فأجابه: لقد قلبته وشوهته، حتى إن الناس أصبحوا لا يعتقدون به، بل يعتقدون بتعاليمي ويصدقونها، وهم يسمونها باسمه وينسبونها إليه. - أخبرني كيف تم لك ذلك؟ - لقد جرت الأمور من نفسها، وأنا كنت مساعدا على تنفيذها وزيادة شيوعها.
فقال بعلزبول: اذكر لي ذلك باختصار، وتباعد عن الإسهاب والإطناب.
فأطرق الشيطان الموشح رأسه كأنه يجمع أفكاره وصمت برهة، ثم رفع رأسه وقال: عندما حدثت تلك الحادثة الهائلة التي قوضت أركان جهنم وجعلتها أثرا بعد عين، وجعلت أبانا ورئيسنا يبتعد عنا بعدا ظننا أن لا تلاقي بعده؛ ذهبت عند ذاك إلى تلك الأماكن التي يبشرون فيها بذلك التعليم الذي كاد يقضي علينا القضاء المبرم ولا يدع لنا ذكرا في الوجود؛ لأرى كيف يعيش أولئك الناس الذين قبلوه واتبعوه، فرأيت ما أدهشني وجعلني أندب سوء حظنا وأذرف الدمع السخين، ولا أبالغ إذا قلت بأني بكيت بدل الدمع دما، وجثمت أرثي مملكتنا العظيمة التي دالت دولتها ودرست معالمها، ذلك لأني أبصرت الناس العائشين بحسب ذلك التعليم يجرون مطارف السعادة والهناء، وأيقنت أن لا قدرة لي ولأمثالي على تضليلهم أو التغرير بهم.
فهم لا يغضبون على بعضهم بعضا، بل على عكس ذلك يتساهلون تساهلا عظيما في أعمالهم وتصرفاتهم المتبادلة، ولم يكن لجمال النساء تأثير عليهم، وكثيرون منهم لم يتزوجوا ولم يخضعوا لشهوات الجسد، والمتزوجون منهم اقتصروا على امرأة واحدة اقتصارا حقيقيا، فلم يهجروها ولا خانوها ولم يعرفوا غيرها مطلقا، وفوق ذلك فإنهم جميعا ما كانوا يهتمون بجمع حطام هذه الدنيا ولا التفتوا إلى زخارفها، بل كان جميع ما يمتلكونه مشتركا بين الجميع على السواء، ولم يقاوموا المعتدين عليهم بل كانوا يقابلون الشر بالخير والاعتداء بالتجاوز والإغضاء، ولذلك كانت حياتهم حياة طيبة منزهة عن النقائص والشوائب، ولذلك كان يتوافد عليهم الناس المختلفو الأجناس وينضمون إليهم وينسجون على منوالهم في عيشة الصلاح والتقوى والمحبة. ولما رأيت ذلك أيقنت بتقلص سيادتنا وزوال سلطتنا، وعزمت على الهرب والفرار.
ولكنه حدث على حين فجأة حادث قليل الأهمية بحد نفسه، ولكنه ظهر لي أنه مما يستوجب الالتفات، فلبثت مكاني متتبعا سيره مراقبا نتيجته.
ظهر بين أولئك الناس اختلاف طفيف، وهو أن بعضهم رأى أنه يجب على جميع متبعي هذا التعليم الجديد أن يختتنوا ويمتنعوا عن تناول أطعمة عبدة الأصنام، ورأى البعض الآخر أنه لا حاجة للتمسك بهذه الأمور، وأنه يجوز عدم الاختتان وتناول جميع الأطعمة أية كانت ولأي كانت.
أما أنا فقد اغتنمت هذه الفرصة الثمينة وصورت للفريقين أن اختلافهم هذا على جانب عظيم من الأهمية، وأنه لا يجوز مطلقا لفريق أن يتنازل عن رأيه واعتقاده لأن ذلك يتعلق بعبادة الله، ومن حسن حظي أن ما وسوست به لهم صادف في قلوبهم تربة جيدة مستعدة له، فصدقوني وثارت في أفئدتهم عوامل الشقاق والنزاع، فقاوموا بعضهم وجها لوجه، وهذا ما تمنيته وسعيت إليه.
ثم اتسع بينهم خرق الخلاف، وثارت في نفوسهم براكين الغضب بعد خمودها أمدا طويلا، وكنت أنا لا أغفل دقيقة عن التحريض والتهييج، وزينت لهم أخيرا أن يبرهنوا على صحة تعليمهم بالعجائب.
ومما لا مشاحة فيه هو أن العجائب لا يمكن أن توضح حقيقة التعليم أو تبرهن على صحته؛ لأن النور ليس في حاجة للدليل، ولكن ميل كل فريق للفوز على الآخر بأنه هو المحق في اعتقاده جعلهم جميعا يطلبون من بعضهم تأييد دعواهم بالعجائب، وكان من السهل علي اختلاق العجائب وإرشادهم إليها، وسرعان ما صدقوني وآمنوا بأقوالي وتحريضاتي، وأصبحوا ميالين لإيجاد العلل والأسباب المؤيدة لأقوالهم المثبتة لتعاليمهم.
فقال بعضهم إنه نزلت عليهم ألسنة نارية، وقال البعض الآخر إنهم رأوا نفس المعلم الذي مات. وقال الفريقان غير ذلك مما هو من هذا القبيل، فاختلقوا أمورا ما أنزل الله بها من سلطان ولم تكن في الحسبان، وكذبوا باسم ذاك الذي دعانا نحن معشر الشياطين كذبة مفترين، ولكن أتباعه زادوا علينا بالافتراءات والاختلاقات، ووصموا نفوسهم بوصمة الكذب التي كانت خاصة بنا، فساوونا في ذلك وهم لا يشعرون. وقال أحد الفريقين للآخر: عجائبنا هي الحقيقية وعجائبكم مختلقة، فضلا عن أنها لا أهمية لها، فتصدى هذا الفريق لتكذيب هذه الدعوى وحاول إثبات صحة عجائبه وأهميتها.
صفحة غير معروفة