ولما بلغ مراده من امتلاك قيادها والتسلط على أفكارها، طفق يعد لنفسه سبيل الحصول على ما أراد من التقدم والارتقاء، حتى أصبح حاكم روسيا المطلق، يدير شئونها الداخلية وسياستها الخارجية كيفما شاء لا ينازعه منازع. وتعين قائد الجيش العام وأمير البحر الأول، وبات إمبراطور روسيا بالفعل إن لم يكن بالاسم. واستحوذ على كل ما كان في طاقة كاترين أن تمنحه من الألقاب السامية ، والوسامات الرفيعة الشأن، والقصور والعقارات والتحف والنفائس، وجادت عليه فوق هذه كلها بملايين الريالات؛ فكانت حلله الرسمية تسطع بالوسامات المرصعة بأغلى الحلى والجواهر. وخصه جوزيف الثاني بلقب أمير الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وأهدت إليه الإمبراطورة صورتها في إطار مرصع بالألماس، وهو امتياز لم يظفر به غيره من معشوقيها سوى غريغوري أورلوف. وفي أقل من سنتين ارتقى هذا الجندي ارتقاء منقطع النظير، وبات أوفر ثروة وأعرض جاها وأسمى مقاما من جميع رجالات أوروبا. وهذا كله ناله لأن أجمل النساء صورة وأشرفهن رتبة عشقته على قبح شكله وسوء خلقه.
على أن هذا كله لم يكن كافيا لإشباع مطامعه الفائقة الحد، فقال في نفسه: ها أنا الآن إمبراطور روسيا بالفعل، فلماذا لا أكون إمبراطورها بالاسم وأتزوج علانية المرأة التي قلبها في يدي أحوله كيفما شئت؟!
وقد سنحت له فرصة السعي لإدراك هذه الأمنية يوم غادرت الإمبراطورة قصرها إلى أحد الأديار لتقضي أياما في الصوم والاعتكاف للتكفير والاستغفار. فصحبها عشيقها وحاول إرغامها على الاعتراف به قيصرا لها، وجعله زوجا بدل عشيق. فخلع حلته الرسمية المتلألئة بالحلى والجواهر، وارتدى ثوب راهب وشرع يتلو المزامير في فجر كل يوم، وينشد تسابيح الصلاة في المساء، حتى رأى أن الفرصة سانحة والوقت مؤاتيا، فمثل أمام الإمبراطورة وعليه علامات النحول والهزال من مواصلة الصوم والتقشف، وقال لها إنه صمم على اعتزال كل ما في العالم من زخارف وأباطيل، والتماس سلام القلب وراحة الفكر في عيشة الزهد والتفرغ لعبادة الله. وما كان أشد خيبة أمله وضياع أمنية قلبه عندما فاجأته الإمبراطورة بما لم يدر قط في خلده. لم تتوسل إليه أن يعدل عما نوى، ولا عرضت عليه أن يتخذها زوجة له كما توقع، بل صوبت رأيه ووافقته عليه من كل قلبها، وأكدت له أنه بعمله هذا جار على مقتضى الحكمة؛ إذ هو ساع للحصول على خلاص نفسه، وذلك خير وأبقى. وما أبطأت أن أسرعت في الرجوع إلى قصرها، وغادرته يصلى نار الخيبة.
وبعد ثلاثة أسابيع دهشت إذ رأت الراهب القانت الزاهد داخلا إليها، متجملا بأغلى حلة وأنفس رداء، وكانت جالسة تتسلى بلعب الورق هي وبعض سيدات قصرها، فجلس بجانبها وحدق إلى الإمبراطورة المدهوشة بهذه المفاجأة، ثم مد يده وتناول الورق المطبق أمامها على المنضدة وفتحه، وأراها الورقة المفتوحة، وكانت مما تعده فألا حسنا، فهشت له وبشت وقالت: إنك دائما سعيد الطالع! وما لبث أن استرد ما كان له عليها من مطلق السلطان.
على أنه لم يغفل عن استخراج العبرة البالغة من هذه الحادثة، بل اتضح له أن امتلاكه لقلب الإمبراطورة الكثير التقلب لم يكن امتلاكا ثابتا دائما كما ظن. فقد سبق لها أن سئمت وملت كثيرين غيره من العشاق الذين كانوا أشد منه اجتذابا لقلبها وتسلطا على أفكارها؛ فمصيره من كل وجه عرضة لأن يكون كمصيرهم. ومنذ الآن رأى عيني كاترين تبعثان بنظرات الارتياح والاستحسان إلى شاب جميل الطلعة اتخذته كاتبا لها، فتوقع أنها تعده لأن يكون خلفا له. وقد وقع ما كان يخشاه سريعا؛ فإنه تغيب بضعة أسابيع للتفتيش في مقاطعة نوفغورود، وعاد فوجد ذلك الشاب حالا محله.
فهاج بركان غيظه وغضبه على كاترين، وأخذ يقذفها منه بحمم المساب والشتائم، حتى أصيبت من جرائها بأعراض هستيرية، واضطرت لشدة خوفها منه أن تتقي غضبه برد ما كان له من السلطان ورفعة الشأن، ولكنها أفرغت قلبها من حبها له وهيامها به. وهذا ما كان قاصرا همه عليه. فليكن غيره حبيبها وعشيقها ما دام هو قادر أن يكون إمبراطورا. فاكتفى بنيله هذه البغية، وعاد إلى سابق عهده رسول غرام كاترين وسفير عشقها، متمليا لذة تمهيد السبيل لعشاقها كما كان يتمتع بها عندما كان ينعم هو نفسه بمحبتها له.
وما خسره من محبتها له استرد أكثر منه من حيث استئثاره بها وتسلطه عليها. ومن الغريب أنه فاق ما كان عليه من قبل في تملقها وإطرائها ولو بلسانه لا من جنانه. فقد كتب إليها مرة وهو يقود الجيش في إحدى المعارك يقول: «أكتب إليك على بعد آلاف من الأميال وقصارى ما تشتهيه نفسي أن أتفانى في خدمتك، وأضحي بكل عزيز وغال في سبيل رفاهيتك وسعادتك، وتوفير أسباب مجدك وعظمة شأنك، أيتها الأم الحنون، لقد أسبغت علي كل ما عندك من النعم والهبات ولم أزل حيا، ولكن حياتي هذه ستظل وقفا على خدمتك.»
وكانت كاترين تجيبه عن كتبه بمثلها من حيث المجاملة والمصانعة، كقولها له في إحدى رسائلها: «أراك في كتبك إلي تحاول التعبير عما أروم أن أقوله لك. فثق يا صديقي أني لو استطعت لضمنت رسالتي إليك أرق التعابير الدالة على ثبات صداقتي لك.»
وبناء على شدة ثقة بتيومكين بصداقة كاترين، أطلق لنفسه عنان التمادي في ما أراد من الاستئثار بالسلطة والانبعاث في الإسراف والتبذير والتمرغ في حمأة الشهوات الدنسة، وأصبحت أعماله الشاذة ظاهرة للعيان، دلالة على أنه بلغ في غرابة الأطوار مبلغا أشبه بالجنون، بل هو الجنون بعينه. وبينما كان يقود الجيش في محاربة تركيا، كان حسب رواية أحد المؤرخين يقضي معظم وقته في صقل جواهره، والبعث بالهدايا إلى موضوع حبه وغيرها من سيدات القصر. وقد استصحب خمسمائة خادم ومائتي موسيقي، وجوقا كبيرا للرقص والتمثيل، ومائة مطرز وعشرين جوهريا.
ومن غرابة أطواره أنه كان كثير التقلب سريع التحول في آرائه وأفكاره، وكأنه المعني بقول الشاعر العربي:
صفحة غير معروفة