فقال غانم: أجئت تبكين وتندبين؟ تكلمي ما الذي حضرت بشأنه؟ أجئت تصنعين مأتما؟ فإني أعلم براعتك في التصنع، ما الداعي لحضورك في هذا المكان؟
قالت وقد رفعت رأسها، وتأثرت من جفوة أخيها: كنت أظن نفسي قبل أن أقابلك أشقى خلق الله، وأن تعاستي بلغت النهاية، فإذا التعاسة لا نهاية لها، وما كنت - والله - لأتوقع منك أن تقابلني بالإعراض أو أسمع من فيك هذه الألفاظ الموجعة بعد فراق السنين الطويلة، وأنا شقيقتك من أبيك وأمك، وأنت سند العائلة وكبيرها ورأسها، وإليك وجهت آمالي، وجعلت اتكالي عليك، أفتحرمني من مجابرتك ولا تواسيني بلطفك ورحمتك، وقد جئت أشكو إليك أحزاني وما أنهكني من الشقاء والعناء؟! فارحم ضعفي، واجبر كسري، ولا تعرض بوجهك عني في أوان الشدة، وتفضل بالإصغاء إلى أمري، فإنه وحقك لذو شأن عظيم يستوجب أن لا تعاملني من أجله بالقساوة. نعم، إنا افترقنا على كدر وحقدت علي بسبب زواجي بخليل، وكان الحق، وقد اعترفت بخطئي، وعرفت مقدار جرمي بمخالفة أوامرك، فأي إنسان لا يخطئ؟ هذه كثير من السنوات صرفتها في التعب والأوصاب، فكانت كفارة عما جنيت، فأرجوك يا حبيبي أن تصفح عني وترثي لحالي، فالرأفة واجبة لمثلي، وقد رثى لحالي الأجانب، وشفقوا علي، وحزنوا لحزني، وأنت أخي وشقيق روحي تعرض عني وتصم أذنيك عن سماع شكواي ونداي حين آتيك طالبة إحسانك وإسعافك.
فاسود وجه غانم، وتقطب جبينه لسماعه كلمة الإحسان والإسعاف، فقال في نفسه: هذا والله ما كنت أخشاه.
فتفرست أخته فيه الكدر، فقالت له: الله يا أخي، هون عليك، فلا تقطب وجهك، وتحول نظرك عني، أي ذنب جنيت حتى ...؟!
قال غانم وقد اشتد به الغضب: أي ذنب جنيت؟! أبلغت بك الوقاحة حتى أتيت التمويه وتجاهلت حتى كأنك لا تعرفين شيئا؟ أم كان مرادك تكديري بحضورك إلى هذا المكان، وأنا في صحبة الإخوان، قد اجتمعنا لمسألة مهمة، فجئتنا على غفلة لتقلقي الأفكار، وزدت على ذلك أنك لبست هذه الثياب الرثة التي لا يلبسها الخدم، أما كان من الواجب عليك على الأقل أن تلبسي ثيابا لائقة، وتحفظي مقامي، ولا تضعي من قدري أمام صحبي وخلاني؟
قالت كريمة وقد تبسمت: وحقك يا أخي هذه أفخر الثياب عندي قد لبستها، ويشهد الله أن ليس عندي أحسن منها.
فرأى غانم أن الإسهاب في هذا الموضوع يجر إلى أمور يرغب أن يتجنبها، فصرف الحديث إلى موضوع آخر، وقال لأخته: كان من الواجب عليك أن تقابليني في الفندق الذي نزلت فيه لا أن تحضري إلى هذا المحل.
قالت: ذهبت خمس مرات إلى فندقك فلم أجدك، فسألت الخدم فقالوا لي: إنك لا تحضر إلا قليلا.
قال: كيف علمت الفندق الذي نزلت فيه؟ ألعل عندك جواسيس يسعون في أثري؟
قالت: أعلمني بحضورك رجل من معارف زوجي، وكان ذلك بطريق الصدفة.
صفحة غير معروفة