54 - وهو الأباوردي الذي أشار إليه الهجويري وأبو نعيم - وعليا النصرابادي. وهذا الأخير من نيسابور أيضا ، ونصراباد حي فيها. ولكننا لا نعلم شيئا عن هذين الشيخين، وأغلب الظن أنهما لم تكن لهما شهرة خاصة ولا حظ كبير في حركة التصوف بنيسابور ولا في نشأة أبي حفص الملامتية.
وقد كان لأبي حفص منزلة عظيمة في نفوس النيسابوريين والبغداديين على السواء، فإن الخطيب البغدادي يحدثنا أنه: «لما ورد أبو حفص بغداد اجتمع إليه من كان بها من مشايخ الصوفية وعظموه وعرفوا له قدره ومحله.» وقد ذكر الخلدي أنه سمع الجنيد يقول وقد ذكر عنده أبو حفص النيسابوري: «كان رجلا من أهل الحقائق ولو رأيته لاستغنيت، وقد تكلم من غور بعيد. ثم قال: كان (أي أبو حفص) من أهل العلم البالغين، وأهل خراسان شيوخهم وأحوالهم وأمورهم وحقائقهم بالغة جدا.»
55
ولا بد أن بعض الأفكار المتصلة بالفتوة، ولا سيما فكرة التضحية بالنفس وإيثار الغير عليها، قد تسربت إلى رجال المدرسة النيسابورية بطرق لا ندري الآن تحديدها، واكتسبت على أيديهم معاني صوفية أخرى، مما جعل الفتوة في نظرهم مثالا أعلى في الحياة الروحية، كما كانت من قبل مثالا أعلى في الحياة الاجتماعية. ومما له مغزاه أننا نجد فيما نعرفه من تاريخ حياة الملامتية الأول أمثال أبي حفص وحمدون القصار وغيرهما كثيرا من الأقوال في الفتوة الصوفية التي تخصصوا في فنونها وأساليبها واعتبروا دون سواهم المبرزين فيها، ففي أبي حفص يقول أبو عبد الرحمن السلمي: «سمعت عبد الرحمن بن الحسين الصوفي يقول: بلغني أن مشايخ بغداد اجتمعوا عنده (عند أبي حفص) فسألوه عن الفتوة، فقال: تكلموا أنتم فإن لكم العبارة واللسان، فقال الجنيد: الفتوة إسقاط الرؤية وترك النسبة. فقال أبو حفص: ما أحسن ما قلت، ولكن الفتوة عندي أداء الإنصاف وترك مطالبة الإنصاف. فقال الجنيد: قوموا يا أصحابنا فقد زاد أبو حفص على آدم وذريته.»
56
وهذا اعتراف من الجنيد بأسبقية أبي حفص في ميدان الفتوة. وإذا قارنا بين عبارتي الرجلين تبين لنا الفرق بين وجهتي نظرهما في هذه المسألة: فالجنيد يرى الفتوة في إسقاط الرؤية؛ أي في عدم النظر إلى الأعمال نظرة اعتبار وتقدير، وترك النسبة؛ أي إسقاط العلائق والروابط التي تربط الإنسان بأي شيء أو أي موجود غير الله؛ وعلى ذلك فالفتوة عنده هي الزهد الكامل. أما أبو حفص فيرى الفتوة في أداء ما يراه الصوفي إنصافا وعدلا؛ أي القيام بجميع الواجبات الشرعية والاجتماعية بدون أن يطالب القائم بها بإنصاف من جانب الشرع أو من جانب المجتمع؛ أي إن الفتوة عنده هي التضحية الخالصة.
ومما يؤيد ما ذكرناه أيضا ما حكاه الخطيب البغدادي من أن أبا حفص لما أراد الخروج من بغداد شيعه من بها من المشايخ والفتيان، فلما أرادوا أن يرجعوا قال له بعضهم: دلنا على الفتوة ما هي، فقال: الفتوة تؤخذ استعمالا، معاملة لا نطقا، فعجبوا من كلامه.
57
أي أن الفتوة نظام أو أسلوب من الحياة يحياها الصوفي - وهي حياة الملامتية - لا نظرية تشرح ويتحدث عنها.
ومما له مغزاه أيضا أن أبا حفص قد التقى بأحمد بن خضرويه (240ه) الذي قصده من بلخ، وكان كما يقول المترجمون له: «كبيرا في الفتوة.» وشهد له أبو حفص عندما قال: «ما رأيت أحدا أعلى همة ولا أصدق حالا من أحمد بن خضرويه.» ويقول فيه السلمي: «وهو من مذكوري مشايخ خراسان بالفتوة.»
صفحة غير معروفة