الفصل السابع
قال أمين بعد استمتاعهما بغداء هنيء: أظنك لاحظت بنفسك عند دراسة تشريح النحلة أنها، خلافا للشفافير والزنابير، ليس فكاها من القوة التي تمكنها من إتلاف الفاكهة، مع أن الطبيعة على أي حال لم تخلقها لذلك، بل لها وظيفة صريحة، وهي تلقيح صديقاتها الأزهار الإناث بطلع الأزهار الذكور بعد جمعها لهذا الطلع في أثناء تنقلها من زهرة إلى زهرة أخرى، ولذلك حرصت الطبيعة على أن تجعل من عادة النحل الاقتصار على زيارة نوع واحد من الأزهار في وقت واحد، وقد عملت تجارب شتى فأثبتت أن النحل لا يمكن أن تمس أية فاكهة سليمة، وإن جاز أن تمص عصير الفاكهة المعطوبة، وإذن فهي المؤتمنة على الفاكهة التي هي ثمرة تلقيحها شأنها شأن البذور، ولولا إدخال النحل في زيلاندا الجديدة التي كانت خالية من النحل لما تيسر لها إنتاج بذور البرسيم، ولولا النحل لما نشأت محاصيل الفاكهة الهائلة في كاليفورنيا، وأما عن أمراض النحل الوبائية فلا وجود لها في مصر فيما أعلم، وبغض النظر عن هذه الحقيقة فأمراض النحل لا تصيب الإنسان ... فهذه دعاية عجيبة أساسها الجهل المطبق، وربما كان مصدرها أولئك الجهلة من النحالين القدامى الذي يربون النحل المصري في الكوارات الطينية ولا يريدون أن ينافسهم أحد فتدفعهم الأنانية إلى اختراع أسباب التنفير من النحالة، ولو كان ولاة الأمور عنوا باستئصال أسباب تأخرهم، وسنوا التشريع الواجب لإصلاح حالهم، كما فعلت ممالك أخرى، لما بقيت هذه النحالة القذرة العتيقة قذى في العيون، ومصدرا من مصادر الدعايات الفاسدة. - ومع ذلك فهم يكسبون! - إن مكسبهم نسبيا صغير، وكواراتهم، أي خلاياهم الطينية، عبارة عن مصانع لتربية الحشرة الشمعية، وهي مجردة عن النظافة، قليلة الإنتاج، لا يمكن الكشف التام عنها، بل هي كالصندوق المغلق غالبا، ولذلك لا يمكن ضبط الانثيال منها؛ إذ محال ضبط تهويتها أو تربية الذكور والملكات فيها، ولا يمكن تغذية طوائفها تغذية فردية في يسر، وهي بالإجمال تمثل التعب والقذارة، ولذلك حرصت جميع الممالك التي تعنى بالنحالة المنتجة باستبدال أمثال هذه الكوارات والصناديق المقفلة بخلايا ذات إطارات متحركة، كما عنيت بترقية النحل الشائع في مناحلها، وأظن أنه آن لنا يا بثينة أن نلقي اليوم نظرة فاحصة على ضروب النحل التي لدينا، وأن نتحدث عن نظام العمل في الخلية قبل أن نشغل في المرة الآتية بفرز العسل.
وتوجها يتأملان تباعا أبواب الخلايا، وعلى كل منها كان يبدي أمين ملاحظته، وكان يجتهد في أن يعود بثينة التشخيص المبدئي لحالة كل طائفة من النظر إلى باب الخلية، ووقفا عند خلية نحلها سنجابي اللون كبير الحجم نسبيا وقال: هذا مثال للنحل الكرنيولي المربى في مصر في محطة معزولة، وهي خلية عامرة جدا كما ترين، فهي تشغل ثلاثة أدوار، وربما بلغ عدد سكانها خمسين ألفا ومائة ألف نحلة، وهذا الضرب من النحل مشهور جدا بوداعته فهو النحل الذي يصلح لنشز النحالة في ضواحي المدن، وإذن ففي وسعنا أن ندرس على هذه الطائفة القوية الوديعة - ولو أن هذه دراسة مكررة بعد مشاهداتك السابقة - كل ما تهمنا معرفته عن نظام العمل في الخلية، وتقسيمه بين طبقات النحل المختلفة، وكيفية نشوء النحلة متطورة من البيضة، وسأدعك أنت تتولين الفتح وإن شئت فلك أن تتولي الحديث، وسأكتفي بأن أكون خادمك المساعد الأمين، وهو شرف يكفيني ...
وفتحت بثينة الخلية بمساعدة أمين، وهي فخورة بالترويح عن معلوماتها في هذه المحاضرة الأولى، قالت وقد بلغت أحد الأقراص الوسط من أقراص التربية: ها هي ذي الملكة يا أمين، معلمة وجميلة! وها هو ذا البيض الجديد في عيون القرص! لقد وضعت اليوم؛ لأنه قائم غير مائل ... ولكني سأعيد هذا القرص، وسأنظر في غيره ... ها هو ذا بيض عمره يومان لأنه مائل قليلا إلى جانبه، وها هو ذا بيض عمره ثلاثة أيام لأنه راقد على قواعد البيوت، وها هي ذي يرقات ذات أعمار شتى: انظر هنا بدقة تجد يرقة لعلها فقست الساعة من البيضة لأنها راقدة في هيئة خط مستقيم وطولها لا يتجاوز خمس قطر البيت الراقدة فيه، وانظر ثمة تجد يرقة عمرها يومان، راقدة في هيئة نصف دائرة وقد لمس رأسها ذنبها وهي تشغل تقريبا نصف قطر البيت الراقدة فيه، وعلى مقربة منها في بيت آخر توجد يرقة أخرى عمرها ثلاثة أيام تشغل خمسة أسباع قطره، أما اليرقة التي أوجه لها المؤشر فهي تشغل قطر بيتها جميعه وعمرها أربعة أيام. - برافو يا بثينة، هكذا العلم والتدريس وإلا فلا. - هل أخطأت في ملاحظاتي؟ - كلا يا عزيزتي، لقد أجدت وأحسنت، ولكن لي ملاحظة عارضة في هذا المقام: إن نظرتك الفاحصة التي هدتك إلى اكتشاف أعمار اليرقات وأناملك الدقيقة كفيلة ببراعتك في تربية الملكات صناعيا حينما أمرنك على هذه التربية التي تقوم على محاكاة الطبيعة واستغلال العوامل التي تحت تأثيرها تربي النحل ملكات جديدة، وأهمها النزوع إلى الانثيال وفقدان الملكة، وفي هذه الحالة متى كانت النحل متريثة تختار أصغر اليرقات الفاقسة من بيضة ملقحة لتغذيتها بالغذاء الغددي الفاخر الذي نسميه «الفالوذج الملكي»، والمتخصص في تربية الملكات يدقق فلا يختار يرقة يتجاوز عمرها 36 ساعة؛ بل يؤثر أصغر اليرقات التي عمرها يوم فحسب، ولن أثقل عليك الآن بشرح هذه العملية البديعة التي لها أوانها فيما بعد، وقد نؤجلها إلى الربيع الآتي، ويكفي من آياتها أن أذكر أن المربي يقلد الطبيعة أولا بحرمان طائفة قوية من ملكتها، وبعد أن تحس اليتم وتشرع في تربية ملكات يقطع هذه البيوت حينما يكون قد أعد لها إطارا مثبتة عليه أسس شمعية صناعية لبيوت ملكات على قواعد صغيرة خشبية بحجمها مغروزة في الإطار الذي يمكن تقسيمه في وسطه بقطعة مستعرضة من الخشب، وتثبيت عدد من هذه القواعد تحتها زيادة على المثبت تحت القضيب الأعلى للإطار، وهكذا يمكن أن يحمل مثل هذا الإطار عددا وافرا من هذه القواعد التي يطعمها الفالوذج الملكي المخفف بالماء، ثم يقوم عليه في كل بيت يرقة واحدة صغيرة ثم يعطيه النحل، وبعد 24 ساعة يراجع ما صنع، وقد يعيد هذه العملية أو بعضها إذا وجد النحل لم تستجب إليه واكتفت بمص الفالوذج الملكي وأهملت اليرقات، ومتى عنيت النحل بتكملة هذه البيوت وبتربية اليرقات حتى تنمو وتشرنق وتختم، فإن النحال ينقل حينئذ هذه البيوت إلى إطار آخر ويحميها داخل أقفاص سلكية واقية كلا منها في قفص خاص، ويعهد بها إلى طائفة أخرى يتيمة لتتولى حضانتها، حتى إذا ما فقست تولت النحل تغذيتها من عيون السلك دون أن تسيء إليها ودون أن تسيء هذه الملكات العذارى بعضها إلى بعض، ولو أن من المناسب أيضا أن يحتوي القفص وتحت غطاء فتحته قليلا من السكر الناعم المعقود بالعسل لتلجأ إليه الملكة العذراء عند الحاجة، وهكذا يستطيع النحال المربي أن يستعين بهذه الملكات في تكوين نويات جديدة من طوائفه، أو يستطيع بعد إدخالها على نويات صغيرة من النحل مخصصة لها لكي تستضيفها حتى تتلقح، أن يبيع الملكات الملقحة بعد اختبارها - أي بعد التأكد من فحص حضنتها أنها ملقحة - بثمن يجزل عليه الربح. - إن وصفك يا أمين لهذه العملية مشوق، ويبدو لي أنها سهلة، فلماذا نؤجلها إلى الربيع؟ - لقد تعمدت تبسيطها لك، وهي في الواقع عملية غير شاقة للمتدرب، ولكن فيها نقطا عملية دقيقة تحتاج إلى التمرين، وليس أهونها كيفية نقل اليرقة الدقيقة بالإبرة المخصصة لذلك من القرص إلى البيت الصناعي، ولا أدري إذا كان يحق لي أن أسميه بيتا صناعيا؛ إذ كل ما هو صناعي فيه أساسه المشبه الكستبان الصغير أو قمع الخياطة، وفيما عداه فالنحل هي التي تبني البيت من أوله إلى آخره، وبهذه المناسبة أؤكد لك أن بيوت الملكات الطبيعية متى فقست منها الملكات هدمتها النحل ولا تعيد استعمالها خلافا لبيوت العاملات والذكور المعتادة في القرص فإن النحل بعد تنظيفها وتلميعها بالمادة الصمغية (العلك) التي تجمعها من براعيم الأشجار وتحملها على أرجلها الخلفية كما تحمل الطلع تهيئها للملكة للبيض فيها مرة أخرى أو تستعملها لخزن العسل أو لخزن الطلع. - ما رأيك في أني لم أكمل بعد محاضرتي، وطبعا لن تجيز امتحاني دون تكملتها؟ - عفوا يا معلمتي ... صحيح، عليك أن تشرحي كيفية تطور النحلة من بيضة إلى حشرة كاملة، ثم وظيفة هذه الحشرة في أدوار حياتها، وما يتبع ذلك من تقسيم العمل بين أفراد الطائفة. - سؤال ضخم، أستحق بلا ريب درجة الدكتوراه العلمية على إجابتي عنه، وعلى أي حال فلن أدعك تضحك مني ... اسمع يا تلميذي النجيب: إن تطور النحلة من بيضة إلى حشرة كاملة هو من غرائب أعمال الطبيعة نظرا للتفاوت في التشكيل بين طور وطور، فإن التأمل في استحالة دودة إلى حشرة مجنحة لها أعضاء ووظائف مختلفة كل الاختلاف عن أعضاء الأولى ووظائفها لمن الأمور المحيرة للعقل، وقد شرحت كيف أن البيضة تعمر ثلاثة أيام قبل أن تفقس مع اختلاف وضعها خلال تلك الأيام الثلاثة، ثم كيف تتجلى اليرقة في نموها وفي وضعها بعد ذلك، ولكني لم أستكمل هذا الشرح، كما أنه ينبغي أن أبين أنه يوجد تباين بين نمو الحضنة في الملكة والعاملة والذكر، ولعل خير وسيلة للمقارنة أن أعرض الجدول الآتي للتأمل فيه وللمقارنة:
طور النمو
الملكة
العاملة
الذكر
البيضة
3 أيام
صفحة غير معروفة