خوري يوسف. يا خوري يوسف.
رشت على وجهه الماء، وسقته من الإبريق، فانتعش، ثم ساعدته، فاستوى واقفا. - ماذا جرى، يا خوري يوسف؟ ولماذا لم تركب في العربة؟ هل جئت ماشيا من بيروت؟ - كلا، يا بنتي. خرجت من القرية وبي صداع شديد، فمشيت أستنشق الهواء. كثر الله خيرك، يا بنتي. لا، لا ، سأذهب إلى بيتي. عودي أنت إلى بيتك، وصلي من أجلي. صلي من أجلي. أما أنا فسأذهب وحدي، سأمشي قليلا، عل هواء الليل يشفي صداعي. أعطيني الإبريق.
شرب الخوري يوسف، وأعاد الإبريق إليها شاكرا.
عادت المرأة إلى بيتها، ومضى الكاهن في سبيله، فاستمر ماشيا حتى وصل إلى زيتونة خارج القرية منفردة. وكان القمر قد تكبد السماء، فلحف تلك الشجرة بضيائه، فتألف تحتها من الأشعة والأخيلة ما يستغوي التقي الطالب في قلب الطبيعة مكانا للتأمل. وهناك، تحت تلك الزيتونة على سجادة من الأخيلة والأنوار حاكها القمر، خر الكاهن ساجدا، وطفق يصلي. •••
بعد أن ترك الكاهن العربة، انتقل أبو طنوس إلى جانب الحوذي، وسأله: أتعرف هذا الكاهن؟ - ومن لا يعرفه في الجبل؟ - وما اسمه؟ - الخوري يوسف المشهور. - المشهور! ما سمعت قبل اليوم بهذه العائلة. - المشهور، يعني يا ... سيدي، المعروف عند كل الناس. وكيف لا تعرفه؟ ألم يكن لك مرة دعوى في الحكومة؟ أما احتجت مرة إلى كتاب توصية من المطران إلى الدير أو القائمقام؟ ألا تعرف تلك الدار الكبيرة، القائمة على رأس الجبل الذي مررنا تحته؟ الخوري يوسف هو يد المطران اليمنى، وأذنه اليسرى، وعيناه الاثنتان. هو منفذ أوامر سيدنا، وكاتم أسراره. وسيدنا، طول الله عمره، لا يرى غير ما يراه الخوري يوسف المشهور- المشهور بثروته، ودهائه، ونفوذه، وقلة علمه، وقصر نظره - كما يقول الشيخ ... وعنده أحسن نبيذ في الجبل. كيف لا تعرفه؟ هل أنت غريب؟ أم هل أنت متجاهل؟ - وهل هو متزوج؟ - نعم، وله ولدان الواحد يدرس اللاهوت في روما، والثاني يدرس فنون الغرام على بنات بيروت، ويخسر من عقله وصحته في كل أمثولة يتعلمها.
قدم أبو طنوس سيكارة إلى الحوذي، ثم أشعل سيكارته وهو يقول: «العقل زينة الإنسان، والصحة أحسن من العشق بزمان ... بالله عليه تسمعنا صوتك.»
تنحنح الحوذي، ثم بصق، ثم بصق، ثم انتهر الخيل وهو يكرر العملية؛ تمهيدا للموال البغدادي، ثم أطلق صوته الحماري في الفضاء، فرقصت الأطيار، وتمايلت طربا غصون الأشجار. وبينما هو طائر على أجنحة «مواله»، غير مكترث بالقمر الذي سد أذنيه بغيوم هي كالقطن بيضاء، أخرج أبو طنوس أوراقا وقلما من جيبه، وكتب كلمة على ورقة، ثم طواها وأعطاها إلى الحوذي؛ قائلا: «أكون ممنونا إذا وصلت هذه الورقة إلى الخوري يوسف.» - على عيني ورأسي! - وهذا بشلك أجرتك. - كثر الله خيرك! - غدا صباحا.
استمرت العربة سائرة في نور القمر الفياض، وهي تختفي تارة بين أشجار التوت، وطورا في غابة من الصنوبر، حتى وصلت إلى القرية ... فوقفت هناك، فنزل أبو طنوس، وأنزل أغراضه كلها، فتأبط بعضها، وحمل البعض الآخر على كتفه في عقفة عصاه، وهو يودع الحوذي، ويذكره بالرسالة إلى الخوري يوسف. - كن مطمئن البال. ستصله إن شاء الله غدا قبل القداس!
أحيا الخوري يوسف ما تبقى من الليل في الصلاة، فظل ساجدا تحت الزيتونة إلى أن ودع القمر السماء، فنهض إذ ذاك وهو يشعر بألم في ركبتيه، ويرتعش من هواء الفجر البارد.
هي ساعة الفجر الواقف بين القمر والشمس، يشيع نورا، ويبشر بنور. هي ساعة الفجر التي تتقدم الحادث الذي يحدث كل يوم، منذ كانت الأرض، ويظل جديدا؛ فكل نهار هو غير النهار السابق، كل نهار هو نهار جديد.
صفحة غير معروفة