قال في أحد دروسه الأولى مستكملا تعريفه بسكان الخلية: هذه الملكة صبية يا بثينة، فهل تعرفين لماذا أحكم هذا الحكم؟ - لأنك سرقت نظرة إلى بطاقة الخلية؟ - كلا يا جاسوستي الحسناء، هذا متروك لك. - ربما لأن وجهها ليست عليه تجاعيد الشيخوخة التي على وجهي. - مع اعترافي بذلك، فليس هذا هو السبب الرئيسي، وإذن فلأخبرك قبل أن تغلبيني، انظري أولا إلى نشاط الملكة في وضع البيض، فإنه والحضنة الناشئة عنه قد ملأت جميع أقراص غرفة التربية اللهم إلا مساحات قليلة في شكل الأهلة وفي أعلى الأقراص اختصها النحل بخزن العسل فيها، وفي المعتاد لن تستطيع ملكة أن تبيض بهذه القدرة إلا في عنفوان شبابها، وزيادة على ذلك انظري إلى تكوين جسمها في صحة وامتلاء وعلى الأخص بطنها الذي يحتوي المبايض، وانظري إلى نضرتها وإلى زغبها الذي لم تنل منه الأيام، وتأملي ألوانها الطبيعية التي لم تغبر ولم تقتم خلافا لحال الملكات العجائز ... إن الملكة يا بثينة هي مركز الحياة في الخلية، هي الأنثى الكاملة، هي الأم، وجميع النحل التي في الخلية خلفتها المتطورة من البيض إلى الحشرة الكاملة، ولا توجد للطائفة الواحدة في المعتاد وفي حالتها الطبيعية سوى ملكة واحدة، فيهمنا جدا أن تكون معرفتنا بها وافية. الملكة يا عزيزتي ليست حاكمة بالمعنى المفهوم وليست زوجة ملك ولا بنت ملك، وأليق ما تنعت به هو أنها «الأم» وحسبها ذلك تعظيما ... انظري كيف تتخطر على القرص والنحل تحف بها في مثل الهالة حول القمر متجهة برءوسها نحو تغذيها إذا ما طلبت الغذاء، وتلمسها في رفق وحنان بمشاعرها، ولو كان هذا اللمس حثا على العمل فهو حث رشيق جميل قد يحرمه كثيرون من الآدميين، من الجنس اللطيف ... - أهذا تعريض بي؟ - معاذ الله، ونحن في هدنة يا بثينتي ... بل لماذا لا أعترف أنه بفضل صحبتك صار المنحل أبهج في عيني في هذا الموسم وطاب لي العمل فيه ...؟ ولكن لنعد إلى ملكتنا فليس من اللائق في حضرتها أن ننصرف عن جلالتها إلى التحدث عن عواطفنا ... لاحظي كيف أني أحمل الإطار أفقيا تقريبا حتى لا يتأثر القرص من ثقل محتوياته إذا ما حملته عرضيا فيتشقق أو يسقط بعضه، وهذا جائز في الجو الحار وعلى الأخص إذا لم يكن القرص مثبتا جيدا في سلك الإطار لوقايته، ولاحظي كيف أني حريص على حمل القرص فوق غرفة التربية بحيث لو سقطت الملكة عفوا نزلت إلى داخل الغرفة ولم تقع على العشب أو على الثرى خارج الخلية فتتعرض للضياع. - وكيف تتعرض للضياع ولها أجنحتها؟ - ربما استطاعت أن تطير وتعود إلى خليتها، وربما تعلقت بإحدى أرجل الخلية أو بأحد الأعشاب، وقد يتعرف إليها بعض النحل بفضل رائحتها المتميزة فيلتف حولها وينبه النحال إليها، ولكن الغالب أنها تنزوي وتعجز عن الطيران بسبب ثقل جسمها نتيجة نشاط مبايضها وازدحامها بالبيض مما يدل عليه كبر بطنها، وهكذا يخسرها النحال وتخسرها الطائفة التي تحار في البحث عنها زمنا قبل أن تبدأ في تربية غيرها وهي كسيرة النفس مبلبلة الخاطر، ودفعا لهذه النكبة أحتاط في الفحص كما أعلم الملكة. - وما هي الدروس التي تعلمها الملكة؟ أهي من نوع دروسي؟ وبأية لغة تتخاطبان؟ وما هي مراسيم التخاطب مع جلالتها؟ - لا يا حبيبتي، إن ما أعنيه هو أن أجعل لها أمارة ألصقها خلف صدرها لتعرف بها، وإني أستعمل لذلك جهازا خاصا سأمرنك على استعماله، وها أنت ترينها مميزة بدائرة حمراء صغيرة من الورق الزاهي المتألق فلا يشق علي اكتشافها من بين آلاف العاملات، ومع هذا الجهاز ألوان شتى من الورق أخصص كل لون لسنة معينة، وهكذا أعرف أيضا عمر الملكة عند مشاهدتها، وسأعمم استعماله إذا فاتني تعليم بعض الملكات، فليس من الحكمة الإغضاء عن ذلك فإن التعب اليسير في تعليم الملكة يوفر تعبا كبيرا في البحث عنها، ولو أن النحال الخبير اليقظ لا يشق عليه الاهتداء إليها وسط الأقراص التي تكون العش إذا ما كانت هذه الأقراص في غرفة واحدة، أما إذا اتسع العش وشمل غرفتين واضطربت الطائفة لأمر ما في أثناء الفحص فمعنى ذلك البحث عن الملكة وسط آلاف من النحل الأخرى، وقد تكون على اللوح الأرضي للخلية أو على أحد جوانبها، وقد لا تسمح حالة الجو أو المراعي أو ظروف المنحل بإطالة الفتح فتتعرض الملكة للأذى من جراء ذلك وفي غير موجب ، في حين أن تعليمها بذلك الورق الملون أو بصقال ملون سريع الجفاف حماية لها وعون للنحال على الاهتداء إليها وصيانتها. - ولكن ألا يسيء إلى صحتها لصق ذلك الورق أو ذلك الدهان الملون؟ - كلا؛ لأن ذلك الموضع السطحي من ظهرها خال من أي جهاز حيوي، وما دمت قد سألت هذا السؤال فيجب ألا يفوتني تنبيهك إلى أن النحل تكره الروائح الحادة في العطور والطلاء وما إلى ذلك؛ لأنها تهيج شعبها النفسية، ولذلك ينبغي عند تعليم الملكة بالصقال أن يجري ذلك باحتراس، وأن تراقب حتى يجف الصقال وتمنع النحل من التعرض لها بالأذى؛ إذ قد يختلط عليها الأمر تحت تأثير حاسة الشم فتحسب هذه الملكة المعلمة غريبة عنها لتغلب رائحة الصقال على الرائحة الطبيعية للملكة، ولكن هذه مسألة لحظات فحسب ... ولنعد الآن إلى موضوعنا الأصلي: إذا كانت الملكة غير متوجة وغير مملكة بالمعنى العرفي فهي مع ذلك معززة مدللة مكرمة حتى ولو أرهقتها النحل بالعمل. إنها بمثابة آلة للبيض، ومع ذلك فالنحل بغريزتها تقدر أنها روح الطائفة وسر مناعتها وعزها، ولذلك تحرص عليها أشد الحرص، ويهمها أن تكون دائما على أتم صحة وأوفى مقدرة لخير المجموع. فإذا ما تخلت عنها في يوم ما واستبدلتها طواعية بسواها فذلك تحت تأثير هذا الدافع، وهو وضع مصلحة المجموع فوق مصلحة الفرد مهما كانت منزلته، وتضحية الفرد عند الحاجة لرفاهية المجموع. فالنظام الأساسي لمملكة النحل لا يقوم على رعاية الفرد وإنما يقوم على رعاية المجموع، وليست الملكة بمستثناة من أحكام هذا النظام الصارم! ... انظري يا بثينة إلى قوامها المنسجم أبدع انسجام، وإلى مشيتها التي كأنما تنم عن اعتزازها بذاتها، وإلى شخصيتها التي تتعلق بها آمال أمة بأسرها كل فرد من أفرادها مدين لها بالوجود، وإلى رونقها الذي تنفرد به فوق جلالتها. إنها في شكلها وحجمها ولونها متميزة متفردة لأي عين. ليس يغطيها الزغب كما يغطي العاملة أو الذكر ولكن ذلك لا ينقصها، ولها من اللون الخاص الضارب إلى الحمرة الذهبية أو السمرة الحبشية أو الصبغة البرونزية ما يكسبها جاذبية خاصة إلى جانب طولها وقصر أجنحتها نسبيا، وليس للملكة من رسالة في حياتها إلا الإكثار من النوع وهي رسالة مقدسة في قانون الطبيعة تهب حياتها لها هبة كاملة إلى أن يدركها الإعياء أو الفناء، وهذا شأن النحل جميعا حتى الذكور التي يضرب بها المثل في الكسل فإنها على العكس تدأب دائما باحثة عن الملكات العذارى، وليس ذنب الذكور أن الطبيعة أسرفت في خلقها احتياطا وضمانا حتى لا تبقى ملكات عذارى في حاجة إلى تلقيح وحتى لا تتعطل رسالة التكاثر ... إن الحديث عن الملكة وعن سحرها للنحل والنحال حديث طويل محبب، فلنقفل هذه الخلية وقد فرغنا من فحصها - حتى لا نطيل عطلة النحل، ولنفحص غيرها، وسأكمل لك حديثي عندها عن صاحبة الجلالة.
ويفتح أمين خلية أخرى، وتساعده بثينة على رفع الأقراص العسلية - ولم تكن كثيرة - إلى الطابق الأعلى، أي إلى العاسلة وإنزال أقراص خالية من العاسلة إلى غرفة التربية محلها موزعة بين أقراص الحضنة؛ لتنتفع بها الملكة في وضع بيضها الجديد، وفي هذه المرة اكتشفت بثينة الملكة ولم تكن معلمة، ولكنها لاحظت أن لونها برتقالي ذهبي فاتح، فقال لها أمين: إن لون الملكات يختلف حسب ضروب النحل، فمثلا الملكات المصرية برونزية اللون مع شيء من الحمرة، والملكات الإيطالية تختلف من اللون الذهبي البرتقالي الذي ترينه إلى لون الجلد الأصفر البني، والملكات الكرينولية والقوقاسية سمراء حبشية اللون، والملكات التونسية زنجية أبنوسية ... وهكذا تتعدد الظلال والألوان حسب ضروب النحل، وربما اختلف اللون في سلالات الضرب الواحد، وسندرس كل هذا معا في فرصة أخرى. - هذه اعتبارات لذيذة؛ إذ يخيل إلي أنها تساعد على معرفة صنوف النحل والتمييز بينها تمييزا عاما. - هذا صحيح، ولن يفوتني بحثه معك، وأما الآن فيهمني أن أبث في ذهنك الحقائق الإضافية الهامة التي تخص الملكة ... يهمني أن تعلمي أن قدرة الملكة على وضع البيض تترتب بعد ميراثها الحيوي - وأعني به صنفها وسلالتها - وبعد سنها وصحتها وقوة الطائفة وحالتها الاقتصادية، تترتب على مقدار التغذية الذي تناله من وصيفاتها ، أي من النحل العاملات الملتفة حولها والملتفتة إلى رعايتها، وقد تضع الملكة بانتظام مدة غير قصيرة إبان الموسم (في ثلاثة أو أربعة أسابيع) ثلاثة آلاف بيضعة في اليوم، وقد يصعد هذا الرقم لدى الملكات الممتازة إلى خمسة آلاف بيضة يوميا، وقد شوهدت ملكات تبيض ست بيضات في الدقيقة أي حوالي 7200 بيضة يوميا، ولكن هذا الإسراف في البيض لا يطول، ويكفينا أن تبيض الملكة يوميا ألفي بيضة في عز الموسم؛ إذ معنى ذلك في النهاية تكوين طائفة لا تقل في قوتها عن 84000 نحلة على اعتبار أن متوسط حياة النحلة في موسم العمل ستة أسابيع، وهذه القوة تكفي لملء طابقين من الخلية بالنحل، فإن عدد النحل الذي يغطي القرص يتراوح ما بين أربعة آلاف وخمسة آلاف نحلة. والواقع أن الملكة إذا كانت منتظمة الوضع لألفي بيضة في اليوم تحتاج إلى جمع أقراص في غرفة التربية مخصصة لها، وهكذا يجب على النحال ألا يترك أقراصا من الغذاء في غرفة التربية، والملكة بعد خروجها من بيتها الشمعي تبقى في الخلية بضعة أيام في المعتاد، ولا تغادرها طائرة للتلقيح إلا وسنها من خمسة إلى ثمانية أيام، بشرط أن يكون الجو صالحا مشجعا على طيرانها (درجة الحرارة في الظل 16 س)، لأنها وهي أثمن عامل في طائفة النحل تأبى عليها الطبيعة أية مجازفة. - ولماذا لا يكون التلقيح داخل الخلية؟ - الظاهر أن هذا احتياط أرادت به الطبيعة ألا يظفر بالملكة سوى القوي الجريء من الذكور، وهذا ما يؤدي إلى تحسين النوع؛ إذ يطاردها الذكور في أثناء طيرانها إلى أن يظفر بها أحدهم، ثم يموت بعد تلقيحها! - ولكن ألا يجوز أن يقع هذا مصادفة؟ - نعم، هذا جائز، ولكنه نادر، والنادر لا يقاس عليه. - وماذا يحدث لو أن الجو كان غير مسعف - كما يحدث في الخريف أو في الربيع المبكر - وبقيت الملكة حبيسة في خليتها أسابيع؟ - في المعتاد لا تتلقح الملكة تلقيحا كاملا منتجا إذا مرت عليها ثلاثة أسابيع دون أن تخرج للتلقيح، ولو أني أعرف حالات شاذة ناجحة تخالف هذه القاعدة. هذا، ومتى تلقحت الملكة استراحت يومين في الخلية ثم تبدأ بعد ذلك في البيض، وربما بدأت تبيض بعد مرور 36 ساعة من وقت تلقيحها، كما أنه من الجائز أن تؤجل بيضها إذا كان الجو باردا بضعة أيام بل وأسابيع كما يحدث للملكة التي تلقح في أواخر الخريف ثم يقبل الجو البارد قبل أن تبدأ البيض فهي تبقى معطلة حتى اعتدال الجو، ويصح أن نقول إجمالا إنه في الظروف الجوية المعتدلة تبيض الملكة بعد مرور 7-10 أيام من حين ولادتها أي من وقت خروجها من بيتها الشمعي، والبيض الذي تضعه الملكة صنفان: ملقح وغير ملقح، وهي تعتمد على سائل التلقيح الذي تختزنه في بطنها للانتفاع به في تلقيح البيض الذي تضعه إذا شاءت أن يكون ملقحا ... وقد يبدو لك هذا التعبير غريبا، ولكنه يصور الحقيقة: فالملكة قبل أن تبيض تتطلع إلى العين السداسية الخالية أمامها في القرص فإذا كانت كبيرة الحجم خاصة بتربية الذكور وضعت فيها بيضة غير ملقحة، وأما إذا كانت العين صغيرة الحجم فإنها تضع فيها بيضة ملقحة تنشأ عنها في النهاية نحلة عاملة، وتتلقح البيضة في أثناء خروجها من جهاز الملكة التناسلي طوع إرادة الملكة؛ إذ تعرض البيضة لتأثير أحد الحيوانات المنوية من سائل التلقيح المختزن في جسمها، وهكذا ترين أن ذكر النحل لا أب له، ويسمي علماء الحياة هذا النوع من التناسل «التناسل العذري»، وهناك ظاهرة عجيبة أخرى وهي أن النحلة العاملة (أو الخنثى) والملكة (أو الأنثى الكاملة) كلتاهما أصلها بيضة ملقحة دون تمييز، وإنما التمييز يحدث فيما بعد بتغذية اليرقة أي الدودة التي تفقس من البيضة تغذية سخية بواسطة تراضع النحل إذا شاءت النحل أن تربي منها ملكة، ولن يفوتني أن أشرح لك كل هذا عمليا شرحا وافيا في حينه. - لا أدري ما هو الأعجب فيما ذكرته يا أمين: أهو خصوبة الملكة إلى هذه الدرجة المدهشة حتى إني لأحار في وزن البيض الذي تضعه يوميا بالنسبة إلى وزن جسمها؟ أم هو قدرتها على التمييز بين عيون الأقراص وتكييف صنف البيض الذي تريد وضعه؟ أم هو نشوء الذكور بطريقة التوالد العذري؟ أم هو هذه الطريقة الفذة في التلقيح؟ أم هو كيفية تحويل اليرقة الناشئة من البيضة الملحقة إلى ملكة أو إلى عاملة حسب رغبة العاملات اعتمادا على التغذية وحدها؟ سبحان ربي المبدع الحكيم، لقد طالعت شيئا عن كل هذا اتباعا لمشورتك، ولكن شرحك زادني متعة وجسم لي ما قرأت. - هذا وسام جديد أضمه إلى أوسمتك اللامعة. - ثق يا أمين بأني أصدقك الشكر، وكنت أتمنى اجتذاب بعض صديقاتي لحضور هذه الدروس العملية؛ إذ أرجو ألا يستمر الاهتمام بالنحالة مقصورا في مصر على الرجال. - إن العناية بالنحالة بل وبكثير من الصناعات الزراعية الأخرى مشاعة بين النساء والرجال في الولايات المتحدة، وفي مصر فسحة عظيمة لهذه الشركة بين الشطرين لو أنصف الرواد المصلحون، وفي الحركة التعاونية وسيلة قويمة لتحقيق هذه الأمنية لو خلصت الحركة التعاونية ... ولكن لنعد إلى تكملة حديثنا عن صاحبة الجلالة: لقد تساءلت حائرة عن وزن البيض الذي تضعه الملكة يوميا بالنسبة إلى جسمها، فاعلمي يا مهجتي أن وزن ما تبيضه الملكة يوميا كثيرا ما يتجاوز وزن جسمها نفسه، وهذه حالة تدعو حقا إلى العجب؛ لأنها تدل على سرعة غريبة في الاستحالة الغذائية، وهي تفسر لك حاجة الملكة إلى التغذية السخية المتتابعة بألسنة الوصيفات المحيطات بها. - لي سؤال علمي يا أمين وقد يبدو شاذا: لقد قرأت عن التلقيح الاصطناعي بين الفصائل المختارة من الحيوانات بل وبين الآدميين، فما الذي يحول دون ذلك بين النحل؟ - لا حائل يا عزيزتي، وهذه عملية تجرى في حالات معينة لخلق ضرب معين أو سلالة خاصة من النحل وقد تجرى ميكروسكوبيا كما فعل الدكتور وطسن بالولايات المتحدة منذ سنة 1927، ولكنها عملية غير ميسرة لجمهرة النحالين ونتائجها غير مضمونة في المعتاد ضمان التلقيح الطبيعي. - هذا تقدم مدهش في تربية النحل. - ستنسيني أسئلتك الذكية تكملة حديثي عن الملكة، ولو أنه لن يكون ختام ما يقال عنها فإن دراستها متعددة الجوانب وستتاح لنا مناسبات شتى لهذه الدراسة المنوعة. فلنقفل هذه الخلية، ولننتقل إلى «خلية الرصد» القائمة على المنضدة هناك؛ لنراقب الملكة وعاملاتها وما فيها من ذكور في هدوء واطمئنان. •••
وعلى تلك المنضدة في جانب من المنحل قامت خلية مصنوعة من الخشب والزجاج تحتوي قرصين أحدهما فوق الآخر ومفصولا عنه مسافة حركة النحلة، وعلى جانبي كل منهما حائط زجاجي يغطيه لوح من الخشب المبطن بالجوخ قابل للتثبيت والرفع، ولها باب يمكن قفله وفتحه، ولها فتحة عليا في الغطاء الأعلى ذات ثقوب صغيرة صالحة لتغذية النحل، كما أنها تساعد على تهوية هذه الخلية وإن كان قد أقام فوقها مظلة دفعا لحرارة الشمس، وبالإجمال كانت هذه الخلية الصغيرة الجميلة المصنوعة من خشب التيك المتين ومن الزجاج البلوري الصافي أصلح ما تكون للرصد، أي للمشاهدة الطويلة لتصرفات الملكة ونحلها في كل شيء دون أي حجاب، وهي مما يستعان به على الدراسة عند استقرار الجو وتعميرها بالنحل كما أنها من أصلح الوسائل لتعليم النحلة في المدارس، فاتخذها أمين وسيلة محببة لبثينة للمشاهدة المبدئية وللدرس الأولي، وثمة وضعا كرسيين إلى جانب المنضدة وجلسا يرقبان ما يجري داخل الخلية، وقد سمح الجو المعتدل البديع برفع الأغطية الجانبية، فقال أمين مشيرا إلى الملكة وقد تجلت بعلامتها وسط القرص الأسفل: ها هي ذي الملكة يا بثينة فلننظر إلى تكوينها الجسماني نظرة أدق، وها هي ذي معي نماذج من ملكات ميتة محفوظة يمكننا أن نتأملها أيضا مستعينين بعدستي المكبرة.
قال ذلك وأخرج من جيبه علبة خشبية صغيرة ذات غطاء زجاجي حفظت فيها بضع ملكات مرشوقة على دبابيس ... فتأملتها بثينة معجبة بألوانها المختلفة وبأشكالها التي لا تباين الوصف العام الذي ذكره أمين، إلا واحدة بينها كانت صغيرة الجسم نسبيا فسألته عنها. - هذه يا بثينة ملكة عذراء وهذا سبب ضآلتها النسبية، فكبر حجم الملكة الملقحة يرجع إلى كبر بطنها بسبب نشاط مبايضها وازدحامها بالبيض، ولو أن بعض الملكات العذارى قد تكون أكبر حجما ... فلنتأمل الآن تكوين هذه الملكة البديعة التي تطالعنا في «خلية الرصد» ولنقارن بين تكوينها وتكوين العاملة ثم بينهما وبين الذكر، وهذه فرصة أيضا لمشاهدة بناء القرص على الأساس الشمعي داخل الإطار كما ترين في الدور الأعلى من هذه الخلية. تأملي في هذه الملكة الحية، وتأملي كذلك في هذه النماذج المحفوظة للملكات، وطبقي ملاحظاتي ووصفي عليها، وعندما ندرس العاملة وذكر النحل - أو اليمخور كما يسمى أحيانا - فأمامنا نماذج حية وميتة كثيرة في المنحل فلن تشق علينا المقابلة بينها ... إن الملكة من الوجهة التشريحية الظاهرة تتميز - كما ترين وكما لاحظنا من قبل - بكبر حجمها وطول بطنها الذي ينبغي في الملكة الجيدة أن يكون إلى جانب طوله عميق المظهر، لا عريضا ومسطحا، أو قصيرا غير منساب إلى طرف، وصورة الملكة إجمالا أنها أطول جسما وأرفع شكلا من كل من العاملة والذكر، ومعظم هيكلها خارجي لا داخلي - شأنها في ذلك شأن بقية الحشرات - خلافا لحال المخلوقات ذوات الأثداء فهيكلها داخلي، وهو في النحلة مؤلف من درعة أو خيتين وهي مادة قابلة للتشكل في صور شتى، فمنها مادة القرنية الشفافة التي تغطي عيون الحشرات، كما أن منها المادة الواقية التي تغطي أجسام الحشرات وتقيها، وتختلف ما بين الصلابة والليونة وما بين الكثافة والرقة حسب موضعها ووظيفة العضو الذي تغطيه، ويغطي هذا الهيكل الخارجي شعر دقيق أو زغب مزود بأعصاب تنقل الإحساس؛ لأن الهيكل ذاته غير حساس، كما أنه بمثابة كساء واق من التقلبات الجوية إلى حد ما، وبعض هذا الزغب يساعد على تنظيف جسم النحلة، أي أنه بمثابة فرشاة. كما أن بعض هذا الزغب يكون مستقيما وصلبا متينا كما هو الحال فوق العيون لوقايتها، وغيره شبكي الوضع - وسنرى ذلك في النحلة العاملة - ليساعد على حمل الطلع أو دقيق الأزهار في السلة المخصصة له في الأرجل الخلفية، وبعضه يعاون في قبض الأشياء أو في منع الحركة السريعة إلى غير ذلك من الفوائد، ولجسم الملكة كما لجسم أية نحلة أخرى ثلاثة أقسام مستقلة: الرأس والصدر والبطن، وها نحن نرى في الرأس في كل جانب عينا مركبة، كما أننا نشاهد بالعدسة المكبرة بل حتى بالعين المجردة - إذا دققنا النظر - مثلثا بينهما فيما يصح أن نسميه الجبهة وقاعدته إلى أعلى، وفي زوايا هذا المثلث الصغير ثلاث عيون بسيطة، وكذلك نرى المشعرين أو القرنين (وهما من الزوائد المفصلية الحساسة) ناشئين من الجبهة فيما بين العينين المركبتين، كما نرى أعضاء الفم تحت هذين القرنين.
وفائدة العينين المركبتين المشاهدة البعيدة، فبهما تستعين الملكة (كما تستعين العاملة والذكر) على الطيران، وتقدير المعالم التي في المنحل وخارجه؛ لتجول جولتها ولتعود إلى خليتها سالمة. وأما فائدة العيون البسيطة: فالمشاهدة عن كثب كما يقع داخل الخلية مثلا وفي تأملات النحل القريبة. - ولكن إذا كانت الملكة لا تطير في حياتها إلا للتلقيح أو للهجرة مع جانب من طائفتها أي مرة أو مرتين في المعتاد، فما حاجتها إلى كل هذه العيون؟ - يسرني يا عزيزتي، ألا تدعيني أسترسل في الحديث، وأن تحلي الكلام من آن إلى آخر بمثل هذا السؤال المنبه؟ - أتعني أنه سؤال تافه؟! - كلا، كلا يا أستاذتي إنه سؤال وجيه، ولكن لا تنسي أن أهمية الملكة الفائقة تجعل طيرانها ذا أهمية سواء أكان مرة أم مرات؛ إذ إن فقدها يكون وبالا على طائفتها أو على الثول المصاحب لها أعني جماعتها المهاجرة في وقت التكاثر، ومع ذلك فعدد العدسات في العين المركبة للملكة يبلغ 4920 عدسة، في حين أنه يصل إلى نحو 6300 عدسة في عين النحل العاملة أو الشغالة، ويرتفع عدد هذه العدسات إلى 13090 في العين المركبة للذكر، وسر ذلك: أن النحل العاملة في سرحها اليومي أحوج إلى عيون مركبة أقوى من نظيرتها للملكة، حينما الذكر يحتاج إلى عيون مركبة أقوى من عيونهما؛ لأن عليه مهمة شاقة وهي البحث عن الملكات العذارى الطائرة، وقد يستعين على الكشف عنها بحاسة الشم من ثقوب خاصة متعددة في جسمه، وهذه الحاسة حادة جدا في النحل عامة (حتى ليلاحظ عليها نفورها من رائحة العرق لبعض النحالين) ولكن لا غنى للذكر عن العين المركبة القوية التي تكشف له المرئي في جهات شتى. - هذا مدهش حقا! - إن دراسة تشريح النحلة ووظائف أعضائها، فضلا عن كيفية نشوئها كلها مثيرة للإعجاب أحيانا وللدهشة. فهذان المشعران أو القرنان اللذان ينبتان في الرأس واللذان يتألف كل منهما من اثنتي عشرة عقلة في كل من الملكة والعاملة ومن ثلاث عشرة عقلة في الذكر هما أحد أدوات التخاطب بين النحل بحركاتها المنوعة، فهما قادران على الحركة في كل جهة، كما أنهما من أعضاء الاستشعار باللمس بواسطة ما عليهما من الزغب الوفير. بحيث تستطيع الملكة حينما تدخل رأسها في بيت من بيوت القرص، أو الشغالة حينما تطل داخل كأس من الزهر أن تتبين دقائقه الداخلية تفصيليا كأنما تراها في الضوء الساطع. - ولكن الذكر من النحل لا يفتش داخل عيون الأقراص أو بيوتها، فما فائدة هذا الزغب له؟ - أصبت بملاحظتك الدقيقة يا بثينتي النابغة، فالواقع أنه لا يوجد زغب على قرني ذكر النحل إلا سطوحهما الخارجية والأمامية، وهي السطوح التي تستعملها النحل جميعا في لمس التخاطب مع قرون النحل الأخرى، وأما باقي الزغب على السطوح الأخرى للقرنين فلا وجود له على قرني الذكر؛ لأنه لا يستعملها - كما لاحظت - في الاستشعار الدقيق في الظلام، وها هي العدسة المكبرة شاهد على صحة ذلك؛ فتأملي بها في قرون الملكة والعاملة والذكر وقارني بينها جيدا. - مدهش! مدهش! ... وماذا يحدث لو أصيب القرنان بضرر أو لو قطعناهما مثلا؟ - ستزدادين دهشة عندما تعلمين عن نتائج التجارب العلمية التي أجريت، وكيف ساهم فيها ذلك العالم الطبيعي الضرير هيوبر “Huber” . عاش هيوبر في القرن الماضي، وهو أول من استعمل الإطارات المتحركة في خليته المسماة «الخلية الورقية»
Leaf Hive
كأنما هي كتاب ذو أوراق تفتح وتقفل على نحوه، وعلى أساس ذلك أبدع العلامة لانجستروث خليته الوافية التي ننعم بها الآن ونعم بها النحالون أجيالا من قبل.
فقد هيوبر بصره وهو شاب، وكان قد تزوج قبلا، فوجد من خادمه الأمين برننز “Burnens” (الذي وصل بعصاميته إلى وظيفة مأمور قضائي في قريته) ومن زوجته الوفية خير معينين له في بحوثه عن أسرار الطبيعة في حشرتنا الجميلة، وهؤلاء الثلاثة جديرون بقصة سينمائية لن تقل في قيمتها الإنسانية عن قصة مدام كيوري. فهذا فرانسوا هيوبر الضرير يمثل لنا الذكاء المفرط والملاحظة النفاذة والجلد التأملي الفائق، وهي صفات تجلت في ثلاثة أدباء عالميين؛ أحدهما معاصر وهو منافسي في ولوعك الأدبي، والآخران المعري وملتون، كأنما هذا الحجاب الذي قام بينهم وبين عالمنا المشهود قد أعفاهم من شائهه ومن تبعية حواسهم لعجزه وقبحه، وفتح لهم عوالم أخرى وليدة أخيلتهم ومثالياتهم السمحة اللطيفة.
ولا مشاحة في أن عمى هيوبر جعله يفكر في نقط دقيقة عدة ما كان يأبه لها أو يعني بها لو أنه اعتمد على نظره فحسب، فأدى ذلك إلى أبحاث عظيمة في موضوعها وفي نتائجها، وقد حاول خصومه انتقاصه؛ لأنه ضرير، ولأن خادمه المعين «جاهل»، ولم يكتفوا بذلك بل حاولوا إغراء زوجته الشابة الجميلة على تركه. فأما خادمه فقد أثبت بأخلاقه الوفية الكريمة وبأمانته العلمية وطاقته في الدرس والبحث وتحقيق ما كان يكلفه به سيده ما أنزله منزلة الاحترام في مواطنيه الذين اختاروه أخيرا مأمورا قضائيا وفاخروا بسيرته، وأما هيوبر نفسه فغفر لهم تطاولهم عليه كما يغفر الرجل الحليم الرحيم ذنوب الصغار الذين لا يقدرون ولا يفقهون. فإذا كان العمى نقصا في ناحية فقط يكون مزايا في نواح أخرى، وقد يعوض عن الإبصار أي تعويض؛ كما أثبت ذلك هيوبر بتجاريبه الدقيقة المستقصية التي لم يفكر فيها المبصرون، وأما زوجته الشابة الجميلة فقد عرفت روحها النبيلة كيف تساهم وزوجها في خلق السعادة لكليهما، فكانت تندمج في تفكيره وميوله وتروض نفسها على الغبطة بالاشتراك في أعماله، وهكذا أبدعت لنفسها مثالية من الرضا والطمأنينة والمحبة المتبادلة، وأحست بسعادة خاصة في إسعاده، وقتلت بيديها الأنانية التي حاول خصومه إثارتها في نفسها، وكأنما أحست بعد ذلك في طهرها الروحي أنها أصبحت المرأة النبيلة الكاملة، وقد عاشا معا في سعادة سنين طويلة.
وشأنهما في ذلك يذكرني بالأديب البلجيكي الجهير ميترلنك وزوجته الصبية التي لم تتجاوز منزلة ابنته، فقد عجبت الصحف الأمريكية - بعد نزوحهما إلى العالم الجديد - من أمرهما، وهل يشعران حقا بسعادة على ما بينهما من تفاوت السن. فهداها البحث إلى أنهما حقا من أسعد الناس؛ لأن سعادتهما قائمة على الانسجام التام في ميولهما وتفكيرهما ونوازعهما، وعلى التقدير المتبادل بينهما، وعلى المحبة السليمة التي يدعمها صفاء الروح وتساميها، واعتزاز كل منهما بعواطف الآخر وفهمه له فهما صحيحا، ولو لم تكن خلقت له وخلق لها وكأنهما توأمان لكانت تأثرت بالعرف الغبي وباعدته لعلو سنه، فكانت هي الخاسرة لطافة روحه وشاعريته الجياشة بحب الجمال وإعزازه لها الذي يبعد بل يستحيل أن تلقاه من سواه، وتفانيه في إرضائها وتدليلها وخلق ضروب السرور والمتعة لها، وهي مغانم أعظم بكثير مما تناله من فرد دونه سنا وأكبر مما يستأهله شبابها أو نضرتها، وما أكثر الشباب الضائع والنضرة الذابلة عند أقدام الفتيان اللاهين ... وهكذا كانت مدام هيوبر في مثل عقلية مدام ميترلنك، كل منهما تعرف قيمة الجوهر الذي ساقه الحظ إليها فحرصت على ألا تفرط فيه من أجل بريق سواه الذي لا يساميه منزلة ولا يدانيه صفاء ولا يقاربه فائدة ولا نافسه أو جاوزه رونقا، وهكذا كانت زوجة هيوبر بحصانتها ووفائها عونا عظيما له، كما كانت ابنة ملتون التي تفانت في حب والدها العزيز وخدمته فخورة بذلك، وكما كان شأن مدام ميترلنك إزاء زوجها العبقري ... - مهلا يا أمين مهلا، أراك تسترسل في خطبة أدبية أولى بها معاهد الأدب، وحديثك شائق شائق، ولو تركت دون مقاطعة لأخذت عنك سيرا وفصولا ودروسا أجمل بلا ريب مما دونه فيزتيلي “Vizeteily”
صفحة غير معروفة