يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ؛
9
فإن الآية الأولى تعلي من شأن النفس اللائمة لصاحبها، المؤنبة المحاسبة له على كل ما يصدر منه، وهي النفس الكاملة في الاصطلاح الملامتي. وتذكر الآية الثانية من صفات عباد الله الذين يحبهم ويحبونه أنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، وأنهم في جهادهم في سبيل الله وإخلاصهم في ذلك الجهاد لا يخافون في الله لومة لائم ولا يكترثون بمدح الناس وذمهم. فإذا فهمنا الجهاد بالمعنى الصوفي أو الملامتي - أعني جهاد النفس - أدركنا أن الآية تشير إلى أخص صفات الملامتية، وأنها تصلح لأن تتخذ أساسا لمذهبهم وتكون مصدرا لاسمهم. ومما يعزز هذا الفرض قول حمدون القصار - وهو من أكابر مشايخهم وأوائل مؤسسي فرقتهم - وقد سئل عن طريق الملامة فقال: «ترك التزين للخلق بحال وترك طلب رضاهم في نوع من الأخلاق والأحوال، وألا يأخذك في الله لومة لائم.»
10
ولكن ما المراد بالملامة التي ينتسب إليها الملامتية؟ أهي لوم الملامتي نفسه، أو لوم الناس إياه، أم لوم الملامتي الدنيا وأهلها؟ أما لوم الدنيا فليس من نظام الملامتية في شيء لأن في تعاليمهم الصريحة النهي عن ذم الدنيا. رأى أبو حفص النيسابوري بعض أصحابه وهو يذم الدنيا وأهلها فقال: «أظهرت ما كان سبيلك أن تخفيه. لا تجالسنا بعد هذه ولا تصاحبنا.»
11
وأما المعنيان الآخران فيدخلان في جوهر الفكرة الملامتية وإليهما يشير كثير من تعريفاتها. ذلك أن الملامتي لا يرى لنفسه حظا على الإطلاق ولا يطمئن إليها في عقيدة أو عمل ظنا منه أن النفس شر محض وأنها لا يصدر عنها إلا ما وافق طبعها من رياء ورعونة؛ ولذلك وقف منها دائما موقف الاتهام والمخالفة، وهذا هو المراد بلوم النفس.
12
ومن ناحية أخرى يرى الملامتي أن معاملته مع الله سر بينه وبين ربه لا يصح أن يطلع عليه غيره، فهو حريص على كتمان ذلك السر، غيور على محبوبه أن يطلع الخلق على صلته به، فهو يظهر للخلق بآداب العبودية ويحفظ سره مع الله. بل إن الملامتية - خوفا من أن تنكشف أحوالهم وأسرارهم التي يضنون بها على الخلق، وخشية من أن يتسرب الغرور إلى نفوسهم إذا ظهروا للناس بما يوجب مدحهم - تعمدوا فعل ما يجلب عليهم من الخلق السخط والازدراء ويرسل ألسنتهم بالذم والتأنيب. وهذا هو لوم الناس إياهم. ويشير إلى هذا المعنى قول بعضهم: «الملامة ألا تظهر خيرا ولا تضمر شرا.»
13
صفحة غير معروفة