فقال أمين: إذا كان مايو قد هيأ فيه العمال عيدا لهم، فإن عاملات النحل قد وجدت فيه عيدها. - ونحن أيضا يا أمين قد أحببنا فيه عيدا جديدا هو عيد حبنا المستنير في رعاية أمنا الطبيعة. - تسعدني ملاحظاتك هذه يا بثينة، ولعل هذه الأم الكريمة توحي إليك بعواطف جديدة أكرم وأسخى إلي. - أحسب أني بلغت الغاية يا ناكر الحب. - إن من يتذوق الحب كما تذوقته لا يقنع بما يشرب من خمره ولا يثمل منها ولا يتوقف عن طلب المزيد، ومعلماتي النحل في دأبهن شعارهن مثل شعاري وطموحهن عين طموحي ومثاليتهن رائد مثاليتي ... لولا تأخر الموسم يا بثينة لامتلأت الخلايا الآن بالرحيق، ولكن استمرار المطر والبرد طويلا أخر الربيع فتأخر زهر البرسيم، وأزهاره تمثل المصدر الرئيسي للرحيق في منطقة الإسكندرية، ولولا تأخره لكانت جميع الطوائف مهيأة خلاياها لاستقبال الرحيق الجديد، وعلي الآن أن أقوم بالاستعداد لذلك في حين أني كنت في أعوام سابقة أقوم به في شهر أبريل، وأما في هذا العام فقد اضطررت إلى تغذية النحل بالشراب السكري في الشهرين الماضيين تعويضا عن إمحال المصادر الطبيعية حتى تستعين النحل بهذا الشراب، وبما تجمعه من دقيق الأزهار على تغذية يرقاتها النامية وتغذية أنفسها معا ... - ولكن ألا يوجد الآن في الحقول ما يكفي من الأزهار لإفراز الرحيق وتغذية النحل وإسعاد النحال مع أني أرى اليوم أزهار البرسيم وافرة. - ملاحظاتك سديدة يا بثينة، وأعتقد أننا بعد أسبوع أو عشرة أيام سنشهد بداية فيض العسل، وعلى الأخص بعد أن توقف ري البرسيم بأمر الحكومة في سبيل المقاومة لدودة القطن؛ إذ إن نتيجة ذلك أن أزهار البرسيم التي حرمت أشجارها الري ستتهافت على الفرز الرحيقي لتجتذب الحشرات وفي طليعتها النحل كي تقوم بوظيفة تلقيحها فتنجم عن ذلك البذور التي هي وسيلة التكاثر لهذه النباتات، وهذا من آيات الطبيعة. - ولكن ألا توجد أزهار أخرى مغنية للنحل في هذا الأوان عن أزهار البرسيم ؟ - نعم، توجد أزهار أخرى متعددة كانت أيضا متحلية في الشهر الماضي، ولكنها غير كافية ولا تغني، فلا تمنحنا فيضا رحيقيا، وها هي اللبا والعليق والخلة من الأزهار الريفية البرية الماثلة أمامنا ولكن في قلة نسبية، وبين ما تزهر من الفواكه في هذا الشهر الفراولة وعنب الديب والجوافة والتين الشوكي والعجور والبطيخ والشمام، وبين ما تزهر من الخضر الكوسة والقرع والخيار والرجلة والباميا والخس والبصل والمقدونس والاسبرجس إلى جانب أشجار الزينة ونباتاتها المزهرة كعباد الشمس والزينيا والبرتولاكا أو أرجلة الزهور، وإلى جانب أشجار الظل كاللبخ والكافور والبونسيانا والاستركوليا والحكوراندا ... وما هذه إلا أمثلة من كثير، وما دام الجو مشجعا للنحل على السرح ودافئا منبها للإفراز الرحيقي فلن تجوع النحل في هذا الشهر؛ بل ستستطيع التكاثر بتنبيه ملكتها إلى البيض الوافر وبحسن تغذية يرقاتها وصغارها، وقد تجمع وتخزن الرحيق في اعتدال ما لم تكن الخلايا وسط منطقة غنية غنى ظاهرا بمثل تلك الأزهار. أما الفيض الحقيقي فيعتمد على سخاء البرسيم وعلى تجاوبه مع النحل وإلى جانب الاستعداد بالأقراص الخالية لهذا الفيض لا بد من منع انثيال النحل نتيجة تكاثره البالغ عادة، ولا بد لي إذن يا عزيزتي من الكشف عن جميع الطوائف مرة كل أسبوع، ومن حيث إني لا أملك من الوقت والهمة - رغم مساعدتك المرتقبة يا تلميذتي الغيور - ما يكفي للكشف عن هذه الطوائف في يوم واحد، فلا بد لي من التردد على هذا المنحل ثلاث مرات أسبوعيا إلى أن يزول خطر الانثيال ... وقد عهدت إلى مساعدي بالكشف عن المناحل الأخرى وإن كان لا غنى لنا عن التردد عليها أيضا للإشراف على ما يجري فيها. فهل لنا الآن أن نستأنف العمل؟ - ما رأيك إذا اعتصبت عن العمل؟ لقد أشبعتني يا أستاذي غذاء حلوا بهذا الحديث الشهي، ومثل هذا الغذاء الفكري كالغذاء البدني يورث شيئا من البلادة نتيجة التخمة. - هذه تحية لطيفة منك يا عزيزتي، وإيذان بصمتي. - وهذه تحية أخرى مني مؤذنة لك بالكلام ...
وطبعت بثينة قبلة لطيفة على فمه أشرقت لها أساريره وشجعته فعاد يطالبها باستئناف العمل. - إذن هلمي بنا يا معبودتي لتحية النحل ومحادثتها وتلقي أسرارها ... - أعدك بهذا، ولكن من الغد يا أمين، ولنحضر يوميا إذا شئت حتى تنجز جميع أعمالنا كما نود، أما اليوم فعلينا أن نشغل بمناجاتنا العاطفية، وسأطالع في المساء بعض كتاباتك عن أوليات النحالة حتى أتابع من الغد أحاديثك في يقظة ترضيك. - رضيت أمرك ومعاهدتك، فهل هي مبرمة؟ أم هي من قبيل المعاهدات التي قد تثير الحروب فيما بيننا؟ - هي معاهدة سلام، ولكن أتكره أن تثار الحرب بيننا؟ - الحرب بيننا لم تنته بعد، وإنما نحن في هدنة.
وفي ظلال هذه الهدنة غنما يوما لا تجود به الحياة إلا في رعاية الحب.
الفصل الرابع
كانت بثينة تحاور أمينا ذلك الحوار بدافع من أنوثتها دون وعي لتزيده تعلقا بصحبتها، حينما هي في الوقت ذاته تأبى بعقلها الواعي الحياة الزوجية؛ لأن شخصيتها القوية أو أنانيتها تجانب المسئوليات الزوجية والخضوع لأي رجل، وهي لو أنصفت نشأته وخلقه وثقافته لقدرت أنه لا يمكن أن ينظر إلى شريكة حياته إلا نظرة سمحة مكرمة، وأن معاملته إياها وهي زوجة لا يمكن أن تقل إعزازا لها عن معاملته إياها وهي صديقة حبيبة. فليس الزواج في نظر أمثاله إلا ارتباطا معينا. لكن الأساس العاطفي واحد - ألا وهو الحب الصادق، ولكنها كانت طوع عواملها الوجدانية الدفينة قبل تأملها وتفكيرها؛ بل دون تأملها وتفكيرها ... وكان أمين - وهو لا يعاشرها - يعدها في قرارة نفسه زوجته الوحيدة الدائمة ويهبها كل أحلامه وعواطفه، ويعلق عليها آماله المستقبلة وإن لم يجرؤ على التعبير عنها أمامها من جديد. •••
دفع بثينة إعجابها بأمين وإخلاصها له وتقديرها لرسالته النافعة إلى تنظيم مطالعتها عن النحل فقرأت في تلك الليلة طرفا صالحا من أوليات النحالة استعدادا لزيارتها التالية، وقد أحست في نفسها بأن من الواجب عليها أن تجاري أمينا في جهوده الطيبة - وإن لاحت شاقة عليها ما دام يريد لها الأنس والخير، وما دام يريد لأبناء وطنه الإصلاح والسعادة، وساهم في التأثير عليها تشيعها للحركة النسائية التي تأبى الاعتراف بعجز المرأة عن مجاراة الرجل في جميع الميادين.
فلما صحبته إلى المنحل هذه المرة لم تكن تلبس كبنات جنسها بل صحبته مترجلة، وقد عقدت العزم على العمل في جلد يرضي كبرياءها ويرضي نشاطه الذي لا يكل، وما كادا يدخلان من باب المنحل حتى حام حولهما عدد من النحل ولكن دون أن تمسهما بسوء ... وكادت بثينة تبدي تخوفها ولكنها ضبطت نفسها فلم تخنها شجاعتها، واكتفت بالسؤال: ما بال النحل يا أمين قلقة حولنا؟ - لا قلق يساورها يا عزيزتي، وإنما هي فرحة مرحبة بك. - ولكن النحل معروفة بكدها وتعرف قيمة العمل والوقت، فكيف ترتضي ترك الحقول وإضاعة وقتها سدى؟ - وكيف تتهم بتضييع وقتها سدى وهي تتهافت على رؤيتك يا نور عيني؟! - إذا أنت تشاركها في إضاعة وقتك ووقتي أيضا بمثل هذا الكلام. - هذا الكلام؟ ألم تطالبي يا مهجتي بأزاهير الحب وألحانه على الدوام؟ - لا يا أمين، سأكتفي بتموينك إياي دون محاباة. - كأنما أنا جاحد حق الجمال. - لقد نجحت ونجحت نحلك في إشعاري بقيمة الوقت.
وبقيت هذه النحلات الشاردة تطوف بهما فقال أمين: أرأيت كيف تلحف في دعوتنا إلى فتح خلاياها؟ ... لا تضحكي فأنا لم أفهم لغتها. - لم أقرأ أن للنحل لغة تخاطب بينها وبين الآدميين. - لو كنت قرأت يا بثينتي مؤلفات النحالة في القرن الماضي لكنت وجدت فيها بعض العجب من هذا القبيل! ... فلقد كان يدعي بعض النحالين الخياليين القدرة والسلطان على النحل إلى درجة تنظيمها في عرض عسكري على المنضدة أمام الناظرين المشدوهين، أما العلم الحديث فليست له هذه السيطرة التهريجية على النحل، ولكن له السلطان المنظم النافع الذي يزيد من رفاهية النحل وقوتها ويكسب النحال ثروة من جهده وجهدها. - ومع ذلك فهذه نحلاتك لا تريد أن تتركنا نستريح أو نتكاسل فهلم بنا إلى العمل. - يسرني أن تكوني الآن الحافزة لي. - والمديرة للمنحل؟ - ولم لا؟ لن يمر الموسم إلا وأنت صاحبة السلطان عليه فوق سلطانك علي.
كانت بثينة في البداية تحتاط ضد لسع النحل بلبس قفاز من الجلد ، فأخذ أمين يوضح لها أن لبس القفاز غير جدير بأي نحال فنان فضلا عن نحالة رشيقة مثلها؛ لأنه يعطل المرء عن العمليات الدقيقة، كما أنه غالبا يستثير النحل نظرا لكراهيتها رائحة الجلد، وفوق هذا فلا موجب له ما دامت النحل الشائعة في المنحل غير شرسة، وما دام النحال رفيقا في معاملته لها، وأخيرا ليس لسع النحل في اعتدال ضارا بالإنسان بل هو مفيد في الوقاية من بعض الإصابات الروماتزمية وفي علاجها، حتى إن تحاضير منوعة من سمه أصبحت في متناول الأطباء للحقن تحت الجلد وللدهان في هيئة مراهم فوق المفاصل المريضة، ومهما يكن من شيء فمتى اعتاد المرء لسع النحل اكتسب مناعة ولم يصبه ورم محسوس، وإن كان الورم على أي حال وقتيا وسليم العاقبة.
قالت بثينة: ولكني قرأت عن حالة وفاة نتيجة للسع النحل. - لا يا أستاذتي! هذا نتيجة لفرط الحساسية قبل لسع النحل، وهذه حالة شاذة نادرة جدا، ومن ثمة وجبت معرفة استعداد المرء للعمل في النحالة وتأثره بلسع النحل قبل إقدامه على اقتناء الخلايا والنحل لنفسه، ويجب في كل منحل يرتاده الزوار أن توجد حقن الأدرنالين والكلسيوم لمواجهة الطوارئ. - إني لا أعني هذا يا أمين، وأحسب أني أخطأت في التعبير. حالة الوفاة التي أشرت إليها نشأت على ما أذكر نتيجة لسع عدد كبير من النحل، وقد أصابت فلاحا فمات في يومه اختناقا كما نفقت بقرته. - توجد ضروب من النحل شرسة بفطرتها كالنحل التونسي والنحل القبرصي وبعض سلالات النحل المصري متى كانت طوائفها قوية، وكلا الضربين الأولين لا وجود لهما الآن في مصر، فأغلب ظني أن ما وقع هو أن فلاحا تعرض لثول من النحل متجمع أو عبث بإحدى الخلايا المعمورة فأصابه وأصاب بقرته القريبة منه شر الجزاء ... وعلى كل حال أرجو يا عزيزتي ألا تتصوري أني أتعمد أن أهون عليك لسع النحل دون تدبر لأعرضك للسوء فأنت أعز علي من نفسي.
صفحة غير معروفة