قال همام: وأي شيء لا يهمني من حديث النساء؟ ألعلك رأيتني في زمرة المتقاعدين، فظننت أني أعرضت عن زهرات الدنيا، أو زعمت أني عاجز عن القيام بخدمة أهل الجمال. أين غادتك الهيفاء؟ أرنيها.
قال ذلك وتقدم إلى النافذة، فأشار فؤاد بيده إلى امرأة جالسة على رصيف عند موقف العربات بثياب رثة، تلوح على هيئتها أمارات الحزن والضعف والكبر، فلما رآها همام رجع إلى الوراء مستعينا بالله من سحنتها، وقال لصاحبه: أنت تسخر بي، أهذه المرأة الدميمة شغفتك؟! فكأنها من بقايا ثمود وعاد، أو أنت تخفي الحقيقة عني؟!
قال فؤاد: وحق معزتك عندي إني ما نظرت إلا إلى المرأة التي رأيتها، ولم يشغفني هواها، إنما نبهني إليها اضطرابها وعلامات الغم الظاهر على وجهها، فتيقنت أن لها شأنا من الشئون غريبا.
قال همام: ظننتك تتصابى شغفا في غادة هيفاء، مشرقة الوجه، لينة المعاطف، فأوليتك عذرا، ولم ألمك مع علمي بأنك راغب في الزواج، فلا يغفر لك عملك ... فشفيعك عند لائمك وعذولك تجرد خطيبتك من الجمال، فإنها ليست فريدة في عصرها حسنا وظرفا، ولا وحيدة في دهرها أدبا ولطفا، فلا عجب إن صبوت إلى حسناء، والله ما أراك باشتغالك في المرأة التي أمامك إلا باردا صقيعا.
ولما قال همام هذا، أعرض عن فؤاد، وإذا بعربة وقفت أمام باب الفندق تحت شباك الحجرة، فقال فؤاد: إن لم يخطئ ظني فهذا غانم مع ابنه سعيد.
فضحك همام وقال لصاحبه: إنك تجهل ولا شك أمر غانم وبخله الموصوف. فوالله إنه ليطوفن مصر جريا على قدميه، فلا يركب عربة أو حمارا، أما لو رأيته راكبا يوما فاعلم أنه مدعو وأن الذين معه هم الذين يدفعون الأجرة عنه.
ثم إنه تقدم وفؤاد لينظرا جلية الأمر، فأبصرا المرأة المحكي عنها قادمة حتى وقفت أمام باب الفندق متفرسة جيدا وجوه الذين في العربة، فخرج منها أربعة أشخاص كانوا من نزلاء الفندق، فلما لم تجد بينهم مطلوبها ارتدت على عقبها، واشتدت علامات الغم والحزن على وجهها كمن هو في درجة اليأس الرائع.
فقال فؤاد: إن أمر هذه المرأة لغريب، فهذه هي المرة الخامسة أراقبها، فأراها كلما أقبلت عربة دنت من باب الفندق ثم ترجع، فما أعلم أي شيء يحركني لمعرفة سرها والاهتمام بأمرها.
قال همام: لأعظم من استغرابك أمرها، استغرابي تعبك واشتغالك بالسفاسف، فكأن شباب هذا العصر اتفقوا على حب العجائز، أو زعموا أن ذلك من علامات التمدن، فوالله إني غير هذا المشرب لا أميل إلا إلى الغيد الحسان وكل كاعب زهراء.
قال فؤاد: لم يشغفني منظر المرأة، وإنما أدركت أن لها نبأ غريبا فأحببت أن أستقصيه، وقد يتفق أن تكون المرأة تعيسة ومسكينة شابة وعجوزة؛ إذ ليس لنزول البؤس وقت محدود، ولم أنظر إلى هذه المرأة نظرة شهوة وهي نصف شوهاء. وجدت في حالها ما يوجب الأسف عليها والرأفة بها؛ فراقبتها لأعلم النهاية.
صفحة غير معروفة