قال سعيد: لا تصدق كل ما يقال، فأكثر القول باطل، ولا تعول على ذم والدي له فهو يكرهه، وإلا فهل تعقل أن إنسانا يكره امرأته في حال حياتها، ثم يحزن عليها كل هذا الحزن بعد وفاتها ويبكيها الأشهر الطويلة؟! هكذا فوالله إني حينما أراه يذكرها أظنه قد فقد الشعور، وأخاله قد جن من شدة الحزن والغم.
وبينما كان همام وسعيد يتخاطبان دخل خليل، فجلس على المائدة تجاه سعيد وعليه ملابس الحزن السوداء، وعلى وجهه علامات الأسف فتأمله همام، وتوجع له ورثى لحاله، وحضر الطعام فأكل خليل شيئا كثيرا مما قدم له، والتزم السكوت فلم يفه بكلمة، فجعل سعيد يومي إلى همام ليذكره بحديثه عن حزن خليل على امرأته المتوفاة، ثم كلمه بقوله: انظر إنه من شدة حزنه عليها بنى لها ضريحا جميلا من الرخام منقوشا عليه الرسوم الحسنة الدقيقة.
قال همام: رأيته منذ ثمانية أيام فوجدته متقنا للغاية، يدل على حذق وبراعة صانعه.
قال سعيد: لعلك تتردد على المقابر كما يفعل بعض الناس الذين يقصدونها للفرجة أو النزهة أو التسلية بقراءة التواريخ المنقوشة.
قال همام: ما أكره - والله - شيئا كرهي مشاهدة القرافات، وإني لأستخف عقول الذين يقصدونها للنزهة، فيصرفون اليوم أو اليومين أو الثلاثة قياما بين القبور، تزكم أنوفهم الروائح الخبيثة المنبعثة من الرمم البالية، والعقلاء يجتنبون ما أمكن زيارة هذه الأماكن، فلا يأتونها إلا بحكم الضرورة كما حصل لي من ثمانية أيام، إذ توفي أحد الأصحاب الأعزاء فالتزمت مرافقة جنازته إلى القرافة، وهناك وقع نظري على قبر المرحومة عمتك، فاندهشت من إتقان بنائه ورقة حفره ونقشه، وتعجبت من أكاليل الزهور والنضرة التي فوقه، فكأنما هناك قوم مخصصون لخدمته.
وكان خليل في أثناء هذه المحادثة يتناول طعامه باشتهاء غير مكترث بما يسمع من القول حتى كأنه لا يعرف الفقيدة، فلو تأمله المتأمل في تلك الحالة لعلم يقينا أن حزنه ولبسه السواد إنما هو على شخص آخر غير شخص امرأته، ولكنه إذ سمع هماما يتكلم على ما فوق الضريح من الزهور هاج واضطرب، وصاح بصوت عال أوجب انصراف الأنظار إليه قائلا: أعلى الضريح زهور؟ إذن هي لم تمت، هي حية تعتني بالقبر، وتأتيه بالزهور.
قال سعيد وقد ظنه مختل الشعور: من تعني بقولك لم تمت ... أكريمة امرأتك أم غيرها؟
فصرخ خليل قائلا: ليس المراد امرأتي فقد توفيت يقينا، إنما عنيت ابنتها عفيفة، فعليها لبست السواد ولازمت الأحزان ومزيد الأسف، وقد أدركت أنها الآن حية، فزال اليأس من قلبي، وحل الأمل محله، وإلا فلا يحتمل أن أحدا خلافها يأتي بالزهور إلى قبر والدتها. وعندما قال هذا ذهب مسرعا قبل أن يفرغ من طعامه، وكان اليوم يوم السبت، وخرج على عجلة فركب أول عربة وجدها، وقال للسائق: اذهب بي إلى مقبرة الإفرنج في مصر العتيقة.
وكان من عادة عفيفة أنها تحضر مع فؤاد كل يوم سبت لزيارة قبر والدتها، فتحضر معها أكاليل من الزهور تصنعها بيديها فتجعلها على الضريح، وكانت كلما حضرت تتأسف لبناء الضريح على نفقة خليل، وتتعجب من إقدامه على ذلك مع أنه كان يكره زوجته شديدا، وكان من عادتها أيضا أن تلبس السواد كلما حضرت، وحين وصولها تركع على الركبتين مصلية مبتهلة إلى الله في الدعاء، ويقف فؤاد إلى جانبها، ويداه مضمومتان بغاية الخشوع والورع.
سارت عربة خليل فوصل إلى القرافة قبل قدوم عفيفة، وبعد برهة من الزمن أبصرها مقبلة مع فؤاد، فخفق فؤاده، فتوارى وراء بعض الأضرحة، فجعل يحدق بهما حينا ويختفي حينا لتسكين روعه، واستمرت عفيفة في صلاتها مديدا فوق عادتها لزيادة التأثير عليها في ذلك اليوم وشدة الحزن عندها، وكانت تذرف الدموع الغزيرة، وما زالت كذلك حتى مال رأسها من الألم، فاستندت على حائط القبر، فخشى فؤاد أن يغمى عليها، فتقدم ليمسكها فيمنعها عن السقوط، وإذا بكف قوية قبضت على يده ودفعته إلى الخلف، وقائل يقول: ويك إن لمستها فأنت مقتول. فرفع فؤاد بصره فرأى خليلا يزأر كالوحش الضاري الكاسر، فانذعر ولبث مبهوتا لا يعلم كيف يصنع. وكانت عفيفة قد وقعت مغمى عليها فاقدة الحس والحركة، فثار خاطر فؤاد عند رؤيتها، ولم يستطع ضبط نفسه، فتقدم لينهضها، فبادره خليل بالشتم، وأخرج من زناره خنجرا ماضيا يلمع كالبرق، وهجم عليه، فتأخر فؤاد، ولحقه خليل شاهرا الخنجر، وإذا بضربة شديدة وقعت على قبضة يده فرمت الخنجر، وسمع صوت قائل يقول: إن تحركت من مكانك هلكت لا محالة، وكان الفاعل همام، فإنه بعد أن فعل ما تقدم ذكره، وقف منتصبا بين الخصمين وقال يوبخهما: تتضاربان في هذا المكان ولا تخجلان، فأي فرق بينكما وبين الوحوش الكواسر، ثم إنه التفت يمينا فأبصر عفيفة ملقاة على الأرض مغمى عليها فأدرك سر المسألة، وقال: علمت الآن السبب، فعلينا أولا أن نتدارك أمر هذه الفتاة قبل أن تهلك إغماء، وإذ قال ذلك تلفت إلى سعيد، وكان قد جاء برفقته، فوقف بعيدا وراء شجرة. إذ رأى فؤادا وخليلا يتقاتلان، فقال له همام: ويك من جبان تجشمني الحضور ثم تتخلف عني، حقا إنك لا تصلح إلا لمعاقرة الخمور وملازمة مجلس الغيد الأوانس، فأسرع فلعلك تجد قليلا من الماء ترشه على وجه هذه الفتاة قبل أن يطول عليها الإغماء فتهلك، فذهب سعيد لجلب الماء، وتناول همام الخنجر من الأرض فجعله في حرزه، وكان سعيد أتي بالماء فجعل همام يرش على وجه عفيفة حتى أفاقت، فلما فتحت عينها ورأت خليلا كاد يغمى عليها ثانية، لولا أن هماما بادر إلى ملاطفتها وتسكين روعها فاستأنست به، وناولها الماء فشربت، وعاد إليها حسها وشعورها، فوقفت ونظرت شزرا إلى خليل تخاطبه بقولها: ما عساك أتيت تفعل في هذا المكان المقدس أيها القاتل الظلوم؟
صفحة غير معروفة