هذه لمحة خاطفة من تاريخ اليهود في القرنين الأخيرين قبل الميلاد. وفي القرن الأول بعده، وهي في حد ذاتها كافية لإظهار تفكك اليهود في هذه الحقبة من تاريخهم، وتبيان درجة التشويش والفوضى في صفوفهم، وكيف تعارضت أهواؤهم وتشعبت آراؤهم وتباينت مذاهبهم، فأصبحوا لا تجمعهم جامعة ولا يستقيمون على وجه يعتمدون عليه، وخاب رجاء الصالحين منهم وأخفقت آمالهم، ولم يبق لهم في البشر رجية، فباتوا ينتظرون عملا إلهيا، مسيحا يوطد أركان ملكوت الله على الأرض، وأمست نبوات الأنبياء ولا سيما أشعيا وحبقوق أحب ما في الأسفار إليهم.
الفصل الرابع
المكشوف على ضوء المعروف
خرائب أخوية منظمة
وليست خرائب قمران خرائب قرية فلسطينية عادية تتألف من عدد كبير أو قليل من المساكن العائلية والأبنية العمومية والأسواق والباحات والأزقة، وإنما هي بقايا مؤسسة جماعية لها شبكة مياه متعددة الفروع، ولكنها منسقة مرتبة ومعدة لتأمين المياه لعدد كبير من الأفراد في وقت واحد. فهنالك الخزانات والصهاريج والأقنية والأحواض والأجران المختلفة، وجميعها مربوط بعضه ببعض معد لعمل مشترك. وهنالك المشاغل لصنع الأواني وإعداد ما يلزم لجماعة من الناس منكفئة على نفسها منعزلة عن الغير، مواخير ومصانع لتطريق النحاس وللحدادة، ومطاحن وأفران ومخازن للإعاشة. وهنالك المغاسل المشتركة والمطبخ وغرفة الطعام وغرفة الكتابة وقاعات الاجتماع. وفي المقبرة ما يؤيد هذه الحياة الأخوية المشتركة، فهي تختلف عن سائر مقابر هذه الفترة، وفيها ما يدل على اتباع خطة معينة في التكفين والتوجيه والدفن.
وفي موقع هذه الخرائب ما يتفق كل الاتفاق مع ما جاء في كلام بلينيوس الأكبر عن جماعة من الحاسيين أقاموا في هذا المحل نفسه في عصر بلينيوس؛ أي: في القرن الأول بعد الميلاد. فما يقوله عن هؤلاء لا ينطبق إلا على أخوية قمران. فليست هنالك أية خرائب أخرى بين عين جدي وأريحا تصح عنها ملاحظاته سوى خرائب قمران. وقد أوردنا ما قاله في فصل سابق فليراجع في محله.
الكهوف مساكن ومخابئ
وليس في خرائب قمران مساكن أو غرف للنوم، فلا بد والحالة هذه من مساكن وغرف يأوي إليها أفراد هذه الأخوية. وقد تبين مما تبقى في الكهوف المجاورة من أدوات ما يدل على أنها كانت في زمن الأخوية مساكن يلجأ إليها هؤلاء النساك، ولا يمنع هذا القول وجود خيام أو أنواع أخرى من المساكن بالإضافة إلى الكهوف.
ولا يرى رجال الاختصاص رأي سوكينيك العالم اليهودي، فلا يعتبرون هذه الكهوف «جنازات» حفظ فيها ما أهمل من الأسفار؛ فإن ما وجد فيها كثير جدا يفوق عدده ما يهمل فيحفظ. وفيها أيضا من المخطوطات ما لا علاقة له بالأسفار، وما لا يستوجب الإهمال والاستيداع والتجنيز. وهم يرجحون أن الدروج والمخطوطات حملت إلى هذه الكهوف، وخبئت بها لدى خروج اليهود على الرومان وإعلان ثورتهم الكبرى في السنة 66 بعد الميلاد.
دروج التوراة
صفحة غير معروفة