وألقي بقطعة منه إلى ستلا حتى تلتقطها، وعندها أدركت المعنى الذي كان يرمي إليه بذلك تماما. لم نكن أصدقاء، بل ولن نكون أصدقاء. فهو يريدني أن أبقى على قيد الحياة، وكذلك ستلا، بشرط أن أتبع القواعد التي يضعها. فكان علي أن ألتزم بجانبي من الجزيرة، وألا أشعل النار أبدا. كان كل ذلك واضحا تماما.
ومع تضاؤل أي رجاء حقيقي في الإنقاذ العاجل، ازداد تقبلي لحالي يوما بعد يوم. كنت أعرف أنه لا خيار لي سوى أن أقبل شروطه، وأتبع النظام الذي وضعه، مؤقتا. كان قد وضع الآن الحدود الجغرافية، إذ رسم على الرمال خطا يمتد من الغابة إلى البحر على جانبي الجزيرة، وكان كثيرا ما يجدده، كلما احتاج إلى تجديد. كانت ستلا تتجاوزه بطبيعة الحال، فلم أكن أستطيع أن أمنعها، لكنني لم أتجاوزه. لم تكن لذلك قيمة. وعلى الرغم من العداء الذي رأيته في عينيه والسكين الضخمة التي شاهدتها في حزامه، فلم أكن أتصور حقا أنه يمكن أن يؤذيني يوما ما لكنني كنت أخشاه، وبسبب هذه الخشية، ولأنني كنت أعرف أنني سأفقد الكثير، لم أكن أريد أن أواجهه، فهو على أية حال يقدم لنا كل ما نحتاجه من طعام وماء كل يوم.
كنت قد بدأت العثور على بعض الثمار الصالحة للأكل بنفسي، وخصوصا ثمرة ذات قشرة شائكة (اكتشفت فيما بعد أن اسمها «رامبوتان» أي ذات الشعر)، كان طعمها لذيذا لكنني لم أكن أجد ما يكفي منها، كما أن ستلا ترفض أن تأكلها. كنت أحيانا أجد ثمار جوز الهند السليمة، ولكن لبنها ولحمها كثيرا ما كانا فاسدي المذاق. وحاولت مرة أو مرتين أن أتسلق بعض أشجار جوز الهند، لكنها كانت بالغة الارتفاع، وسرعان ما توقفت عن المحاولة.
حاولت صيد السمك في المياه الضحلة، بعد أن أعددت لذلك حربة بدائية، وهي عصا طويلة سننت طرفها بالصخور، ولكن السمك كان يفلت مني لبطء ضربتي. كانت المياه تزخر بالأسماك في حالات كثيرة، لكنها كانت بالغة الصغر وشديدة السرعة. وهكذا، وسواء شئنا أم أبينا، كنا لا نزال في مسيس الحاجة إلى حصة الطعام اليومية من السمك والفواكه والماء التي كان العجوز يأتي بها إلينا.
صفحة غير معروفة