وبينما كانا يتكلمان أقبل همام لخاطر ورد له، وتذكر أن شقيقة سعيد ستصبح زوجة لفؤاد، فرأى من الضروري تمكين علاقات الوداد بين العائلتين؛ لرغبته في هذا الزواج لتتسع ثروة فؤاد وتقبل أحواله، فقال لسعيد يمازحه: إن رغبت أن أصفح عنك فأخبرني ماذا كنت تنظر في هذا المخزن حين صدمتك وأنت غير ناظر؟ قل الصحيح، ألم تكن تغازل واحدة من الخياطات الجالسات داخلا؟ أرنيها فلعل ذوقك لطيف يقارب ذوقي أو يناسبه.
قال سعيد: أشهد لك أيها البطل بسداد الرأي وشدة العزم، وأنك من أظرف الناس خلقا، حلو الطباع، جميل المعاشرة، حتى كأنك من أترابنا، وقد سألتني أن أريك الفتاة التي شغلت أفكاري، فانظر إلى واجهة المخزن، وتمعن في الفتاة الهيفاء الشقراء الجميلة الثياب اللطيفة القوام، هل رأيت أحسن منها خلقا وتكوينا؟
وكان المخزن المذكور معدا للخياطة وعمل برانيط النساء، فتقدم همام ينظر، فرأى خمس بنات جالسات حول مائدة مستديرة يشتغلن، فأبصر فيهن اثنتين بغير حسن، فصرف نظره عنهما إلى الثالثة، وكانت سمراء اللون، قصيرة القامة، ممتلئة الجسم، لا تتجاوز السادسة عشرة من السن، سريعة الحركة، لينة الجانب، تسطع على وجهها أنوار الصحة والعافية، فراقت في عينه.
وكانت البنت الرابعة أكبر من الثالثة سنا، ويظهر أنها المتقدمة عليهن جميعا في العمل، كانت شقراء اللون، طويلة القامة، ليس فيها شيء من البهاء والصباحة، وعمرها يبلغ الثلاثين، وشعرها كثيف أشقر مسترسل، وثيابها من الحرير الأزرق معقود ببنود ملونة، وفي أذنيها الحلق، وفي عنقها سلسلة مدلاة على صدرها، وتحت نهدها ساعة صغيرة معلقة بالسلسلة، وفي أصابعها الخواتم المتنوعة بالأحجار الكريمة، فلو رآها أحد لأكبر أنها تكون قد أصابت هذه الجواهر بشغل الخياطة، وهو لا يكاد يفي بمصروف زينتها، وعلم أن لا بد أن يكون لها دخل آخر. فهذه كانت الفتاة التي راقت في عين سعيد فوقف ينظر إليها.
وكانت في آخر المائدة البنت الخامسة بمعزل عن أخواتها، وهي فتاة لطيفة الذات، دقيقة القوام، لابسة ثيابا سوداء، كانت جالسة تشتغل ووجهها محول عن الباب، فلم يتيسر لهمام رؤيتها، وكان قد دقق النظر، فلما انتهى من المعاينة تباعد قليلا عن مكانه، والتفت إلى سعيد يقول له: قد انتقدت الوجوه، فلم أجد صاحبتك الشقراء على شيء من الحسن والجمال، وهي قد بلغت الثلاثين ولونها زاه. وأما شعرها الكثيف فما أظنه إلا مستعارا، وأنا أشبهها بالطاووس؛ لتعدد ألوان ثيابها، أو كالحرباء يتلون جلدها. فتكدر سعيد لسماعه هذا الحكم، وتأخر إلى الوراء بعض خطوات، فقال له همام: لئن كدرك كلامي فقد وجب علي قول الحق، فأنتم معشر الفتيان تنخدعون بسهولة، وتغركم كثرة الشعر، وزينة الثياب، والتبييض والتحمير، فتنشغلون بالعرض عن الجوهر، وأما العاقلون العارفون نظيري فلا يلتفتون إلى تبرج المرأة وزينتها بل إلى نفسها، فلو أنك ذكرت لي تلك الفتاة السمراء الجالسة بقرب حبيبتك الشقراء لحكمت لك بإصابة الرأي وصحة الذوق وحسن النظر، فإنها بالحق تساوي ألف واحدة من صاحبتك التي افتتنت بها.
فنظر سعيد إلى الفتاة السمراء التي أشار إليها همام، فلم ترق في عينه وقال ساخرا: أتستلطفها ولا تنظر إلى رثة ثيابها وقصر قامتها؟! فهي والله لا تجدر بأن تكون خادمة لصاحبتي البهية المشرقة النظيفة الثياب المزينة بالحلي الذهبية.
قال همام: لا يعيبها حقارة ثوبها، فنحن في حديث الجمال لا في حديث الغنى، وكفى السمراء فوزا على صاحبتك الشقراء بصغر السن وملاحة الفم، فهي لا تزيد على الثامنة عشرة، وعلى وجهها علامة الصحة والقوة، وتلك من الصفات المحمودة المرغوبة في المرأة.
قال سعيد: أي حسن لها وهي بغير حلي وحلل؟! أكان التجرد من الزينة محبوبا في النساء؟ أوتجهل أن الملابس الباهرة تكسب المرأة حسنا فائقا وجمالا رائعا، وتزيدها جلالا وإشراقا؟!
قال همام: قد اختلفنا، وللناس فيما يعشقون مذاهب، فلا سبيل لأن أقنعك بالقول حتى نحكم بيننا رجلا آخر.
قال سعيد: ربما كان انشغافي بالشقراء للمشاكلة في اللون بيني وبينها.
صفحة غير معروفة